الحمد لله رب العالمين، وأصلي
وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين ..
المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا هو اللقاء السابع عشر .. والموعد اليوم مع قصة خرّج أحداثها الشيخان في
صحيحيهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ
ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى ،
فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا ،
فَأَتَى الْأَبْرَصَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ :
لَوْنٌ حَسَنٌ ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ
قَذِرَنِي ([1]) النَّاسُ . قَالَ : فَمَسَحَهُ ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ
، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا . قَالَ : فَأَيُّ
الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْإِبِلُ . فَأُعْطِيَ نَاقَةً
عُشَرَاءَ ([2]) ، فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا .
فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ :
شَعَرٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ
. قَالَ : فَمَسَحَهُ ، فَذَهَبَ عَنْهُ ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا .
قَالَ : فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْبَقَرُ ،
فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا .
فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ :
أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ .
فَمَسَحَهُ ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ . قَالَ : فَأَيُّ
الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْغَنَمُ . فَأُعْطِيَ شَاةً
وَالِدًا ، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا ([3]) ، فَكَانَ لِهَذَا
وَادٍ مِنْ الْإِبِلِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْبَقَرِ ، وَلِهَذَا وَادٍ
مِنْ الْغَنَمِ .
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ :
رَجُلٌ مِسْكِينٌ ، قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ ([4]) فِي سَفَرِي ،
فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ
بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ
بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي . فَقَالَ : الْحُقُوقُ
كَثِيرَةٌ . فَقَالَ لَهُ : كَأَنِّي أَعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ
يَقْذَرُكَ النَّاسُ ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ إِنَّمَا
وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ [5] . فَقَالَ : إِنْ
كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ .
وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا
، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا . فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ
كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ .
وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ
، وَابْنُ سَبِيلٍ ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلَا
بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي
رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي . فَقَالَ :
قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي ، فَخُذْ مَا شِئْتَ
، وَدَعْ مَا شِئْتَ ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا
أَخَذْتَهُ لِلَّهِ ([6]) .
فَقَالَ : أَمْسِكْ مَالَكَ ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ ، فَقَدْ رُضِيَ
عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» .
ما أجملها من قصة ! وما أحسنها من موعظة !!
وفي القصة فوائد :
منها : أنّ الدنيا دار امتحان ، وإنما أوجدنا الله فيها ليبتلينا ، قال
سبحانه :} تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ{ .
ومنها : أنّ الملائكة يتشكلون ، وهذا ورد كثيراً في السنة .
ومنها : الترفق والتلطف في معاملة أهل البلاء ، فهؤلاء الثلاثة مما زاد
البلاء عليهم اشمئزاز الناس . وهنا لطيفة لا يفوتني ذكرها .. لا شك أيها
المستمع الكريم أنك تعلم أنّ من رأى مبتلى فالسنة أن يقول :« الحمد لله
الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً» ، ولكن نص أهل
العلم على أنه لا ينبغي أن يسمعه لئلا يجرحه .
ومنها : أن يحرص الإنسان على أن يكون ممن تدعوا له ملائكة الرحمن ، فلقد
دعا الملك لهؤلاء الثلاثة بالبركة في المال فبارك الله لهم في أموالهم .
وممن تدعوا له الملائكة من دعا لأخي بظهر الغيب ، قال صلى الله عليه وسلم
:« عند رأسه ملك موكل كلما دعا له قال : آمين ولك بمثل» .
وتتفرع عن الفائدة السابقة الفائدة اللحقة ، وهي :
أنّ الإنسان عليه أن يحذر من أن يدعو ملك عليه . وممن دعت عليهم الملائكة
من أدرك رمضان ولم يغفر له ، دعا عليه جبريل ، وأمّن على الدعاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان الدعاء لحظة صعود النبي صلى الله عليه وسلم على
المنبر .. فهل يُرد دعاءٌ هذا شأنه ؟
ومن الفوائد : أنّ النعم تزول بكفرانها وجحودها . وتبقى بشكرها ، قال تعالى
:} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{ ، وقال :} لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ *
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ
مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي
إِلَّا الْكَفُورَ{ . فإن أردت بقاء ما أنعم الله به عليك فكن من القلة
الشاكرة .
ومن أهم الفوائد : أنّ الإنسان عليه أن يتأدب مع الله في العبارة ، فقد قال
الملك : فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ . وكثير
من الناس يأتي هنا بحرف الواو الدال على التسوية ، والتسوية لا تسوغ بين
الخالق والمخلوق .. قال النبي صلى الله عليه وسلم :« لا تقولوا : ما شاء
الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان » [رواه أحمد وأبو
داود].
فلا تقل : لولا الله وفلان ، ولكن قل : لولا الله ثم فلان . لا تقل : أعوذ
بلله وبك ، ولكن قل : بلله ثم بك وهكذا .
ومن الفوائد ما جاء في كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد :" أنّ الرسول
صلى الله عليه وسلم يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ
بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد
شرعنا بخلافه،ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة".
ومنها عظيم قدرة الله الذي أذهب عنهم البلاء في طرفة عين .
ومنها : جواز الدعاء المعلق ، إن كنت كاذباً فصيرك الله . وفي دعاء
الاستخارة :«اللهم إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر » .
ومنها : ثبوت الإرث في الأمم السابقة، لقوله : (ورثته كابرا عن كابر)
ومنها أنّ من صفات الله الرضى والسخط ونحن نثبت معناها ونفوض كيفها لأن
الكيف لا يُعلم إلا بمشاهدة من أُريد تكييفه ، أو بمشاهدة مثله ، أو بخبر
صادق يخبر عنه .
قال ابن حجر :" وَفِيهِ فَضْل الصَّدَقَة وَالْحَثّ عَلَى الرِّفْق
بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَآرِبهمْ ، وَفِيهِ الزَّجْر
عَنْ الْبُخْل ، لِأَنَّهُ حَمَلَ صَاحِبه عَلَى الْكَذِب ، وَعَلَى جَحْد
نِعْمَة اللَّه تَعَالَى .
أكتفي بهذا القدر ، وأترككم في حفظ الله ورعايته ، وصلى الله وسلم وبارك
وأنعم على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته .