|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا يوافي نعمه ، ويدفع عنا نقمه . و الصلاة
و السلام على إمام الرحمة و الملحمة محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم
– وبعد :
أحببت أن أكتب هذا المبحث نظرا لوجود ثورة مباركة في إحدى الدول الإسلامية
( تونس – مصر ) و فتن في مظلمة في دول أخرى من مثل لبنان .
فأحببت أن أنور لكلا الفرقين ، ومن يتعرض لمحن من أمثالهما حكم الشرح
الحنيف في الدفاع عن الحرمات الخاصة ، وطريقة الدفاع الشرعي عن أي صورة من
صور العدوان في تلك الأيام و المحن ، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن
يبارك للأخوة في تونس ثورتهم و يحميهم و يحمي باقي الدول الإسلامية من
المحن والفتن ، و الظلم و الطواغيت إنه سميع مجيب .
الحرمات الخاصة في الشريعة الإسلامية :
الحرمات الخاصة في الشريعة الإسلامية هي : حرمة الدم ، وحرمة العرض ، وحرمة
المال .
و هذه الحرمات أوردها الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في خطبة حجة
الوداع فيما رواه الشيخان : ( فإن دماءكم و أموالكم ، و أعراضكم عليكم حرام
كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب )
.[1]
فالحديث النبوي الشريف قد بين الحرمات و عدد أصنافها ، فكانت الدماء و
الأعراض و الأموال فجعلها حرام على المسلمين و حرمتها كحرمة الشهر الحرام ،
وبعد أن بين الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم أصنافها ، و حكمها أمر من
سمع هذا الحكم أن يبلغه لشدة حرمته ، و خطورته على حياة المسلمين و مجتمعهم
.
لذلك سوف أبين بشيء من التفصيل بما تفيد المقام والمقال أنواع الدفاع عن
الحرمات الخاصة في الشريعة الإسلامية .
أنواع الدفاع عن الحرمات الخاصة :
بينت الشريعة الإسلامية أنواع الدفاع عن الحرمات الخاصة فكان هناك :
1- الدفاع بالقتال عن النفس ضمن صور تتعدد ألوانها وأحكامها بحسب ظروف
المعتدي ، و المعتدى عليه .
2- الدفاع بالقتال عن العرض ضمن صور تتعدد ألوانها ، و أحكامها بحسب ما
سأبينه فيما بعد .
3- الدفاع بالقتال عن المال أيضا ضمن صور تختلف ألوانها ، وأحكامها بحسب
ظروف المعتدي ، و المعتدى عليه ، و محل الاعتداء ، وفقاً للتفصيل التالي :
أولا – الدفاع بالقتال عن النفس :
الدفاع بالقتال عن النفس من أخطر أنواع الدفاع نظرا تعرض نفس المعتدي للقتل
لذلك عني بها أهل العلم عناية شديدة و خاصة لتناسب الخطر المحدق بالمعتدي و
المعتدى عليه . فإذا هوجم إنسان بقصد الاعتداء على نفسه ، أو أي عضو من
أعضائه ، سواء أكان الهجوم من إنسان أو حيوان ، فهل يجب على المعتدى عليه
أن يدافع عن نفسه أو أي عضو من أعضائه .
اختلف الأئمة في حكم الدفاع عن النفس بالقتال إلى عدة اجتهادات كانت ما بين
المباح إلى المندوب إلى الواجب وفق التفصيل التالي :
أ – الدفاع عن النفس بالقتال واجب شرعي : قال
بهذا القول جمهور العلماء من الأحناف و المالكية و الشافعية [2] بيد أن
الشافعية قيدوا وجوب الدفاع عن النفس بالقتال بكون الصائل المعتدي كافراً ،
أو غير عاقل ، أو بهيمة ، أو مسلما غير محقون الدم ، كالمسلم الذي يقطع
الطريق أو غير العاقل الذي يعتدي على الأنفس بالقتل .
ومن الأدلة على وجوب الدفاع عن النفس قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة ) .[3]
وقوله سبحانه وتعالى : ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله )
ب – الدفاع عن النفس مندوب :
و هو رأي السادة الشافعية ، وذلك إذا كان المعتدي مسلما محقون الدم . فإذا
دخل مسلم على مسلم لكي يقتله ، فدفاع المعتدي عليه – وفق رأي الشافعية
مندوب ، و ليس بواجب على ألا يترتب على هذا الاستسلام مفاسد خاصة بالحريم ،
و الأطفال ، و إلا اعتبر الدفاع واجبا ، و ليس بمندوب [4].
