إنا نحمد الله حمدا كثيرا يوافي نعمه ويدفع عنا نقمه ، ونصلي و نسلم على
إمامنا و إمام المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه ، و آله وسلم نبي
الرحمة و الملحمة ، وبعد :
إن الفراغ الفكري الذي سيطر على كثير من مثقفي الأمة – إلا ما رحم ربي –
لعدة عقود وسيطرة المؤسسات الاستشراقية و الاستعمارية وتلاميذهم الجدد على
الثقافة المعاصرة و عموم المعارف كانت مأساة تاريخية عظيمة للعالم الإسلامي
، انتهت في كثير من الأحيان إلى عزل كثير من أجيالنا عن الثقافة الإسلامية
الصحيحة الأصيلة عزلا يكاد أن يكون كاملا ، من حيث سيطرة الثقافات المادية
اللادينية سيطرة شبه تامة على مؤسساتنا التعليمية بمختلف مستوياتها و
دوائرنا الثقافية والإعلامية والاقتصادية التي غدت تفكر و تخطط لتغيير شامل
لحياة المسلمين بمعزل عن الإسلام عقيدة وشريعة ، لا بل عدت تلك الجهات
بمختلف تصنيفاتها الإسلام و كل ما فيه فكرا غيبيا رجعيا ، ولا يمكن التقدم
و التطور إلا بوضع الإسلام و معارفه البدائية – بحسب تعبيرهم – ومن يمثله
ويتبعه في الأقبية المظلمة و على الرفوف المهملة .
ومن يتتبع فهارس الدراسات الجامعية و غير الجامعية و المجلات و الدوريات
يلاحظ تجاهل الإسلام تجاهلا تاما رجالا و علما و مذهبا و تاريخا و إن ذكر
فيذكر من خلال السخرية و الاستهزاء فقط .
ثم بدأ ثلة من علماء و المفكرين يتحررون – بفضل الله ثم بفضل المخلصين لهذا
الدين – من سيطرة الثقافات الإلحادية المادية و اللادينية و العودة إلى نور
الله تعالى فيدرسوا عقيدتهم و شريعتهم وما قدمه علماء الأمة الإسلامية عبر
العصور من دراسات و نظريات و علوم معارف .
ونستطيع أن نصف أولئك المفكرين و العلماء و المثقفين إلى قسمين :
قسم كانت دراساته للإسلام و معارفه وحضارته عميقة شاملة ، انطلق فيها من
خلال حب الوصول إلى الحقيقة فوصل إلى نتائج باهرة بتوفيق الله سبحانه و
تعالى .
فصرح بذلك بكل وسائل الإعلام المتاحة من كتب و محاضرات مرئية و مسموعة و
مكتوبة .
وقسم آخر لا يزال مع صراع ضار مع ثقافاته الماضية التي شكلت بقوة خلفيته
الثقافية و قناعاته الشخصية .
وهذه الفئة المثقفة تدرك الإسلام بقدر ما تبذل من جهد وصدق و توفيق الله
سبحانه فبقدر ما تحمل على النفس الآمرة بالسوء فتتخلص من التعصب الأعمى و
الرواسب البالية و الهوى الجامح المتبع تتوفق في الفهم و الإدراك .
والحقيقة التي لا يمكن أن نهرب منها أن هناك عوامل كثيرة تحول بين المنتمين
إلى هذه الفئة و بين عودته إلى الله تعالى و طريقه المستقيم و لعل منها ما
يلي :
أولا – إن الذي تربى على موائد الثقافات الغربية بكل ما فيها من تناقضات
وشاب عليها من الصعوبة البالغة أن يتحرر منها لأنها سرت به و كأنها دمه
فأصبح يفكر بطريقتها و يحكم على الأشياء بقوانينها .
فهو إن لم يهده الله سبحانه و تعالى عن طريق سبب من الأسباب كأن تحدث في
كيانه ومكونات عقيدته هزة عنيفة تحوله من الظلام إلى النور و الشك إلى
اليقين ومن الجهل إلى المعرفة بالله .
