السؤال :
هل هناك شيء في الشرع يسمى فقه الأقليات بحيث تتغير
الفتوى بالنسبة للمسلمين المقيمين في بلد الكفار؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله .. أما بعد:
فيظهر من سؤالك أن الإشكال لديك يكمن في مدى العلاقة بين تغير الأحكام وبين ما
يعرف اصطلاحا – لا شرعا - بفقه الأقليات .
وهنا ينبغي أن نعلم أن مصطلح ( فقه الأقليات ) يراد به مجموع الأحكام الفقهية
المتعلقة بمن يعيش من المسلمين في بلاد الكفر ويحملون جنسية تلك البلاد في
الغالب ، وهم فيها قلّة بالنسبة لغيرهم ؛ لتشابه الإشكالات واتفاق الكثير من
الأحكام في العلل والمؤثرات ؛ فهو جزء وفرع من فروع الفقه الإسلامي العام .
وتخصيص مجموعة من الأحكام الفقهية بلقب معين ، إفراد وتخصيص له ، يقصد منه جمع
شتات مسائله ، وحصر ما يتعلق به لمزيد من التعمق في دراسته وتيسير الوصول إلى
مسائله ، وهذا الإفراد والتخصيص لنوع من المسائل ، مما درج عليه الفقهاء على
مرّ العصور ؛ ومن ذلك تخصيصهم لبعض المسائل بلقب يفردها ، مثل قولهم : علم
(الفرائض) جمعا لفقه المواريث ، و(الأموال) جمعا لفقه مسائل النظام المالي في
الإسلام ، و(الأحكام السلطانية) ، جمعا لمسائل الولاية العظمى وما يتفرع عنها
من الولايات ووظائف السياسة ونحوها .
وليس الغرض من إفراد فقه الأقليات كونها مما يتغير حكمه لتغير علته فقط ، فإن
هذا الوصف ينطبق على مسائل فقهية كثيرة تقع في دار الإسلام وغيرها ، ويجمعها ما
يعرف بالأحكام المعلَّلة والمقدّرة .
ولذا فإنَّ جواب سؤالك يتضح – إن شاء الله تعالى - ببيان ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أنَّ الحكم الشرعي ذاته ثابت لا يتغيّر متى اتفقت صور مسائل
واتحد مناطها ؛ وإنَّما قد يتغير مناط الحكم تبعاً لتغير الصور أو دخول العوارض
المعتبرة في الشرع ، ومن ثمَّ تتغيّر الفتاوى عند تنزيلها على المسائل والوقائع
، تبعاً لذلك .
الأمر الثاني : أنَّ الأحكام الشرعية والتكاليف والمبادئ الإسلامية ، هي هي ،
في أي مكان وفي أي زمان ، سواء كانت دار حرب أو دار إسلام ، فالحرام هو الحرام
والحلال هو الحلال ، فالكذب والغش والخيانة والربا وغيرها محرمات ، لا يختلف
حكمها من بلد إلى بلد ، وهكذا القيام بالعبادات والالتزامات ، والوفاء بالعهد
وأداء الأمانة والصدق والمعاملة المشروعة ، كلها تكاليف شرعية لا يختلف حكمها ،
لاختلاف مكان أو زمان .
وأما ما جاء في بعض المذاهب الفقهية من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار
الحرب مع الحربيين ، فقول ضعيف مردود بنصوص الكتاب والسنة ؛ وإذا لم نجد في
الشرع دليلا على الفرق بين الحكم الشرعي في بلد الإسلام وغيره ، فمن أين لنا
التفريق بينهما !
نعم قد يختلف حكم مسألة في بلد عن حكمها في بلد آخر ، ولكن سبب ذلك لا يعود
لكونها دار كفر أو دار إسلام فقط ، وإنما يختلف – كما سبق - باختلاف المناط (
علة الحكم التي يدور الحكم معها وجودا وعدما ) ، وهذا المناط ربما يختلف في
بلاد الإسلام نفسها فنجد الحكم الشرعي المبني على العرف مثلا ، يختلف الحكم في
تطبيقه بين بلدين من بلاد الإسلام ، ومنه بعض ما ورد عن الشافعي _رحمه الله_ من
اختلاف آرائه الفقهية بين العراق ومصر .