وكان دليل هذا الفريق من أهل العلم ما رواه أبو داوود في سننه في أول كتاب
الفتن و الملاحم عن أبي كبشة ، قال : ( سمعت أبا موسى يقول قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح
الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا و يصبح كافرا ، القاعد فيها
خير من القائم ، والماشي فيها خير من الساعي ، فكسروا قسيكم و قطعوا
أوتاركم ، واضربوا سيوفكم بالحجارة ، فإن دخل – يعني – على أحد منكم ،
فليكن كخير ابني آدم ). [5]
ولعل الدفاع عن النفس مندوب في الحروب الأهلية ، الفتن و امثالهما فمن تعرض
لذلك مندوب عليه الدفاع ، و ليس واجب ، و الله أعلم
ج – الدفاع عن النفس مباح :
إن الدفاع عن النفس مباح ، وليس بواجب سواء أكان المعتدي صغيرا أو كبيرا أو
غير ذلك لقول النبي – صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه في سننه عن
أبي بردة ، قال : دخلت على محمد بن مسلمة ، فقال : إن رسول الله – صلى الله
عليه وسلم ، قال : إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف ، فإذا كان كذلك فأت
بسيفك أحدا فاضربه حتى ينقطع ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية
قاضية فقد وقعت و فعلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .[6]
ثانيا - الدفاع بالقتال عن العرض :
وهذا النوع من الدفاع واجب على المعتدى عليها وهو واجب أيضا على أقاربها
بل على أي مسلم ، لأن الأعراض حرمات الله في الأرض ، ولا سبيل إلى إباحتها
بأي حال من الأحوال .
ودليل ذلك ما رواه أبو داوود في سننه عن سعيد بن زيد عن النبي – صلى الله
عليه وسلم ، قال : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله أو دمه
أو دون دينه فهو شهيد ) .[7]
و الدفاع عن الأعراض من قبل غير الأهل يندرج تحت قول النبي صلى الله عليه
وسلم فيما رواه البخاري : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، فقال رجل يا رسول
الله أنصره إذا كان مظلوما ، أفرأيت إذا كان ظالما ، كيف أنصره ؟ قال :
تحجزه ، أو تمنعه من الظلم ، فإن ذلك نصره ) .[8]
وفي حديث آخر أخرجه الشيخان رضي الله عنهما عن ابن عمر- رضي الله عنهما -
أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال : ( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ،
ولا يسلمه ، ومن كان في حاجه أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم
كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله
يوم القيامة ) . [9]
و الشاهد في هذا الحديث : ( لا يظلمه و يسلمه ) أي أن المسلم لا يدافع عن
أخيه المسلم و لا يسلمه لمن يريد به مكروها أو اعتداء .
قال ابن حجر عليه رحمة الله : ( القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع
الظلم بكل ما يمكنه ، فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم ، وإنما يقصد دفعه
، فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدرا ، وحينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه
أو عن غيره ) .[10]
ولعل الحديث الذي أورده الإمام أحمد عليه رحمة الله يبين واجب نصرة المسلم
و عدم خذلانه ما دام قادر على نصرته و الدفاع عنه .
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أذل عنده مؤمن ، فلم ينصره ، وهو
قادر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) [11].
ولا جرم أن الدفاع عن الأعراض من باب أولى وهو من أولى الواجبات للدفاع عن
الحرمات الخاصة فلا شك بوجوب الدفاع عن الأعراض و مساعدة ومساندة من يتعرض
للعدوان لذلك و الله المستعان .
ثالثا - الدفاع بالقتال عن المال :
تعددت اجتهادات أهل العلم بمرتبة بحكم الدفاع عن المال بالقتال ما بين
الواجب أو المباح أو الترك على النحو التالي :
1- الدفاع بالقتال عن المال واجب : قال بهذا
الاجتهاد الشافعية [12]وبعض أهل العلم [13]في حالات ، وصور هي :
أ- أن يتعلق بمال المدافع حق الغير كرهن و إجارة وأمثالهما .
ب- أن يكون المال ذا روح ، بشرط أن لا يتعرض المدافع أو عرضه للخطر .
ت- أن يكون المال هو مال الآخرين ، لأنه إذا جاز للمسلم أن يتنازل عن ماله
لكنه لا يجوز التنازل عن حق غيره . طبعا إذا لم يصبه ضرر بليغ بسبب هذا
الدفاع .
2- الدفاع بالقتال عن المال مباح : وقال
بهذا الاجتهاد جمهور من الفقهاء فالمسلم يباح له الدفاع بالقتال عن ماله أو
مال أو مال غيره لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل دون ماله فهو شهيد )
.[14]
قال الإمام النووي عليه رحمة الله تعالى : ( أما أحكام الباب ففيه جواز قتل
القاصد لأخذ المال بغير حق ، سواء كان المال قليلا أو كثيرا ، لعموم
الحديث[15] ، وهذا قول الجماهير من العلماء ) .[16]
3- ترك الدفاع بالقتال عن المال واجب :
وذلك إذا كان المعتدي على الأموال الدولة .
