|
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد : فقد
تناقلت وسائل الإعلام أنَّ بيتر ماندلسون المفوض التجاري الأوربي هدد بتقديم
شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الدول التي تسمح بالمقاطعة ، مدعياً أنها
تخالف اتفاقات تلك المنظمة ، التي وقعها عدد من الدول العربية التي تنشط فيها
حملات المقاطعة حاليا وعلى رأسها بالطبع السعودية وبقية الدول الخليجية .
ومن عجيب قدر الله عز وجل ، أنَّ أول مثال للمقاطعة الاقتصادية الشعبية - ضد
دولة أخرى - في التاريخ الحديث يذكرها بعض القانونيين ، هي المقاطعة التي
قرّرتها جماعاتٌ في أصحاب الحرف الدنماركيين للبضائع الألمانية ، احتجاجاً على
الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الألمانية للحدّ من استعمال اللغة الدنماركية
في مقاطعة شليسفيغ الشمالية .
(1)
لم أتعرض للتأصيل الشرعي في الفقه الإسلامي
لمسألة المقاطعة الاقتصادية بوصفها وسيلة ضغط على من ينال من الإسلام وأهله ؛
لأنَّ المسألة عولجت من الناحية الشرعية بجملة من الفتاوى والمؤلفات التي تبين
المشروعية ، وتؤكِّد ذلك بالآثار والنتائج ، كما أنَّ الأمة اتخذت قرارها في
المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الدنمركية ، فلم تحوجنا إلى إعادة التأصيل الشرعي
ولله الحمد والمنّة . كما لن أتحدث في هذا المقال عن العدالة الإسلامية في
الأحكام الشرعية مع غير المسلمين ، مع أنَّه موضوع جدير بالإبراز والتكرار في
مثل هذه المرحلة التي تخلط فيها الأوراق من غير المختصين ؛ وإنَّما لم أتحدث
عنه هنا ، لأنَّ المقاطعة الاقتصادية تفعيل لخيار مشروع لا يتنافى مع العدالة .
وإنَّما أردت كشف شيء من الجانب القانوني لهذه المسألة ، ولاسيما بعد أن سلك
الحزب الحاكم في الدنمارك مسلك المكابرة والبحث عن المسوغات بعد الوقوع في
المشكلة ؛ واستنجاده بالاتحاد الأوربي لإخراجه من ورطته ، مع ما يثار حول حق
مزعوم في رفع دعوى ضد المملكة العربية السعودية بشأن المقاطعة كما مرّ . ولا شك
أنَّ الموضوع أكبر من أن أَكشفه على حقيقته فيما يتعلق بالسلوك الحكومي
الدنمركي في مقال ، ولكن هذا لن يمنعني - إن شاء الله تعالى - من الحديث عن هذا
الموضوع فيما يتعلق بالجهود الإسلامية ، من خلال نقاط واضحة بعيدة عن التعقيد
القانوني مع حذف التوثيق العلمي ، مساهمة في نشر الوعي العام بمثل هذه القضايا
، وتوضيحاً لبعض حججنا نحن المسلمين في تعاملنا العادل مع إجراء المقاطعة
الاقتصادية الشعبية ، وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يمنع مثل حدوث هذا التوتر
مستقبلا .
(2)
ومسألة المقاطعة الشعبية من المسائل التي اختلف
فيها القانونيون الدوليون ؛ وفي عالم شرّاح القوانين ، فإنًَّ المسائل
القانونية الدولية شائكة ، والاختلاف القانوني - بوجه عام - لا يقارن بالاختلاف
في المسائل الفقهية الخلافية لدى فقهاء المسلمين ، لأسباب عديدة أهمها : أنَّ
مرجعية المسلمين - كلِّهم - واحدة وهي الكتاب والسنة ، فهما محلّ إجماع بينهم
كما نصّ على ذلك علماء الأصول حتى عند المبتدعة كما يقول ابن تيمية رحمه الله ؛
بينما لا توجد مرجعية متفق عليها بين القانونين ، ودراساتهم في صورتها العلمية
الموضوعية عقلية محضة ، ولذا ربما تتعدّد بتعدّد المدارس القانونية وخلفياتها
الفكرية والثقافية والعرفية ، وما يتفرّع عنها ؛ بل ربما تغير حكمها من جذوره
لتقلبات المزاج السياسي أو الشعبي (تغير الرأي العام) ، وهذا موضوع - أيضاً -
يطول الحديث فيه ، وله مباحث خاصّة في بعض كتب القانون الغربية .
