فإن من وسائل الشيطان ـ نعوذ بالله منه ـ في الإغراء والإغواء ؛ تزهيد الناس في
الصالحين بزعم أنهم يحبون الدنيا ، وبدعوى أنهم يلهثون خلف سرابها الفاني ،
ويلتمسون الثراء والجِدة كغيرهم من الناس ..
ويعدُّون ذلك منقصة ومثلبة فيهم تُسقطهُم من علو الأُسوات إلى دنو السوءات ..
وذلك ظلم فادح وحيف جارح !
فالجميع فقراء لربهم ، ضعفاء بين يدي خالقهم ، ركَّب فيهم الشهوات ، ومزجهم
بالنزوات ، وخلطهم بالرغبات ، ولعمر الحق ! ما يقدح في الدين إلا مخالفتُه ،
أما الأخذ بما أباح الله فهو السير على منهج الدين القويم الذي يوافق ويمازج
بين رغبات الروح والجسد ، ولا يسع الناس إلا المباح ، ولكلِّ شيء جعل الله
قدرًا .
قال تعالى :[ زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من
الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله
عنده حسن المآب ] آل عمران : 14
وقال تعالى :[ وتحبون المال حبًا جمّا ] الفجر :
أقول هذا لأني طالما سمعت من الألفاظ الجارحة والعبارات القادحة والإشارات
الفاضحة في الدعاة والمشايخ وأهل العلم الذين طمعوا ـ بحكم الجبلة البشرية لا
بحكم الطبائع الملائكية ـ في فضل الله ، وسعوا في الأرض يلتمسون كرم الله في
التجارات والعقارات والمساهمات وغيرها من ضروب السعي المباح في مناكب الأرض
والأكل من رزق الله الحلال .
فهل يريد هؤلاء ـ الظَّانين بمشايخهم ظنَّ السوء ـ أن يكون أهل الفضل والنبل
فقراء معدمين ، وعالة يتكففون الناس ؟!
أما علموا ـ زادهم مولاهم فقهًا في دينه وفهمًا لشرعه ـ أن المؤمن القوي خير
وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولئن
تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة فقراء يتكفَّفون الناس ؟!
وإنما يقدح في أديانهم أن يرتعوا في حمى الحرام ، ويتلطَّخوا بحمأة الرذيلة في
الجمع والمنع أو الدفع فيما حرَّم الله عليهم ، وهنا .. لا كرامة ولا مكانة !
ولكن الطعن فيهم ، والتنقيص من قدرهم ، والتقليل من وزنهم ، لأن بعضهم أغنياء
يلتمسون الثراء ، فهذا انحراف عن الجادة ، وسلوك بهم نحو سبيل الرهبنة المذموم
والتنطُّع المشؤوم .
فنحن لا نريد رُهبانًا في صوامع .... بل نريد عُبّادًا في جوامع / رُوّادًا في
مصانع / قُوّادًا في مجامع !
قال تعالى حين الفراغ من الصلاة :[ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا
من فضل الله واذكروا الله كثيرًا ...] الجمعة :
وقال تعالى الحج :[ ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم ... ] البقرة :
198
فالزهد في الدنيا ليس بتركها مع طمعك فيها وتقطع قلبك حسرات عليها ، وإنما
الزهد المحمود ؛ هو الزهد في حرامها وترك ما لا ينفع منها في الدار الآخرة ،
فالطاعم الشاكر بمنزلة الفقير الصابر ، ولكلٍّ وجهة هو موليها .
وليس طلب الرزق والاستكثار منه طمعًا في كرم الله ، مذمومًا لذاته ، وإنما
مذمومًا لتبعاته كالانشغال به عن طاعة الله ، والتقصير في أداء الواجبات
الشرعية فيه ، وجمعه من الوجوه الممنوعة ، وأعداء ملتنا يناهبوننا المستقبل ،
فكيف بتقدمهم نقبل ؟!
وحتى تزول الصورة القاتمة التي أملاها الشيطان على بعض الإخوة المغترين بنصحه
وصدقه في تشويه صورة الصالحين ، نقول بأن الأنبياء والرسل على جلالة قدرهم
وعظمة منزلهم كانوا يمشون في الأرض ويتاجرون ويحترفون ، وعُدَّ ذلك من فضائلهم
ومناقبهم ، وما شانهم به إلا منتكسوا الفطر فاسدوا النظر . قال تعالى :[ وما
أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ...]
قال القرطبي في تفسيره ، قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون .
وقال ابن كثير : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذِّي به ، ويمشون
في الأسواق للتكسُّب والتجارة ، وليس ذلك بمنافٍ لحالهم ومنصبهم .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان آدم حرَّاثاً ، ونوحٌ نجارًا ،
وإدريسُ خياطًا ، وداود زرَّادًا ، وموسى راعيًا ، وإبراهيم زرَّاعًا ، وصالح
تاجرًا ، وسليمان آتاه الله الملك ، والنبيُّ محمد يرعى غنمَ أهلِ بيته بأجياد
...
( فتح الباري ـ ابن حجر ـ كتاب البيوع ـ باب كسب الرجل وعمله بيده 4/306 )
وقد ألان الله الحديد لعبده داود ، وذكر ذلك في صيغة المننن عليه ، وعلى سبيل
ذكر النعم لديه ، قال تعالى :[ وألنَّا له الحديد ] سبأ : 10 وعلمه صنعة الدروع
والقدور وغيرها من الأمور ، فقال تعالى :[ وعلمناه صنعة لبوس لكم ..] الأنبياء
:
وتأمل ـ تذهل ! ـ إلى كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ عندما سقى الماء لبنتي
شعيب ـ عليه السلام ـ ماذا قال : [ ربِّ ! إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير ]
القصص :
فأنا مع هذا العطاء المِدرار كالأمطار الغِزار إلا إني ما زلت فقيرًا إليك ،
محتاجًا لعطائك ، راغبًا في نوالك ، مؤملاً لجودك ..
