• مع سَعٍته العلمية، وتفنّنهِ المعرفي ، وعبقريتِه اللامعة ، وترجيحاته
الباهرة ، ومناظراته الفذّة ، إلا أن لديه مستندا متينًا،وركنًا ركينًا ، وغذاء
روحيا، وزادًا مخبأً، ينفعه في المواقف، ويثبته في المُدلهمات ، قال تلميذه
العلامة ابن القيم رحمه الله: " حَضَرتُ شيخَ الإسلام مرَّةً، صلَّى
الفَجرَ، ثم جلَسَ يذكُرُ اللهَ تعالى إلى قريبٍ مِنَ انتِصافِ النهارِ، ثم
التَفتَ إليَّ، وقال: هذه غَدْوتي، ولو لم أتغَدَّ الغَداءَ، سقَطَتْ قُوَّتي "
.
• وهو ما يقصِّرُ فيه بعضُ طلاب العلم، .. تطغى الدروسُ والمعارف ، وجديدُ
الكتب والتأليفات ، والنشاط البحثي عن الزنبقة الروحية الثابتة، والزاد
الإيماني الكامن، الذي يمثلُ منزلةً عليا، تربو على الطعام والشراب والإجمام..!
• وقال أيضًا عنه : قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا أتركُ الذكرَ إلا بنية
إراحة نفسي؛ لأستعدَّ بتلك الراحة لذِكْرٍ آخَر ".
• فهو من ترويحٍ إلى ترويح فاضل، ومن تجديد إلى تجدّد أمثل ، بحيث تلتهبُ
الهمة، وتتضخم العزيمة، وتنشرح النفس انشراحا مباركاً.. وفِي الذكر أسرارُ ذلك
وبروزُه ونجاحه ..!
• فغَدوتُه القُرَانُ وكلُّ مَعنًى... من السننِ البهيجةِ والدعاءِ.../ جلوسٌ
عاطرٌ في كل يومٍ...ومكثٌ عابقٌ حتى الضياءِ.../ فلا تسلِ الجمالَ بأي
قلبٍ...سكنتَ وأينَ أنتَ من البهاءِ..؟!
• ويقولُ الحافظ الذهبي عنه وعن خصومه : (فجرى بينه وبينهم حمَلاتٌ حربية،
ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبةٍ قد رمَوه عن واحدة؛ فينجيه الله تعالى،
فإنه: دائمُ الابتهال، كثيرُ الاستغاثة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد
وأذكار يُدمنها) .
• ويقولُ أيضا رحمه الله تعالى: " لم أرَ مثلَه في الإقبال على الله تعالى،
وكان له أذكارٌ يُدمِنُها بكيفيَّة وجَمعيَّة " .
• وهذه الأذكارُ المُدمنَةُ ، أُهملت عند بعضِنا ، مع الانشغال الدنيوي،
والتواصل الاجتماعي ، والهوس التقني ، حتى صار فتحُ الجوالات أشدَّ وأبلغَ من
فتح القرآن والسنن، والتربية الإيمانية المتجددة، والله المستعان ..!
• وقال الشيخ محمد بن عبدالهادي رحمه اللهُ في عقوده : " ختم ابنُ تيمية القرآن
مدةَ إقامته بسجن القلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى
آخر سورة "اقتربت الساعة": ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي
مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55]، كان ابن تيمية
يقرأ كل يوم ثلاثةَ أجزاء، ويختمُ في عشرة أيام " .
• وهذا الزادُ اليومي، قصّر فيه كثيرون، وأهمله طلاب، وتشاغل عنه شيوخ، وبدده
آخرون ، حتى رؤي ذلك في علومهم ودروسهم واستدلالاتهم ... وبات القرآنُ غريبا في
فتاويهم وخطبهم ..!
• وهذه الغَدوةُ الروحية، والغذاءُ النفسي ، ينبوعٌ لا غنى للمؤمن عنه فضلا عن
العالم والداعية فهي سلاحُه الضارب، وسيفه القاطع، وراحلتُه الصبور، وصوته
الجهوري، وحسه النابض ، وجماله العابر، وطاقته الوهاجة، وزهرته الأنيقة ،
وعبَقُه الرافل ، ودويُّه الرقراق، وعلمه الباذخ، ودعوته الصداحة...!
• ومن فوائدها: أنها سندُ العلم وقوامه ، وطاقةُ النفس وثباتها، وإسعادُ الذات
وانتشارها، بحيث لا تضعفُ أمامَ موقف، ولا تنهزمُ لخصم، ولا تذل لحسود ، ولا
تخشى من حاقد، ولا تتلعثم عند مُغرض... تمضى مضاءً بثقة، وتنطلقُ جادةً بشوق،
وتدعو خيرا بإصرار، وتبلّغ نورا باقتدار ، قد تجلببتْ بالعلم، واكتست بالذكر،
وتدثرت بالابتهال... صوتُها ذكر، وحسُّها شكر، وإدمانُها فكر، وقد كان عليه
الصلاة والسلام يذكر الله على كل أحيانه ..