ولكي تتضح الرؤية القانونية في هذا الموضوع ، رأيت بيانه من خلال النقاط الآتية
:
أولاً : المراد بالمقاطعة الاقتصادية
(Boycott) :
ورد التعبير بـ (المقاطعة الاقتصادية) في المادة (16) من عهد عصبة الأمم ، كما
ورد في المادة (41) من ميثاق الأمم المتحدة . ومن أشهر تعريفاتها ، أنَّها :
"إجراء تلجأ إليه سلطات الدولة أو هيئاتها
وأفرادها المشتغلون بالتجارة لوقف العلاقات التجارية مع دولة أخرى ومنع التعامل
مع رعاياها بقصد الضغط الاقتصادي عليها ، رداً على ارتكابها لأعمال عدوانية"
، وهذا التعريف يتفق مع قاموس القانون الدولي والقاموس الدبلوماسي . أو هي كما
يقول جيرهارد فان غلان : "شكل حديث من
الإجراءات الانتقامية ، يشمل تعليق التعامل والعلاقات التجارية من جانب رعايا
الدولة المتضرِّرة مع رعايا الدولة المسيئة "
.
ويفرِّق القانونيون الدوليون بين وسيلتي الضغط الاقتصادي الأخريين : (الرد
بالمثل) و (الأعمال الانتقامية) ، بأنَّ المقاطعة الاقتصادية قد تصدر من قبل
الأفراد العاديين ، بينما لا يصدر (الرد بالمثل) و (الأعمال الانتقامية) إلا عن
طريق الدول والحكومات . ومثلهما (الحظر الاقتصادي) الذي يعني منع الصادرات
المتجهة إلى دولة أو مجموعة دول معينة بصفة كاملة أو جزئية . ومن هنا جاء
التفريق بين المقاطعة الاقتصادية الشعبية والرسمية كما سيأتي إن شاء الله تعالى
.
ثانياً : أقسام المقاطعة الاقتصادية من جهة مصدرها :
يقسِّم القانونيون المقاطعة الاقتصادية
من جهة مصدرها ، إلى ثلاثة أقسام :
الأول :
المقاطعة الاقتصادية الأهلية (الشعبية) . وهي
التي يفرضها ويتولّى تطبيقها الأفراد أو الهيئات غير الرسمية ، بدافع من
عواطفهم وحماسهم الوطني - مثلاً - فيقرِّروا إيقاف التعامل بالبضائع والمنتجات
المستوردة من الدولة المعتدية وإيقاف التصدير إليها ، وقد يشمل ذلك الامتناع عن
التعامل مع رعاياها ، كما يقول بيير رينوفان وغيره . وأمثلتها كثيرة جداً ،
فمنها ما سبق ذكره في أول المقال عن مقاطعة الدنمركيين للألمان بسبب الحد من
استعمال اللغة الدنمركية في في مقاطعة شيلسفسغ . ومنها مقاطعة الشعب الصيني
للبضائع الأمريكية عام 1906م ، بسبب وضع قيود على هجرة الصينيين واستيطانهم
فيها . وقد تكررت من الصينيين ضد اليابان ما يقارب تسع مرات . ومنها مقاطعة
الأتراك 1908م للبضائع النمساوية لضمها إقليما بوسنويا ، واليونانية عام 1909 -
1910م لتقديمها مساعدات للثوار الكريتين . وكذلك مقاطعة الهنود الوطنيون بقيادة
غاندي للمنتجات البريطانية عام 1920م . ومنها مقاطعة الحركة الشعبية الواسعة
للمنتجات اليابانية ، التي تأسست قبيل الحرب العالمية الثانية ؛ وغيرها كثير .