قال ابن المنذر : و الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا
أريد ظلما بغير تفصيل ، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين
على استثناء السلطان ، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره ، وترك
القيام عليه ) .[17]
هذا و بعض أهل العلم لم يستثن حتى الحكام من جواز مقاتلتهم إذا اعتدوا على
الأموال الخاصة ، بل سحبوا هذا الحق ولو في وجه الحكام المعتدين .
روى ابن حزم الظاهري عليه رحمة الله : ( أن أبا بكر الصديق كتب لأنس هذا
الكتاب حين وجهه إلى البحرين : بسم الله الرحمن الرحيم . هذه فريضة الصدقة
التي فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على المسلمين ، والتي أمر الله
عز وجل بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . فمن سئلها من المسلمين على
وجهها فليعطها ، ومن سئل فةقها فلا يعط . قال أبو محمد [18] : فهذا رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – يأمر من سئل ماله بغير حق أن يعطيه ، و أمر أن
يقاتل دونه ، فيقتل مصيبا سديدا ، أو يقتل بريئا شهيدا ، ولم يخص عليه
السلام مالا من مال ، وهذا أبو بكر الصديق ، وعبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما يريان السلطان في ذلك ، وغير السلطان سواء ، وبالله تعالى التوفيق
).[19]
وقد جاء في صحيح مسلم : ( أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن
أبي سفيان ما كان ، تيسروا للقتال . فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن
عمرو ، فوعظه خالد ، فقال عبد الله بن عمرو : ( أما علمت أن رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – قال : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) .[20]
وفي فتح الباري رواية للحديث توضح الشاهد منه ، وهي : ( أن عاملا لمعاوية
أجرى عينا من ماء ليسقي بها أرضا ، فدنا من حائط لآل عمرو بن العاص ، فأراد
أن يخرقه ليجري العين منه إلى الأرض ، فأقبل عبد الله بن عمرو ، ومواليه
بالسلاح ، وقالوا : والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد ) فذكر
الحديث ، والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم ،
وكان عاملا لأخيه على مكة والطائف ، والأرض المذكورة كانت بالطائف ... )
.[21]
وبعد هذا البيان و التفصيل أتمنى من جميع المسلمين الذي يتعرضون لأمثال هذه
الظروف و الحوادث و الفتن أن يستفيدون من هذا المبحث فيتعرفون على حدود
الله فيقفون عندها . فلا يعتدي من يدافع عن نفسها أو غيره إلا ضمن حدود
الله تعالى ، و الله مع العبد يحميه و ينصره ما دام العبد مع الله لا يتعدى
حدوده و اوامره و نواهيه .
و الله من وراء القصد
المحامي الدكتور مسلم اليوسف
-------------------------------------
[1] - فتح الباري ، ج 1/ 157 . صحيح مسلم ، ج3/1305- 1306.
[2] - مغني المحتاج ، ج4/21 . الشرح الكبير و الدسوقي ، ج4/357. الدر
المختار ورد المحتار ، ج2/ 197. و انظر الفقه الإسلامي و أدلته للدكتور
وهبة الزحيلي ، ج5/755.
[3] - سورة البقرة ، الآية 195.
[4] - مغني المحتاج ، ج4/195.
[5] - سنن أبي داوود ، قال عنه الشيخ ناصر حديث صحيح برقم 4259.
[6] - سنن ابن ماجه ، كتاب الفتن ، باب الكف عمن قال لا إله إلا الله ،
برقم 3962. وقال عنه الشيخ ناصر الدين حديث صحيح ( صحيح الجامع الصغير ،
برقم 2432) .
[7] - سنن أبي داوود ، رقم 4772 و قال الإمام الألباني : حديث صحيح .
[8] - فتح الباري ، ج12/323.
[9] - متفق عليه .البخاري ، ج1/459 برقم 2482 . مسلم ،ج21097 برقم 6743.
[10] - فتح الباري ، ج12/324.
[11] - مسند الإمام أحمد ، ج 3/ 487. وقال عنه الشيخ ناصر الدين حديث ضعيف
( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ) برقم 2402.
[12] - مغني المحتاج ، ج4/196.
[13] - نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي ، ص 149.
[14] - رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو . البخاري ، ج1/466 برقم 2520 .
مسلم ، ج1/72. برقم 72.
[15] - ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) .سبق تخريجه.
[16] - شرح صحيح مسلم للإمام النووي ، ج1/516.
[17] - نيل الأوطار للشوكاني ، ج5/367.
[18] - يعني ابن حزم .
[19] - المحلى لابن حزم ، ج11/209 وما بعدها .
[20] - مسلم ، ج1/125، برقم 141 .
[21] - فتح الباري ، ج5/123.