هنالك في (سمرقند) يسطعُ نجمُ عالم فذ رحالة، عُرف بالرواية والعقل والدين
والرزانة، إنه الحافظ الدارمي صاحب السنن . وكتابه سهل طيب مألوف، فيه يواقيت
جياد، وسنن حسان، ومرتبته عالية في الجودة والإتقان ، والصحيح أنه (سنن) وليس
مسنداً كما توهمه بعضهم ، إلا إذا اعتبرناه بالأسانيد المتصلة...وادعى بعضهم أن
له مسنداً خلاف السنن...!
ولذلك انتُقد ابن الصلاح حينما سماه مسندا، كما نبه على ذلك العراقي في
الألفية، لأنها أقل رتبة من السنن :
ودونها في رُتبة ما جُعلا / على المسانيد فيُدعى الجَفلا
كمسندِ الطيالسي وأحمدا/ وعدُّه للدارمي انتُقدا
واسمه( أبو محمد عبدالله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي السمرقندي (٢٧٥)هـ رحمه
الله ، وهو غير العلامة الحافظ العَقدي المناظر عثمان بن سعيد الدارمي، صاحب
النقض والمسند الكبير،(٢٨٠)هـ وقطعاً تعاصرا..!
عُرف هذا بالحفظ والرحلة والإتقان العلمي ، قال الخطيب البغدادي رحمه الله :(
كان أحد الرحالين في الحديث، والموصوفين بحفظه وجمعه، والإتقان له، مع الثقة
والصدق والورع والزهد، وكان يُضرب به المثل في الديانة، والحلم، والرزانة ) .
وهنا دلائل ومعالم تعرف بكتابه :
١/ المقدمة النافعة الماتعة: امتاز بمقدمته كالحافظ ابن ماجة، مع قلة من يقدم
للأسفار، فأنارها بالمعجزات النبوية ، والمعتقد وبعض فضائل العلم والأدب
والسلوك.. وهي جديرة بالشرح والتعليق، والإذاعة بين طلاب العلم .
ومنها: بَابٌ مَنْ كَرِهَ الشهرة والمعرفة-بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ تَفْسِيرِ
حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بَابٌ التَّسْوِيَةُ فِي
الْعِلْمِ، وغيرها من الفرائد الجميلات .
٢/ ترتيبه: صنعه ككتب السنن على الأبواب الفقهية، وقد اعتمد فيه مصنفه على
طريقة الكتب والأبواب، وقد قدّم بين يدي الكتاب بمقدمة احتوت على عدة أبواب في
الشمائل النبوية والمعجزات ، وفي اتباع السنة، وفي آداب الفتيا، وفي فضل العلم.
ثم شرع في الكتاب على الترتيب المعتاد مبتدئاً( بكتاب الطهارة) ، فالصلاة،
فالزكاة، فالصوم فالحج، ثم ختم بكتاب فضائل القرآن. والمؤلف يورد المرفوع
والموقوف والمقطوع، والمتصل والمنقطع، والصحيح والضعيف،، كل هذا يورده بسنده
دون التعرض لنقد الأسانيد.
٣/ جودة أحاديثه : رجحه بعضهم على سنن ابن ماجه لقوة أسانيده وجودة مروياته
كالنووي وابن الصلاح والعلائي رحمهم الله ، وقال ابن حجر رحمه الله : ( وأما
كتاب (السنن)، المسمى: (بمسند الدارمي) فإنه ليس دون (السنن) في المرتبة، بل لو
ضُم إلى الخمسة، لكان أولى من ابن ماجة، فإنه أمثلُ منه بكثير ) .
٤/ تعداده: اشتملت سنن الدارمي على أحاديث كثيرة، أُحصيت (٣٤٥٥) نصًا مسندًا،
في مختلف الأبواب . وفِي نسخة الشيخ حسين أسد الداراني حفظه الله (٣٥٤٦) حديثا.
وافتتح بعد التقدمة (بكتاب الطهارة) بَاب (فرض الوضوء والصلاة)، وساق حديث أنس
رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا نُهِينَا أَنْ نَبْتَدِئَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَقْدَمَ الْبَدَوِيُّ
وَالْأَعْرَابِيُّ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.. وفيه: فَإِنَّ رَسُولَكَ زَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ
عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَ ).
واختتمه (بكتاب فضائل القرانِ ) ( باب كراهية الألحان في القرآن ) وساق أثر
محمد بن سيرين رحمه الله قال : ( كَانُوا يَرَوْنَ هَذِهِ الْأَلْحَانَ فِي
الْقُرْآنِ مُحْدَثَةً ).. وسنده جيد .
٥/ محدّث فعال : قال أبو حاتم بن حبان رحمه الله : ( كان الدارمي من الحفاظ
المتقنين، وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع، وتفقّه وصنف وحدث، وأظهر السنة
ببلده ودعا إليها، وذبّ عن حريمها، وقمع من خالفها ).
٦/ السنن والمسند والجامع: جزم الشيخ حسين أسد، وهو ممن حقق الكتاب، أن كلها
وصف لكتاب واحد.
٧/ علو إسناده : قال الشيخ عبد الحي الكِتّاني رحمه الله:( وله أسانيد عالية
ثلاثيات، وثلاثياته أكثر من ثلاثيات البخاري ). ومنها ما أخرجه في
(كِتَابُ الطَّهَارَةِ)،  (باب الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ). حديث (٧٦٧)
حدثنا جعفر بْنُ عَوْنٍ ، أنبأنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أنس رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَامَ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، قَالَ :
فَصَاحَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَكَفَّهُمْ عَنْهُ، ثم دَعَا بدلو مِنْ مَاءٍ فصبه عَلَى بَوْلِهِ ).
٨/ شيوخه: روى عنه جمع من الأئمة الكبار كالإمام مسلم وأبي داود والترمذي وعبد
بن حُميد، وبُندار وبقي بن مخلَد وغيرهم...!
٩/ منهجه في الكتاب: مرتب على الأبواب الفقهية كعادة مؤلفي السنن، يذكرونها
للاحتجاج، وافتتح الكتاب بمقدمة رائعة جليلة ، ولَم يذكر شيئا من العقائد
والإيمانيات، إلا ما كان من التقدمة، وكتاب الرقاق وكتاب الرؤيا ...!
١٠/ لطائف تراجمه : امتاز باختصاره الشديد في تراجم الأبواب، وقبسها من
الأحاديث، وربما صدرها بآية قرآنية أحيانا، أو تفقه فيها وأشار إلى الخلاف ومن
ذلك:
• (باب من أحق بالإمامة) في كتاب الصلاة وساق حديث مالك بن الحويرث ( وليؤمكم
أكبركم ) وعقبه بحديث( وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ).
• (باب الشرط في النكاح ) في كتاب النكاح وساق حديث عقبة بن عامر ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَحَقَّ
الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ).
1٠/ شروحاته : لم يحظ الكتاب بعناية المتقدمين رغم شرفه وأهميته، حتى جاء بعض
المعاصرين فشرحه وخرج أحاديثه..
• وهو أبو عاصم نبيل الغمري وسمّاه ( فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي أبي
محمد عبد الله بن عبد الرحمن ). في عشرة مجلدات. طباعة دار البشائر- المكتبة
المكية- سنة( ١٤١٩)هـ
• وحققه بعض المعاصرين كالشيخ حسين أسد وغيره جزاهم الله خيرا .
• وضمنه الحافظ ابن حجر رحمه الله كتابه ( إتحاف المهَرة بالفوائد المبتكرة من
أطراف العشرة ).
والله الموفق...