وإذا أردتَ تقريبا للمسألة ، فيمكنك استذكار حكم الصلاة ، وعددها، فصلاة
الفريضة واجبة في الحضر والسفر ، وفي بلد الإسلام وغيره . ولكن العدد يختلف في
بعض الصلوات في حال السفر ، سواء كان ذلك داخل دار الإسلام أو خارجها ، فعندما
يقصر مسافر من الجالية الإسلام في بلد كفر بسبب سفره بين مدينتين في تلك البلاد
، فإن هذا لا يعني أن السبب هو كونه في بلد الكفر ، وإنما علة القصر كونه
مسافرا ، سواء كان ذلك في بلد الكفر أو غيره ، فهو كما لو سافر بين مكة
والمدينة مثلا .
ولكن قد توجد بعض العلل التي تؤثِّر في أحكام بعض المسائل في بلد الكفر أكثر من
تأثيرها في غيره لمزيد تكررها فيه ، أو توجد فيه فقط مما يقتضي إعمال قواعد
شرعية من مثل قاعدة إزالة الضرر والاضطرار ، أو قاعدة المشقة تجلب التيسير ،
والعادة محكّمة ، ونحو ذلك وفق ضوابطها الشرعية ، وحينئذ فإنَّ الحكم الشرعي
للمسألة واحد ، لكن سببه وجد في ذلك المكان بوصفه نازلة لم تصل بعد إلى دار
الإسلام ، ولو فرضنا أن السبب ذاته وجد - كما هو - في دار الإسلام فإن ذات
الحكم حينئذ لن يتغير عنه هناك .
الأمر الثالث : مما ينبغي العناية به والتنبّه له في هذا الشأن ، وجود أكثر من
خمسين مليون مسلم يحملون جنسيات بلاد ليست إسلامية ، بل هي في المصطلح الفقهي
المتفق عليه بين فقائنا - رحمهم الله - ( دار كفر ) ويعيشون فيها ولادة أو
انتقالا إليها من بلاد المسلمين تحت مسمى الهجرة الدارج . ومثل هذا الواقع هو
في حد ذاته نازلة تتطلب مراعاة النظر فيها عند تنزيل الأحكام على الوقائع ، من
جهة تحقيق المناط علة ومقصدا . ومن هنا جمع بعض الفقهاء جملة من خصائص فقه
الجاليات ، التفاتاً إلى هذا المعنى ، وهو أمر مقبول ما لم يكن فيه تجاوز
للأمرين السابقين ، والله تعالى أعلم .
ومن هنا نجد الفقهاء الحاذقين لا يفتون من يعيشون في تلك الديار أو يريدون
العيش فيها عيشا دائما ، بأحكامٍ عامة ، بل يستفصلون من السائل ويطلبون منه
إيضاح بعض الأمور ، فمن يسألهم عن حكم التجنس بجنسية بلد كفر فإنهم لا يفتونه
بالجواز أو عدمه مباشرة ، ولكنهم يسألونه عن جوانب مهمة مؤثِّرة في الحكم ،
فإذا تبين لهم حاله ، أفتوه بما ينطبق عليها من الأحكام الفقهية من وجهة نظرهم
الشرعية .
وخلاصة القول أن الحكم الشرعي ثابت متى اتحدت صورة المسألة وعلة الحكم ، سواء
كان ذلك في دار إسلام أو دار كفر ، ومتغير عند تغير المناط سواء كان ذلك في دار
إسلام أو دار كفر ، بمعنى أنّ المسألة محلّ التطبيق يختلف حكمها باختلاف مناط
الحكم فيها لا لكون المخاطب بها أقلية مسلمة تعيش في ظل دولة كفر ، أو أكثرية
مسلمة تعيش في ظل دولة إسلام .
وثمة تفصيلات أخرى تتعلق بوجود أحكام نظر فيها إلى مؤثِّرات في الحكم ، من مثل
النهي الوارد في منع قطع السارق في الغزو ، دفعا لما قد يترتب على ذلك من مفاسد
.