هكذا يكون إظهار الحاجة والفاقة للربِّ الكريم ، وتلك لوازم العبودية !
وهذا أيوب الأواب ، والصابر المثابر ، يُظهر الحاجة للعطاء الإلهي والكرم
الرباني في صورة حسنة ، وهيأة جميلة ، تأخذ بمجامع القلوب والأبصار...
فعندما أنزل الله عليه جرادًا من ذهب ، جعل يجمع في ثيابه ، فقال له مولاه : يا
أيوب ! أما كنت أغنيتُك عن هذا ؟ فقال : بلى يا ربِّ ، ولكن لا غنى بي عن فضلك
!!!!
واشتغل رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنواع شتَّى من التجارات
والأعمال ، فقد رعى الغنم لأهل بيته ، وكذلك فعل إخوانه من الأنبياء قبله . فعن
أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما
بعث الله نبيأً إلا رعى الغنم " . فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال :" نعم ، كنت
أرعاها على قراريط لأهل مكة " .
(أخرجه البخاري ـ كتاب الإجارة ، باب رعي الغنم ـ 4/441 )
وعمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التجارة سنين ذات العدد ، فضارب ، وشارك ، وباع
، واشترى ، واقترض ، وأقرض ، وزايد ، وعلى كلِّ ما ذكرنا أدلَّة كوضوح الأهلَّة
!
فقد اشترى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرارًا ، ومنها : قول سويد بن قيس : جلبت أنا
ومخرَفةُ العبديُّ بزًا من هَجَر ، فأتينا به مكة ، فجاءنا رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ فساومنا بسراويل ، فبعناه .
( أخرجه الترمذي 3/589 كتاب البيوع باب ما جاء في الرجحان في الوزن ، وابن ماجه
2/748 والنسائي 7/284 )
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : باع رسول الله قُعبًا وحِلسَاً بيعَ من
يَزيدُ .
( أخرجه أبو داود 2/292 والترمذي 3/522 والنسائي 7/259 وابن ماجه 740 )
وشارك ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماله مضاربة ، فكان خير شريك ، فعن السائب بن
أبي السائب ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شريكي
، وكان خير شريك ، لا يُداري ، ولا يُماري ، أي : لا يلاحي ولا يُخاصم .
( أخرجه أبو داود 5/170 كتاب الأدب وابن ماجه 2/768 في كتاب التجارات )
وعلى تلك المعاني الجميلة والقيم النبيلة ربّى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم
ـ أصحابه ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ عُمّالَ أنفسهم ، فكان يكون لهم أرواحٌ ، فقيل لهم : لو اغتسلتم .
( رواه البخاري كتاب البيوع ـ باب كسب الرجل وعمله بيده 4/403 )
ولقد كان يشتغل بعضهم بطلب الرزق والسعي في مناكب الأرض عن مجالسة النبي العظيم
ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففاتهم من ذلك الكثير من أحداثه وأحاديثه ..
يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن حديث شريف فاته سماعُهُ : ألهاني عنه
الصَّفقُ بالأسواق .
( رواه البخاري كتاب البيوع باب الخروج في التجارة 4/298 )
وعن البراء ـ رضي الله عنه ـ قال : ما كُلُّ الحديث سمعناه من رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ كان يُحدِّثنا أصحابُهُ عنه ، كانت تَشغلُنا عنه رِعيَةُ
الإبل .
( رواه أحمد في المسند 4/283 )
وقد كان أبو بكر بزازًا ، وسعد بن أبي وقاص نبَّالاً ـ يبري النبل ـ والزبير بن
العوام جزّارًا ، والعاص بن وائل حدّادًا ، وعثمان بن طلحة خياطًا ، وأبو سفيان
بن حرب يبيعُ الزيت والأُدُم ، وعتبة بن أبي وقاص نجّارًا ...
ونادى عبد الرحمن بن عوف في أزكياء النفوس : دُلّوني على سوق المدينة ، فما مات
حتى قُطِّع ذهبه بالفؤوس ، فهل آن أن نهتبل من هذا الدروس ؟!
والنصوص في ذلك أكثر من أن تُحصر ، وحسب الحصيف من الخريف نسمة السمر !
وقد بلغ المال ببعضهم إلى الوصول إلى جنات النعيم ، فهذا عثمان بن عفان ـ رضي
الله عنه ـ يشتري الجنة من ربه أكثر من مرَّة ، وهذا صهيب الرومي يشتري نفسه من
الله بماله ، وهذا أبو طلحة الأنصاري يطلب رضوان الله ببيرحاء ، وهذا أبو
الدحداح يقرض الله قرضاً حسنًا ، فينادى : كم من عذق رداح لأبي الدحداح في
الجنة !
وإنما حصول المال بالتَّكسُّب ، والجدَّ في الطلب ، بعد موافقة المقادير ، فإن
السماء لا تمطر ذهبًا وفضَّة ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب توافقوا السبب ،
والله خير الرازقين ......
فقل للطاعنين كُفُّوا ، فقد أزريتم بأنفسكم لو تشعرون ! فلا يُلام إلا أهل
الميل ، فدعوا الطعن والإيلام في رموز الإسلام العظام ، ففي فضل الله يتّسع
الطمع !!!