تلوث البيئة
في العالم العربي
ما بين الجهل و التجهيل
الدكتور مسلم محمد
جودت اليوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا يوافي نعمه ، و يدفع عنا نقمه . و الصلاة
؛ والسلام على إمام المرسلين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – رسول
الرحمة ، والملحمة ، و بعد :
قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ ) .[1]
بين البيان الإلهي : أن الشرك ، و المعاصي سبب لظهور الفساد في العالم ، و
أن هذا الفساد سوف يعم كل الأرض برها و بحرها ، و من يقطن بهما من الكائنات
الحية .
إن من ينظر في عالمنا نظرة دقيقة متفحصة يتبين له أن درجة الفساد قد وصلت
إلى أعلى نسبها .
لذلك يجب علينا إعلان حالة الخطر في أعلى درجاتها فقد بلغ السيل أعلاه إما
أن نغرق و نهلك ، أو نرجع إلى ربنا الرحيم ، و ديننا القويم ، فننقذ أنفسنا
، و أولادنا من عذاب محقق جزاءا وفاقا لما فعلته أيدينا ، و تهاوننا.
إن مصطلح البيئة لفظ مستحدث في لغتنا العربية ، اشتق من كلمة ( باء ) أي
رجـع إلى مستقر . جاء بالمعجم الوسيط أن البيئة هـما المنزل ، و الحال . و
جاء في قاموس المنجد في اللغة أن البيئة : هي الحالة ، و يقال : " إنه حسن
البيئة " أي حسن الحالة .
وفى القرآن الكريم يقول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا[2]
الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [3].
وقد استخدم علماء المسلمين كلمة البيئة استخداما اصطلاحـيا منذ القرن
الثالث الهجري ، و ربما كان ابن عبد ربه - صاحب العقد الفريد - هو أقدم من
نجد عنده المعنى الاصطلاحي للكلمة ، و الذي يشير إلى الوسط الطبيعي (
الجغرافي ، و المكاني ، والإحيائي ) الذي يعيش فيه الكائن الحي . كما يشير
إلى المناخ الاجتماعي ( السياسي ، و الأخلاقي ، و الفكري ) المحيط بالإنسان
.
وقد عرفت البيئة في الاصطلاح الحديث : بأنها كل ما هو خارج عن كيان الإنسان
، وكل ما يحيط به من موجودات مرئية أو غير مرئية . مثل الماء والهواء .
و أهم ما يميز البيئة الطبيعية هو ذلك التوازن الدقيق القائم بين عناصرها
المختلفة ، فلو أن ظروفا ما أدت إلى إحداث تغيير من نوع ما في بيئة ما ،
فإنه بعد فترة قليلة سوف يعود الحال إلى ما كانت عليه بقدرة الله تعالى .
و من أمثلة ذلك لو أن ناراً قد دمرت جزءاً من إحدى الغابات ، فإنه بعد عدة
أعوام سوف تعود هذه الأرض التي احترقت أشجارها إلى طبيعتها الأولى ، فتنمو
بها الحشائش و الأعشاب ، ثم تكسى بالأشجار الباسقة مرة أخرى إلا إذا تدخل
الإنسان ، وحال دون عودة الأمور إلى نصابها .
قال تعالى : (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
[4]سورة فصلت ، الآية 39 .
لذلك سوف أبحث في أهم أركان البيئة لعظم خطرها على الإنسان ، و حياته ،
واستمراره ، وهي تلوث الهواء ، و تلوث الماء و أخيرا تلوث الغذاء بالمبيدات
أولا – تلوث الهواء .
يتكون الغلاف الجوي من خليط من عدة غازات أهمها غاز الأوكسجين ، والنتروجين
، و يحتاج الإنسان العادي إلى قدر كبير من الهواء كل يوم ، فهو يتنفس ما
يقارب لـ 22000 مرة في اليوم الواحد في حالة السكون ، و تزيد مرات التنفس
على ذلك كثيرا عند الحركة ، و بذل المجهود .
و يعتبر الهواء ملوثا إذا حدث تغير كبير في تركيبه لسبب من الأسباب ، أو
إذا اختلط به بعض الشوائب ، أو الغازات الأخرى بقدر يضر بحياة الكائنات
التي تستنشق الهواء .
و تتعدد أشكال المواد المسببة لتلوث الهواء ، و هي قد تدخل جسم الإنسان عن
طريق الجهاز التنفسي ، فتصل إلى الدم مباشرة ، أو تدخل إلى الجسم عن طريق
مسام الجلد ، أو عن طريق الجهاز الهضمي مع الأغذية ، و المشروبات الملوثة .
و أغلب العوامل المسببة لتلوث الهواء عوامل مستحدثة من صنع الإنسان نتيجة
لما يسمى التقدم التكنولوجي ، و ظل التلوث يزداد يوما بعد يوم مع ازدياد
الأخذ بالأساليب الصناعية ، و التكنولوجية الحديثة ، و ظل أثر هذه العوامل
يتراكم على مر السنين حتى شعر الإنسان بخطرها المدمر على حياته .