• ولابن تيمية رحمه الله :" ما رأيتُ شيئا يُغَذِّي العقل والرُّوح ، ويحفَظُ
الجسم ، ويضمن السعادة ، أكثرَ من إدامة النظر في كتاب الله تعالى ".
• والملائكة تشهد وتستمع ، قال الإمامُ ابن الصلاح، رحمه الله:" قراءة القرآن
كرامة أكرم الله بها البشر، والمــلائكة لم يعطـــوا ذلك ، وهي حريصة على
استماعه من الإنس".
• فأين أوقاتُنا وأحيانُنا المُبددة، وتلكم الساعات التي تحتويها أحاديثُ
طويلة، وماجَرَياتٌ تافهة ، واستغراقٌ اجتماعي ، ومخالطة فجة، وتلاقٍ موجع،
وأطعمة طاغية، ومشروبات غير دافئة... وقد غصّت بها المجالس والديوانيات
والاستراحات ...!
• وابتُلي بها بعضُ طلاب العلم ، وعباقرة الفهم والحق، حتى تجدولت معهم، ونشبت
في برامجهم، فباتوا لها عاكفين، ومن أجلها محبوسين، والله المستعان .
• فكيفَ الخروجُ منها ..؟! ، وقد تسلسلت بهم، وغرزت فيها أظفارها ، حتى ضُيعت
أوقات وأيام، وتلاشت ساعات وأعوام .. كان بالإمكان فيها جردُ تفسير قرآني متين،
أو هضم الكتب الستة، أو القضاء على الفتح أو المغني والتهام مسائله..!
• ولكنها النفسُ إذا استطابت وارتاحت بالمخالطة ، واستروحت لمَّ الشمل
والمؤانسة دنيويًا وفكاهيا.. بحيث يعز عليها الانفكاكُ ، ويثقل منها الانزواء ،
والعود من جديد...!
• ولما تُركت هذه الغدوة الروحية ، ضُيع الورد اليومي، وضعفَ التحصيل، وتناقصَ
العلم، وهُجرت المكتبات، وصار كتاب (١٠٠) صفحة، أثقلَ من الصخر ، وحفظ متنٍ
مشهور ، مثل الشدة الجاثمة...! فكيف بإنهاء مجلدات، أو العكوف في زنزانة مكتبية
لساعاتٍ طويلات ...؟!
• وهذه الغدوة الروحية هي شكلٌ من الإقبال على الله، وتعظيم شرعه ومحبته، كما
وصفه مترجموه ، يتغداها لأنها زاده، وقد وجد أثرَها في صحته وعلى جسمه وقلبه .
• وركائزُها: تقوى الله وإدامةُ الذكر، والمواظبة على عمل اليوم والليلة،
والورد القرآني الثابت ، ومحاسبةُ النفس على ذلك، وعدم الانجراف الدنيوي ،
واعتقاد أن شخصية طالب العلم ، تجانب العوام والدهماء ..
• فوقتُك ذهب، ولحظاتُك غالية، وساعاتك نفيسة.. ولا يجوز التضحية بها .. فكيف
بالعلماء الربانيين، والدعاة المخبتين ..؟! قال ابنُ مسعود رضي الله عنه :" ما
ندمتُ على شيءٍ ندامتي على يوم غربت فيه شمسُه، نقص فيه أجلي ، ولم يزدْ فيه
عملي ".
• وفي قولهِ رحمه اللهُ " لو لم أتغدها سقطت قواي " تأكيدٌ للاستضعافِ الذاتي
والمبدئي الذي يصيب النفسَ بعد هجرها برنامجها، ونسيانها جدولها وزادها .. حيثُ
تسقط الروح، وتذهب ريحها ، وتذبلُ عزيمتُها ، فلا تحسُّ منها شيئًا ، أو تسمع
لها ركزا..! ومن ضيَّع ذكرَ الله ، وودَّه وورده، وشوقه، وتصبيحه وصبوحه ، كان
جزاءه السقوطُ والانهزام ، والله المستعان .
• وما وهَنَ بعضُ الدعاةِ وطلاب العلم إلا بسبب تضييع هذه الغدوة، وإيثارِ
غيرها عليها، وتقديم الفاني على الباقي، والاهتمام المظهري على الجوهري
والمخبري.. الذي يُعليهم ويُثبِّتهم ويصونهم
• والخلاصةُ: إنَّ لهؤلاء الأعلام زادًا مع ربهم تعالى ، وخبيئةً مخصوصة، وطاقة
لا تهجر،.. فتعلمْ منهم، واعقدِ العزمَ على التخطي للمألوف ، وركوب صهوة العمل
والجزم، واجعلها كحاجتك الماسة للطعام والشراب، فهي أجلُّ مطعوم ، وأنفسُ
محروز، ومكسوب ، والله الموفق .