المتابع لكثير من فتاوى المفتين في زماننا الحاضر ووقتا المعاصر يلحظ أمرًا قد
يبدو كالظاهرة ، وكالسيما المشتركة بين الكثير من الفتاوى .
وهي ظاهرة ما يسمونه بزعمهم بالتسامح ، والقول بالأسهل والأيسر ، ونبذ التشدد ،
ومقاومة التنطع في الدين ، ومحاربة الغلو ، وتجفيف منابع الإرهاب ، وعدم تحجير
العقول والفهوم ، والتوسع المذهبي ، والانفتاح على الآخر ، وغير ما ذكرنا من
المصطلحات ...
وتلك همّة عظيمة ، وغاية كريمة ينبغي الالتفات إليها والأخذ بها بضوابطها لأنها
من الدين .
ولكن الحقيقة المؤلمة لأكثر ما نراه أنها وسائل ملتوية تتخذ لتمييع الدين ونبذ
أحكامه ، والعبور فوق شرائعه ، والالتفاف على نظامه .
ووسائلهم في ذلك لوي أعناق الآيات ، والطعن في الكثير من الأحاديث ، وإعمال
العقول في المنقول ، وتحكيم الفهوم في النصوص ، وتتبع رخص العلماء ، وبتر
نقولاتهم عنهم ، ودغدغة المشاعر ، والأخذ بالأغاليط ، وتجييش السلطات ، والطعن
في المخالفين ، ولمزهم بما فيه هلاكهم .
والملاحظ أن الحرام استحال إلى حلال ، والموبقات إلى مكروهات ، والممنوعات غدت
حرية شخصية وأذواق سلوكية ، وكأنما الشريعة نزلت لأناس وانعزلت عن آخرين !
والملاحظ بروز بعض المفتين ، وتصديهم للناس وركوبهم لذلك كل المطايا ، ودخولهم
إلى ميدان الإفتاء من أوسع أبوابه وأرحب مسالكه بعد أن كانوا قبل وقت قليل من
صغار طلاب العلم ، وممن لا يؤبه به ، ولمّا مات الأكابر تولى الأصاغر المنابر !
والملاحظ أن الدين غدا حمًا مباحًا وكللأً مشاعًا لكل سائمة هائمة لتصول فيه
وتجول دون علم ولا هدى ولا كتاب منير ، واعتلى الشيطان ليخطب فوق المنابر ،
ونطق الرويبضة ، وصار أهل الحق والصدق كالمستوحشين ، يدافعون الخسارة الكبرى
بالصغرى ، وتحمل الكبار ذنوب الصغار ، وأدين البريء بجرم الشقي ، وعصفت أراجيف
الفتن ، وكم لله في هذا من حكم !!
والحل الأحكم والطريق الأسلم للخروج من هذا المأزق الشرعي والتاريخي هو تربية
الجيل القادم بالمنهج الأقوم بالتي هي أحسن ، واستنبات العلماء من حلق العلم ،
وغرس بذور القيادة العلمية في نفوس المؤهلين لها والمستحقين لحملها ، لأن
الأمَّة تحتاج إلى أئمَّة ، والأجيال تنتظر الرجال الذين يقولون بالحق وبه
يعدلون !