ثانيا – تلوث الماء .
قالت تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا
يُؤْمِنُونَ ) [5].
إن الماء ضروري للحياة ، و لا غنى عنه لجميع الكائنات الحية ، و تأتي
أهميته للإنسان بعد أوكسجين الهواء مباشرة ، فالإنسان يحتاج إلى بعض لترات
منه كل يوم ، لذلك يجب أن يكون هذا الماء نقيا في حدود سليما ، و إلا أصيب
الإنسان بكثير من الأمراض ، والأضرار الجسيمة .
وتعتبر مياه الأمطار من أنقى صور المياه الطبيعية ، و مع ذلك فإن يد التلوث
قد تطالها ، فتحمل معها بعض الشوائب العالقة بالطبقات السفلى من الغلاف
الجوي ، وتحملها معها إلى سطح الأرض . كما قد تتلوث مياه الأمطار فوق
المناطق الصناعية ، ومناطق التجمع السكاني بسبب التلوث الهواء بدخان
المصانع ، و بعوادم السيارات .
فعند سقوط الأمطار تبدأ هذه المياه في إذابة كثير من المواد الموجودة في
التربة من أمثال مبيدات الحشرات ؛ و غيرها ، كما أنها تجرف معها في طريقها
كثيرا من الشوائب لتلقي بها في المجاري المائية مثل الأنهار ؛ و البحيرات .
و من هنا يتضح ضرورة الاهتمام بالمكان الذي تؤخذ منه مياه الشرب للاستعمال
الآدمي ، فيجب أن يكون ذلك من مكان يخلو من الشوائب ، و المواد العالقة ، و
لا تحتوي على مواد ذائبة ، و بعيدا عن كل مصادر التلوث .
و الحقيقة أن أغلب المدن ، و التجمعات السكنية تقع على ضفاف الأنهار ،
والبحيرات ، فتؤخذ مياه الشرب للاستعمال الآدمي من المجاري المائية ، لذا
يجب أن تكون هناك قوانين حازمة للمحافظة على هذا المصادر المائية من أي
تلوث لتكون صالحة للاستعمال البشري .
فمعظم النشاط الصناعي يطلق الشوائب ، و الفلزات السامة في الهواء ، و الماء
دون أي رادع ، أو محاسب ، أو حتى رقيب حقيقي .
لذلك أرى أن من المناسب قوله أن تلوث مصادر المياه قد بلغ درجة خطيرة جدا
حتى وصل إلى المياه العميقة ، و قيعان البحار ، و بذلك أمتد أثر التلوث إلى
كثير من أنواع الكائنات الحية التي تعيش في هذه البحار ، و المحيطات .
ومن خلال تجاهل كثير من الحكومات لمشاكل التلوث من التوقع أن تزداد مشكلة
التلوث خطورة بزيادة عدد سكان المدن ، و زيادة مياه الصرف الصحي ، و
الفضلات الآدمية إضافة إلى مخلفات الصرف الناتجة من التجمعات الصناعية ، و
التي يزداد حجمها ، و عددها يوما بعد يوم ، و ساعة بعد ساعة .
ثالثاً – تلوث الغذاء .
أفرط الإنسان في هذا العصر في استخدام المواد الكيمائية في كل الميادين ، و
تعتبر المبيدات الحشرية المستخدمة في مكافحة الآفات من أخطر هذه المواد ، و
أكثرها انتشاراً .
ولا تزول أثر هذه المبيدات المتبقية في التربة إلا بعد انقضاء مدة طويلة قد
تصل إلى أكثر من عشر سنوات ، وقد تحمل مياه الأمطار بعض هذه المبيدات من
التربة إلى المجاري المائية ، و تسبب كثيرا من الأضرار لما بها من كائنات
حية ، وقد تصيب بالضرر كلا من الحيوان ، و الإنسان .
و قد تمتص النباتات التي تزرع في هذه التربة جزءا من هذه المبيدات ، و
تختزنها في أسجتها ، ثم تنقل هذه المبيدات بعد ذلك إلى الحيوانات التي
تتغذى بهذه النباتات ، وتظهر في ألبانها ؛ و لحومها ، و تسبب كثيرا من
الضرر لمن يتناول هذه اللحوم ؛ و الألبان .
و بعد الذي عرضت ، و بينت يتبين لنا حجم الخطورة ، و التهديد للبشر ، وجميع
الأحياء ، فماذا يجب علينا أن نفعل أمام هذا الخطر الذي دخل جسمنا من الماء
، والهواء ، و الغذاء ، و الله المستعان .
يجب علينا جميعا أفرادا ، و مجموعات ؛ و جمعيات أهلية ؛ و حكومية وطنية ؛
ودولية أن نهتم بما يلي :
1- توعية الناس بخطورة التلوث ، و أساليب انتشاره ، و مقاومته ، والقضاء
عليه .