الثاني :
المقاطعة الاقتصادية الرسمية (الحكومية) . وهي التي يتقرّر فرضها من قبل سلطات
الدولة المسؤولة ضد جماعات أو دولة معتدية . وهنا يفرِّق القانونيون بين
المقاطعة الرسمية في حال السلم ، والمقاطعة الرسمية في حال الحرب . ومن أمثلتها
المقاطعة التي فرضتها البلدان العربية على المنتجات الصهيونية في فلسطين
المحتلة ، تطبيقاً لقـرار مجلس جامعـة الدول العربيـة رقم16 ، الدورة الثـانية
في 2/12/1945م، بغرض إعاقة تمكين الصهاينة من تحقيق وطن قومي لهم في فلسطين .
الثالث :
المقاطعة الجماعية التي تقرِّرها منظمة دولية .
وهي التي تفرضها المنظمات الدولية استنادا إلى ميثاق المنظمة ، جزاء على انتهاك
الدولة للميثاق . ومن أمثلتها - التي سبقت ازدواجية المعايير والتأثير الأمريكي
على قرارات المنظمات الدولية - المقاطعة الاقتصادية التي قررتها الأمم المتحدة
على الصين وكوريا الشمالية عام 1951م ، وعلى جنوب أفريقيا عام 1962م . وهذان
القسمان الأخيران ، لا إشكال في قانونيتهما ، وهما محلّ اتفاق على ما يظهر ،
فيرون أنّ من حقّ الدول المتحاربة اللجوء إلى المقاطعة الاقتصادية وقت الحرب ،
وإن اختلفوا في تكييفها . وعلى كل حال فالذي يهمنا هنا هو القسم الأول .
ثالثاً : هل المقاطعة الشعبية تدخل ضمن مسؤولية الدولة التي وقعت فيها ؟
شكّك مارسيل سيبر أحد شرّاح القانون الدولي في استقلال المقاطعة الشعبية عن
المقاطعة الرسمية ، ولكنّ آخرين ، من أمثال شوارزنبرجر ، و لوترباخت ، رفضوا
هذا التشكيك ، وبيّنوا أنَّ الدولة لا تكون مسؤولة إلا عن تصرفات أعضائها
الرسميين . وهذا الرأي يؤيده كثير من القانونيين الدوليين ، وتؤكِّده السياسات
الدولية ، وما صدر فيها من قرارت كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وإن كانت بعض
الدول قد منعت المقاطعة الشعبية قانوناً ، لكونها كانت قد التزمت سياسة الحياد
كما في المرسوم السويسري الصادر عام 1939م الذي منع المواطنين من تبني المقاطعة
الاقتصادية ضد دول أجنبية . ومما يؤكِّد عدم مسؤولية الدولة عن المقاطعة
الشعبية التي تصدر من المواطنين ضد المنتجات الأجنبية لدولة ما ، بسبب موقفها
أو موقف شعبها من قضايا مسيئة إلى الشعب أو الأمة المقاطِعة - أنَّه لا يوجد
مستند قانوني دولي يحمِّل الدولة مسؤولية تصرف شعبي سلمي ، لم تشارك فيه السلطة
الرسمية ولم تدعمه أو تحرض عليه .
