• الثالثة: قال ابن كثير رحمه الله: وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى
كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ قَدْ يَستدلّ بِهَذِهِ
الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا، لِمَنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ، أفضلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي
الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هِمَمِهِمْ وَشِدَّةِ
عَزْمِهِمْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا
أَفْضَلُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ
كَمَالِ قُوَّتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ومعنى رجالاً: أي ماشين على أرجلهم جمع راجل ، والضامر: هو الْبَعِيرُ
الْمَهْزُولُ، وفج عميق: طريق بعيد .
• الرابعة: قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ قَالَ:
مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ أَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ
اللَّهِ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِ
البُدْن وَالرِّبْحِ(١) وَالتِّجَارَاتِ. وتقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في
سورة البقرة ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ..).
• الخامسة: ثم قال تعالى : ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ﴾ يروى عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: الْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ هي أيام العشر وهو الصحيح، وهي أفضل أيام
الدنيا تُندب فيها الصالحات ، والمعدودات هي أيام التشريقِ كما تقدم .
• السادسة: وَقَوْلُهُ ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾
فيها سنية الأكل من الأضاحي، ولَم يصب من أوجب ذلك . قال النخعي رحمه الله:
كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَرُخِّصَ
لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ شَاءَ أَكَلَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ. وَرُوِيَ
عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
• والسنة فيها قسمان وقيل ثلاثة أثلاث ، والأمر واسع، والمقصد إحياء ذلك ديانة،
وتلمس المحتاجين فيها، وتحقيق التقوى لله تعالى .
• السابعة: ثم قال تعال؛( ثم ليقضوا تَفثَهم، وليوفوا نذورهم ، وليطوفوا بالبيت
العتيق ): قيل التفث: المناسك ، والنذور: الذبائح وكل ما نذره الحاج، وليطوفوا:
قيل طواف الحج يوم النحر، المسمى بالإفاضة والزيارة .
• التاسعة: حكم طواف الإفاضة: أنه من أركان الحج العظيمة، للآية الكريمة، وحديث
صفية( أحاسبتنا هي ). وأجمع الفقهاء على ذلك.
• العاشرة : وَقَوْلُهُ: ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ : قال ابن كثير رحمه الله :
" فِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الطَّوَافُ مِنْ
وَرَاءِ الْحِجْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ، الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ،
وَإِنْ كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ، حِينَ قَصُرَتْ
بِهِمُ النَّفَقَةُ؛ وَلِهَذَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ وَرَاءِ الحِجْر،
وَأَخْبَرَ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَسْتَلِمِ الرُّكْنَيْنِ
الشَّامِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتَمَّمَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ
الْعَتِيقَةِ..!"
• وللفائدة: ذكر أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره: أنه سُمي "بالعتيق"
لأحد أربعة أمور: كونه أُعتق من الجبابرة، أو لم يُملَك قط، أو أنه القديم، أو
أن الطوفان لم يُغرقه، والله أعلم .
• الحادية عشرة: ثم قال تعالى : ﴿ ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾
أَيْ: وَمَنْ يَجْتَنِبُ مَعَاصِيَهُ وَمَحَارِمَهُ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا
عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أَيْ: فَلَهُ
عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَكَمَا عَلَى فِعْلِ
الطَّاعَاتِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَكَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ
الْمُحَرَّمَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ. وقال مجاهد رحمه الله:
الْحُرْمَةُ: مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ
مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا.
• ولا ريب أن المناسك والحج والشهر الحرام من الحرمات التي تستوجب تعظيمها
ومخافة الله فيها .
• الثانية عشرة: ثم قال تعالى: ( وأحلت لكم الأنعامُ إلا ما يتلى عليكم) أي
مباح لكم ما تذبحونه منها ، إلا ما بين لكم تحريمه،( فاجتنبوا الرجس من الأوثان
واجتنبوا قول الزور ) حذرهم عبارة الأصنام ، وكذلك شهادة الزور، والتي يتوصل
بها للباطل، وتؤكل حقوق الناس.