ثانيا – وهو الذي ينطلق من ثقافته الغربية ، ويحاول أن يفهم الإسلام وعلومه
و حضارته من خلالها ، أي أنه يحكم من خلال ضوابط وخصوصية نمط حضاري آخر
يختلف عنه اختلافا جذريا ، وعلى هذا النمط من التفكير و الحكم سيقوده لا
محالة إلى نتائج خاطئة و أحكام باطلة.
فأمثال هؤلاء يدرسون أي عالم مسلم من خلال فكرهم العلماني فيجدونه بحسب
وهمهم يدعو إلى ما يدعون إليه من فصل الدين عن الدولة ويوهمون الجيل و من
يريد ان يخدع أن العلمانية لا تشكل خطرا على الإسلام ولا تصطدم معه بل
تصطدم مع بعض المفسرين و المتشددين في فهم النصوص على نحو غير المراد بحسب
زعمهم .
وهم ينسون و يتناسون أن علماء المسلمين كانوا يفكرون في إطار وضوابط
الحضارة الإسلامية ، ويستحيل لأي منهم أن يخرج عن هذه الضوابط أبدا .
فأبا ذر الغفاري رضي الله عنه أبو الاشتراكية عند الاشتراكيين و لبرالي عند
اللبراليين وهو رضي الله عنه منهما و أمثالهما براء فهو صحابي جليل التزم
بالإسلام نصا وروحا و يخرج كغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أئمة سلفنا الصالح رضوان الله عليه أجمعين عن الضوابط الإسلامية قيد أنملة
.
ثالثا – وهناك صنف من المثقفين الذين ينطلقون في فهم الإسلام من خلال واقعه
التاريخي في مجالات العلوم كلها .
و هذا الفهم قد يحمل من خصائص الفكر الذاتي وأخطاء وقصور العقل البشري ،
كما يحمل سلبيات وانحرافات المراحل التاريخية التي نتجت من الاحتكاك
المباشر بين الحضارة الإسلامية الحضارات الأخرى ، وكذلك المخططات الثقافية
التي نسج خيوطها الأعداء في أوكار التآمر على الإسلام و أهله خلال تاريخه
الطويل .
إنهم لا يدركون أن الإسلام وحي من عند الله تعالى و هو مستقل عن كل زمان و
مكان و أن معظم الثقافات التي دارت حوله إنما تمثل أشخاصها و عصورها ، و
يمكنها أن تمثل الإسلام .
ومن هنا كان لابد من الفصل الكامل عند الحكم بين الوحي و الفكر أو الوحي و
التراث حتى تكون المراجعة واضحة و مفيدة .
ومن يمكننا أن أقوال و آراء المعتزلة وشواذ المتصوفة لا يمكن هي الإسلام
نفسه بل هي أفكار متأثرة بالحضارات الدخيلة على عالمنا الإسلامي و ديننا
الحنيف .
فالذي يريد أن يحكم على قضية لابد أن يعرضها على أصول الإسلام القاطعة في
الكتاب و السنة و الإجماع إن كان لا يزال يعتقد بعصمة الوحي الإلهي .
وختاما فإننا ندعو المثقفين و أهل العلم و المعرفة الذين يريدون الحق و
الإنصاف أن يدرسوا الإسلام و مختلف علومه دراسة شاملة و مختصة كل من خلال
اختصاصه ، حتى لا يحكموا على القضايا حكما مبتورا مبهما بعيدا عن الحق و
أهله ، يبعدهم عن الإسلام و مذهبتيه الواضحة في ضوء منهج علمي موضوعي بعيد
عن الأحكام المسبقة و المصطلحات المادية و المبادئ التي تعود إلى منظومات
حضارية تتنافى مع أصول الإسلام .
و أختم قولي هذا ، بقول الله سبحانه و تعالى :
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر
لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما ودعتنا على
رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) سورة آل عمران ، الآية
193-194.
و الحمد لله رب العالمين