فيرى شوارزنبرجر أنَّ الدولة إنَّما تكون مسؤولة عن تصرفات أعضائها الحكوميين ،
ولكنَّها غير مسؤولة عن التصرفات التي تصدر من أشخاصٍ غير رسميين ؛ وأنَّ
المقاطعة التي تنظِّمها المؤسسات والتنظيمات الخاصّة في الدولة الديمقراطية ما
لم تشجعها الدولة ، أو أن يؤدي ذلك إلى قطع العلاقات ونقض الاتفاقيات التجارية
مع الدول التي خضعت صادراتها للمقاطعة . و يرى لوترباخت، أنَّه من الصعب تحديد
الأسس التي تقوم عليها المسؤولية الدولية عند عدم وجود اتفاقية تجارية أو عند
عدم مخالفة قواعد القانون الدولي الخاصّة بحماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم .
وأنَّ من الصعوبة أيضاً أنَّ نحدد كيف يمكن أن تكون الدولة مسؤولة مسؤولية
دولية بسبب المقاطعة الأهلية المفروضة على بلد آخر .
يقول جيرهارد فان غلان في بيان موقف القانون الدولي من المقاطعة الشعبية : "ما
دام هذا العمل يتم بصورة طوعية ولا يشتمل على أي ضغط أو إلحاح من الحكومة أو
على أيِّ إجراء رسمي لدعمه ، فإنَّ المقاطعة لا تُشكِّل مسؤولية على الدولة ،
وتبقى خارج نطاق القانون الدولي . لكن إذا تورطت حكومة الدولة المُتَضَرِّرة في
المقاطعة بأي شكل من الأشكال ؛ فإنَّ ذلك التورّط يخلق مسؤولية ويُمثِّل وسيلة
للمساعدة الذاتية . وإذا لم تكن الدولة المقصودة بالمقاطعة قد ارتكبت أيّ عمل
عدائي نحو الدّولة التي أعلنت المقاطعة ، اعتبر ذلك العمل (المقاطعة) عملاً غير
ودِّيٍّ ، وأثار احتمال احتجاجات شرعية من جانب الدولة التي يتأثر رعاياها
بالمقاطعة" .
بل إنَّ في القوانين والأعراف الدولية ما يسند المقاطعة الشعبية ؛ كما يقول قطب
العربي : "فالمتفحص لحقوق المستهلك كما أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في
قرارها رقم 248/39 الصادر في 9 إبريل 1985، يجد أن أبرزها هو الحق في الاختيار
؛ أي الحق في أن يكون المواطن قادرًا على الاختيار في مجال المنتجات والخدمات
المقدمة بأسعار تنافسية مع تأمين درجة الجودة الكافية . ولم تقيد الأمم المتحدة
هذا الحق بأي قيود سياسية . ويترتب على ذلك أنه يجوز للمستهلك بداهة أن يختار -
على سبيل المثال - السلع الوطنية تدعيما لاقتصاد الدولة التي ينتمي إليها .
وبالتالي فيكون له الحق في مقاطعة أي سلعة" .
ومن هنا يرى قطب العربي : أنَّ "هذا الموقف الأوربي يعتمد على قانون القوة و
(العين الحمراء) ، وليس قوانين منظمة التجارة ؛ فالمقاطعة التي تجري الآن هي
مقاطعة شعبية والمجمعات الاستهلاكية والمحلات التي تلتزم بها هي هيئات أهلية
تعاونية ، وليست وزارات حكومية ، ولا تتبع حتى هذه الوزارات ، حتى تشرع أوربا
سلاح منظمة التجارة في وجهها . كما أنَّ الحكومات العربية والإسلامية لم تعلن
المقاطعة بشكل رسمي ، وإن كان الكثير منها أخذ مواقف سياسية تفرضها عليه
التزاماته الدينية والأخلاقية، وتسمح بها الأعراف والقوانين الدولية . وفي هذا
الإطار، فإنَّ المستهلك العربي والمسلم ، حينما يقاطع السلع الدانماركية فهو
يمارس حقه في الاختيار . وهو لا يتعارض مع التزام دولته بفتح أسواقها أمام
المنتجات الأجنبية دون تمييز ضد هذه الأخيرة" .