2- إنشاء منظمات خاصة أهلية مستقلة بقرارها و تمويلها تهتم بشأن التلوث ،
وسبل مقاومته ، و فضح أسبابه و مرتكبيه .
3- إيجاد البدائل الممكنة للاستعاضة عن مسببات التلوث بدعم من المنظمات
المدنية الحديثة ، و الحكومات الوطنية و الأمم المتحدة أيضا .
4- سن تشريعات صارمة موحدة بين الدولة العربية خاصة بحماية البيئة من
التلوث و أسبابها .
ولعل أهم النقاط التي أحب أن أبينها ، و أشرحها التشريعات الخاصة بحماية
البيئة من التلوث :
أن التشريعات الخاصة بحماية البيئة ليست أمرا مستحدثا في عالمنا العربي ، و
لعل الشريعة الإسلامية كانت ، و ما زالت السباقة إلى هذا ، و من أمثلة ذلك
قول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم الوارد عن أبي هريرة : ( لا يبولن
أحدكم في الماء الراكد ) [6].
و في رواية أخرى رواها النسائي : ( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم
يغتسل منه ) [7].
و في رواية الطبراني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى أن يبال في
الماء الراكد و الجاري )[8] .
لا شك أن منطوق ، و مفهوم هذا الحديث يحرم البول في الماء الراكد ، و
الجاري ، فما بالك بأعظم ، و أخطر من البول من أمثال مصارف المدن ، و
التجمعات السكنية ، و مخلفات المعامل ، و المصانع ، فلا شك أن حرمتها أشد
لعموم خطورتها على عموم البشر ، و الأحياء .
و هذا مما حرمه الإسلام ، و قاومه ، و شجع على القضاء عليه .
فأتمنى من رجالات الشرع ، و القانون أن يستنبطوا تشريعات خاصة بحماية
البيئة من الشريعة الإسلامية ، لأنها ستحترم ، و ستطبق أكثر من أي قانون أو
تشريع آخر لمكانة الشريعة الإسلامية عند جميع المسلمين .
هذا ، و قد صدر في كثير من دول العالم العربي تشريعات تستهدف حماية كثير من
عناصر البيئة من التلوث ، بيد أن هذه القوانين ظلت في كثير من الأحيان حروف
دون روح بسبب انتشار الفساد في كثير من الأنظمة العربية ، فرجالات الأعمال
و من يتحالف معهم يتحملون القسط الأوفر من المشكلة ، فمن يستطيع أن يعقب
مصنع أو منشأة صناعية يضر البيئة ، و يخالف القوانين ، و هو مملوك لزيد ،
أو عمرو من المسئولين ، أو المتحالفين معهم ما دام هذا المسؤول بيده سن
القوانين ، و تجاهلها إذا وقفت ضد مصلحته الضيقة .
أختم القول بأن مشكلة تلوث البيئة في العالم العربي تكمن في تجهيل المواطن
العربي بهذا الركن الهام من حياته الصحية ، و الجمالية و البيئية .
وكذلك تجاهل كثير من الأنظمة العربية لمكافحة هذه المشكلة ، و التي تتحمل
هي حصة الأسد منها لإسهامها فيها ، ولتجاهلها الحلول العملية النافعة فيها
، لذلك على المواطن ، و هو صاحب المصلحة ، و المشكلة ، و هو المتضرر الأول
منها أن يتخذ موقف لإجبار الأنظمة العربية المتخاذلة ، و المتجاهلة لحل هذه
المعضلة من جذورها من خلال فضح أساليبهم في كافة الطرق ، و الأساليب
الممكنة ، و خصوصا في المواقع العلمية ، العربية العالمية في الشبكة
العنكبوتية و المحطات الفضائية و كذلك على المختصين إقامة المحاضرات ، و
الندوات ، و محاولة ترخيص جمعيات لكي تتبنى مسألة البيئة ، و مشاكلها من
خلال الكشف عن مسببها ،و اقتراح الحلول المناسبة لها ، و الله الموفق .
المحامي الدكتور مسلم اليوسف
-----------------------------
[1] - سورة الروم ، الآية 41 .
[2] - أي الذين سكنوا المدينة من الأنصار ، و أسلموا قبل هجرة النبي - صلى
الله عليه وسلم - ، و استقرت قلوبهم على الإيمان بالله ، و رسوله.
[3] - سورة الحشر ، الآية 9 .
[4] - سورة فصلت ، الآية 39.
[5] - سورة الأنبياء ، الآية 50 .
[6] - رواه ابن ماجه ، ج1/124 برقم 344 ، وقال الشيخ ناصر الدين الألباني
حديث صحيح .
[7] - رواه النسائي ، ج1/125 ، وقال عنه الشيخ ناصر الدين الألباني حديث
صحيح .
[8] - رواه الطبراني ، وقال عنه الشيخ ناصر الدين الألباني حديث صحيح –
صحيح تمام المنة ص 63 .