|
يقول أبو القاسم الشابي :
إذ الشعب يوماً أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب
القدر
ولا بد لليل أن ينجلي *** ولا بد للقيد أن ينكسر
إذا ما طمحت إلى غاية *** ركبت المنى ونسيت الحذر
ومن يتهيّب صعود الجبال *** يعش أبداً بين الحفر
ليسمح لي أبو القاسم الشابي هذا المساء أن أسطو
على كلمة الشعب في مقطوعته فأحذفها من قاموسها ، وأدون مكانها : " الإنسان "
ليكون البيت :
إذا الإنسان يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن
يستجيب القدر .
وعذراً أيها الشابي فإن الشعوب لا يمكن أن تريد
الحياة أو تطمح فيها ، أو تهفوا إلى معانيها الحقيقية وأفرادها دون إرادة أو
عزيمة
إذا الإنسان يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن
يستجيب القدر
نعم إذا أراد الإنسان الحياة على حقيقتها ، وأراد
أن يتذوّق طعم السعادة فيها ، وتشوّف لتلك الحياة التي عاشها الأفذاذ فعليه أن
يؤمن إيماناً صادقاً أن الحياة تجربة فذة .. لكن للناجحين ، للمؤملين ، للذين
يقهرون شهواتهم ، ويكتبون أيامهم عبر مساحة هذه الحياة الرائعة .
الإنسان يا أيها الشابي هو عنصر الحياة وزخرفها ورونقها وجمالها الحقيقي ،
متى ما أدرك هذه الأسرار حوّل الحياة الجاثمة على قلوب أصحابها إلى أحلام الفوز
والنصر في أنظار المتبصرين لها ، الحالمين في أوقاتها .
الإنسان يا أيها الشابي هو روح الكون ، وبذرة الحياة الرائعة ، وسر من أسرار
جماله وكماله وآثاره الإنسان يا أيها الشابي هو ذلك كله ، هو الحياة بكامل
معانيها ، والروح في عميق أسرارها !!
حين يتحرر هذا الإنسان أيها الشابي ، ويخرج من قيود الوهن ، ويحرر نفسه من
آثار الوهنين المثبطين يعيش العالم كله بكل ما فيه في أزهى معانيه .
ليت شعري !! من يعرف هذا الإنسان الذي أناظر فيه الشابي هذا المساء ، إنه أنت
الذي تقرأ أسطر هذه الصفحات ، أنت الماثل بين يدي أسطري ، أتظن أنك شيئاً
تافهاً ! أو مخلوقاً حقيراً ! أو مجرد جسد يشغل حيّزاً على وجه الأرض ! كلا !
أركل هذا الوهم ، قم ! قف على قدميك ! أصحو من نومك ! أنزع عنك ثياب الوهن !
تجرّد من كل معاني الوضيعة .. ! قم ! وارفع يديك للناس كلهم ، وقل لهم : ها
أنذا ، عدت من جديد ، ولدت اليوم ، فحياتي بدأت تاريخها الجديد من هذه الساعة ،
بل من هذه الدقيقة ، بل هذه الثواني التي تقرأ فيها أنت مقالتي هذه ، هي
الثواني التي كتبت حياتي بصورة أروع ، وحياة أمثل !
إذا قام الإنسان أيها الشابي فلا بد أن يستجيب القدر ، ويسلّم ، بل يرضى لأنه
لم يُعرف في تاريخ البشر كله أن القدر وقف حجر عثرة في طريق الناجحين
المتفائلين ، إنما هو وهم يبذره الوهن ، ويكتب أسطره العجز ، ويدوّن آثاره
الخوف والوجل .
إذا قام الإنسان أيها الشابي كتب لليل المظلم في حياته ، المدلهم في تاريخه
أن ينقشع ، وأن يذهب من غير رجعة ، وأن يغادر لا عودة له بعد ذلك البتة .
إذا قام الإنسان أيها الشابي فالقيود التي أثقلت أقدام المرضى والمتعبين لا
بد لها أن تنكسر لأن حديدها مع قوته لا بد أن تفتّته الإراده الصلبة ، وتوهنه
الإرادة القوية ، وتوهن قوته المعاني السامية تلك التي تدفع بالمرء إلى عالم لا
يتخيله إلا الحالمين بالنجاح .
إذا قام الإنسان أيها الشابي لم يبال بالخطر الذي يركبه ، والموت الذي يواجهه
، والخوف الذي يتلقاه ، تبقى تلك المعاني كلها مجرد أوهام ساذجة لا معنى لها
على مسرح الحياة الحقيقية .
هكذا أنت أيها الإنسان ، أنت الذي تقرأ أسطري هذه اللحظات ، وتجوب في رحاب
كلمتي في هذه الدقائق ، أنت قادر على أن تكتب لنفسك معنى حراً آخر غير الذي
تعيشه ، واعلم يا أيها الإنسان إن لم تؤثّر فيك كلماتي ، ولم ترحل بك إلى
المعاني العظام ، ولم تلهب قلبك لتصوير حياتك بمعناها الحقيقي فلا غرابة لأن :
من يتهيّب صعود الجبال ... يعش أبداً بين الحفر