ومن جهة السوابق في السياسة الدولية ، نجد المقاطعة الصينية الشعبية لليابان
عام 1931م . ومع أنَّ الحكومة اليابانية قد احتجت على ذلك باعتباره يمثل خرقا
للقانون الدولي وكانت الصين قد أيّدته رسمياً وحثّت الدول الصديقة لها على
تطبيق إجراءات اقتصادية مماثلة ضد اليابان ، وردت الحكومة الصينية رسمياً بأنّ
الأعمال السابقة التي قامت بها السلطات اليابانية تشكل خرقا أكثر خطورة لذلك
القانون . ومع ذلك قرّرت لجنة التسعة عشر التي شكلتها عصبة الأمم لدراسة تقرير
لجنة لايتون (التي حققت في ملابسات غزو اليابان لمنشوريا) أنَّ المقاطعة
الاقتصادية تمثِّل عملاً انتقامياً شرعياً (أي قانونيا) .
ومع أنَّ الحكومة الأمريكية قد تعرضت لضغوط شديدة من بعض أعضاء مجلس الشيوخ ومن
مجموعات خاصّة عديدة ، إلا أنَّها لم تتخذ أيّ إجراء رسمي إلى جانب المقاطعة ،
وأخيراً تولّت منظمات وطنية عديدة أمر المقاطعة ضدّ البضائع اليابانية ثم ضد
البضائع الألمانية (ينظر : القانون بين الأمم : 2/257) .
رابعاً : هل للمقاطعة مدة معينة ؟
لم يحدِّد القانونيون الدوليون المقاطعة الشعبية بمدّة زمنية معينة ، وإنَّما
اكتفوا ببيان أنَّ هذا الإجراء غالباً ما يكون لمدة زمنية مفتوحة ، يفترض أن
تنتهي بانتهاء الأسباب الباعثة على المقاطعة . كما بيّنوا أنَّ المقاطعة قد
تكون صعبة في حال وجود وضع اقتصادي لا يسمح بممارستها .
ومن الناحية التاريخية ، نجد أن المقاطعات الاقتصادية تفاوتت مددها ، فمنها ما
كان قصيرا ليس سوى أشهر ، ومنها ما امتدّ لسنوات ، كما المقاطعة الهندية
الشعبية للبضائع البريطانية التي نظمتها الحركة الوطنية الهندية بقيادة غاندي ،
إذ استمرت مدة اثني عشر عاماً ، من عام 192-1932م ، فكان لها أثر كبير ومدى
واسع من حيث سعة انتشارها وقوة فاعليتها في التأثير على بريطانيا . كما أنَّ
المقاطعة قد تتوقف لتوقف سببها أو لأمر آخر ، ثم تعود مرة أخرى ، ومن ذلك
مقاطعة الصينيين لليابان تسع مرات خلال عامي 198-1932م .
(3)
وأمَّا ما اتخذته المملكة العربية السعودية من
استدعائها لسفيرها (السحب المؤقت) في كوبنهاجن - وكذلك ما تبعتها فيه عدد من
الدول الإسلامية من مواقف مشابهة - فإنَّها إجراءات رسمية قانونية دولية تعبِّر
بها عن استيائها من تصرفات الحكومة ، إذْ جاءت في مقابل التعنت الرسمي الحكومي
الدنماركي بعد استنفاد جميع الوسائل والطرق الودية والقانونية السابقة ، فإن
رئيس الحكومة الدانماركي (راسموسن) سلك مسكاً مؤيداً للجناة ، ولم يتعامل حتى
وفق قواعد المجاملات ، إذ رفض استقبال وفدٍ من سفراء الدول الإسلامية لإبلاغه
بعِظم الجريمة وخطورة الوضع وما قد ينجم عنه من آثار على الصعيد الإسلامي ، كما
أنَّ رئيس الوزراء الدنمركي وملكة الدانمارك لهم ماضٍ غير مشرف في نظرتهم للدين
الإسلامي واستعداء الشعب على الإسلام والمسلمين .
كما لا يُعدّ استدعاء اللملكة لسفيرها
في الدنمارك إجراءً رسمياً ، لدعم المقاطعة ، لأسباب عديدة ، منها :
- تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ، القاطعة بأنَّ المقاطعة
شعبية وليست رسمية .
- أنَّ المقاطعة الشعبية سابقة لمسألة استدعاء السفير ، كما أنَّ بيان مجلس
الوزراء السعودي الذي أعرب فيه عن موقفه من موقف الحكومة الدنمركية من الرسوم
في جلسته السابقة لهذا القرار ، لم تصدر عنه أي قرارات بالمقاطعة ، كما لم تصدر
قرارات بذلك من أي جهة رسمية أخرى .
- أنَّ المقاطعة الاقتصادية للدنمارك شعبية إسلامية ، وليست شعبية سعودية فقط ،
مما يؤكِّد صلتها بالمجتمعات الإسلامية الأهلية ذاتها ، لا بل بالمؤسسات
الرسمية .
- كما تناقلت وكالات الأنباء أنَّ الحكومة الدنمركية نفسها نفـت الدعم السعودي
الرسمي للمقاطعـة ، ونقل ذلك عن وزير الخارجية الدانماركي بير ستيج موللر بعد
اجتماع طارئ للجنة السياسة الخارجية في البرلمان .
(4)
وأخيراً أود أن أخلص إلى بعض القضايا التي قد
يفتح الوعي بها آفاقا من إعادة الأمور إلى درجة من التفاهم بين الأمة الإسلامية
والأمة الدنمركية وغيرها ، والوصول إلى رؤية تبقي على مستوى من التفاهم
الإسلامي الغربي فيما يحقق المصالح المشروعة . وهي - في ظني - كما يأتي :
أولاً :
يجب أن يعلم الدنمركيون أنَّ الأمة الإسلامية استخدمت عدداً من الآليات الخاصة
، التي كانت مجدية لو أنَّ الحزب الحاكم في الدنمارك عمل وفق مسؤوليته الحكومية
ومصلحة شعبه من المسلمين وغير المسلمين ، ويكفي أن أُعيد الإشارة إلى المحاولات
الإسلامية الدبلوماسية التي قوبلت بالتجاهل حينا وبالرفض حينا من رئيس الحكومة
ذاته ، ويكفي منها رفضه حتى مقابلة الممثلين الرسميين لعدد من الدول الإسلامية
! كما أنَّ المدعي العام ضرب بالقانون الدنمركي - نفسه - عرض الحائط ، فرفض
قبول الدعوى التي قدَّمتها الجالية الإسلامية ضد الصحيفة .
ثانياً :
يجب أن يعلم الدنمركيون أنَّ تصريحات الملكة التي وصفت فيها الإسلام بالعدو ،
كان له أثر كبير في تهييج الأمة الإسلامية وإثارة غضبها . كما كان من الواجب أن
تكون الملكة أكثر مسؤولية في تصريحاتها بنظرتها الخاصة .
ثالثاً :
القوانين الدولية لا تمنع الشعوب من اتخاذها حقَّها في إعلان المقاطعة
الاقتصادية ضد من يسيء إليها ، كما لا تتحمل الجهات الرسمية مسؤولية دولية بهذا
الخصوص . كما أنَّ السوابق الدولية تؤكِّد حق الحكومات وليس الشعوب فقط في الحث
على المقاطعة الاقتصادية وتقنينها في حال الاعتداء عليها ، وليس اعتداء أشدَّ
على المسلمين من الاعتداء على الإسلام ونبي الإسلام . ولا يعلم معنى الاعتداء
الذي ارتُكِب ضد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخطورته في المجتمع الإسلامي
إلا من عرف الإسلام على حقيقته ، وعرف مكانة الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه
وسلم لدى المسلمين مهما كان مستوى التزامهم الديني .
رابعاً :
سيقع الحزب الحاكم الدنمركي في غلطة أخرى كبيرة ، وسيعالج الخطأ بالخطأ ، إذا
استطاع إيقاف الآخرين في الاتحاد الأوربي إلى جواره ، في تقديم دعوى ضد
السعودية ، وذلك بتأجيج نفوس المسلمين من الوقوف إلى جانب الخطيئة مما يعمق
المشكلة من جهة ، والإضرار بالأوربيين من جهة أخرى ، إذ لا يُتَوقع أن يبقى سعر
برميل النفط يدور في فلك المتوقع قبل التلويح بأي عقوبات تجاه المملكة أو دول
الخليج بوجه عام .. حينها سيخسر اللبراليون الدنمركيون الحرية في قراراتهم
السيادية ، وليس في طرح الصحافة التي تمثلهم فحسب .
خامساً :
لم ، ولن يقتنع المسلمون بدعوى (الحرية الإعلامية) التي تحاول - عبثاً - أن
تتوارى وراءها الحكومة الدنمركية ، فأطفال المسلمين صاروا يدركون أن الحكومة
الدنمركية ذاتها لا يمكن أن تقبل أي طرح إعلامي يشكك في الهولوكست أو ما يعرف
بـ ( المحرقة اليهودية ) ، أو يمجِّد النازية ، على سبيل المثال . سادساً : لن
يجدي ما يقدِّمه بعض المتفرنجة في العالم الإسلامي من نشرات وصوتيات في محاولة
لإدانة الدول الإسلامية ، وذلك لأسباب منها أنَّ لدى العالم الإسلامي الكثير من
التصريحات الظالمة التي تغترف الافتراءات من معين الحقد ليس إلا ، وهي أبعد ما
تكون عن المطالبات المعلنة بالحوار .
كما نؤكِّد أنَّ أهل الإسلام حماة للأنبياء جميعاً بما فيهم المسيح عليه الصلاة
والسلام ، كما أنَّ علماء المسلمين عندما يطرحون رأياً شرعياً إنَّما يستندون
إلى حقائق علمية وتاريخية يعترف بها الآخرون من المستشرقين المنصفين .
ومن هنا تطالب الأمةُ المجتمعَ الدوليَّ والمنظمات الدولية بتقنين حماية
الأنبياء من كلِّ ما يسيء إليهم وينال من كرامتهم ، ومكانتهم . وهذا مطلب رئيس
، لا ينبغي أن يَقَرّ للأمة الإسلامية - حكومات وشعوبا - قرار ، ما لم يستصدروه
في صيغة قاعدة قانونية دولية ، تجرِّم كل شخص ينتهك حرمة الأنبياء وفي مقدمتهم
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتجعل من ينتهكها عرضة للمحاكمة التي تساهم في
استقرار العلاقات والإفادة منها فيما يفيد العالم .
سادساً :
ليس لدى عامة المسلمين - في نظري - ما يمنع من نشر الحقائق الإسلامية كما هي
دون تصرف ، شرط أن تكون حقائق تستند إلى نصوص شرعية ، وتمثل رأي غالبية
المرجعيات الإسلامية ، مهما تعارضت مع أطروحات الآخرين ، أو نظروا إليها بعين
خلفيتهم الفكرية ؛ فلدينا قناعة تامَّة بأنَّ قوة الإسلام قوة ذاتية تنجذب
إليها النفوس الحرّة ، المتحرِّرة من قيد الثقافة المنافية للفطرة والعدالة .
سابعاً :
يُقدِّر عامة المسلمين كلَّ صوت حرّ يقيد الحرية بالضمير فيستنكر هذه الرسومات
ويأبى نشرها ، كما يُقدِّرون أصوات العقلاء من المسؤولين ، ورجال الإعلام
وقيادات الأحزاب المساندة للمطالب الإسلامية تجاه القضية . وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وعلى آله .