الخطبة الأولى :
عباد الله : هاهي الإجازة أوشكت على الرحيل ، مضت أيامها وتصرمت ساعاتها ،
وكأنها ما كانت ، غنم فيها قوم وخسر آخرون ، ذاك يطوي صفحات من الحسنات في
الصالحات الباقيات ، في خطوات تقربه إلى روضات الجنان ، وآخر يعب من السيئات
وارتكاب المحرمات والموبقات ، في استدراج يدنيه من الدركات .
أيها المسلمون : ليعد كل منا بذاكرته إلى الوراء قليلاً ، إلى بداية الإجازة ،
وليحاسب نفسه : ماذا جنى ؟ وماذا قدم ؟ هل تقدم للخير أم تأخر ؟ هل ازداد من
الصالحات أم قصر ؟ ماذا صنع هو وأهله وأولاده في تلك الإجازة ؟ وكيف أمضوها ؟
أفي خير ونفع ؟. أم في خسارة وضياع ؟
تالله ليسعدن أقوام يجدون ثمرة أعمالهم الخيرة في ميزان حسناتهم ، وليندمن
أقوام فرطوا في أيامهم الخالية فجنوا الندم والألم ...[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ
نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {آل عمران:30} .
عباد الله : غداً تبدأ الدراسة ، وتنطلق مسيرة العلم ، وتفتح قلاع المعرفة ،
يبرق فجر غد والناس أمامه أصناف ، والمستقبلون له ألوان، بين محب وكاره ،
ومتقدم ومحجم ، ومتفائل ومتشائم ، ومع هذه الإطلالة للعام الدراسي الجديد،
هاهنا بعض الرسائل والكلمات ، علها تكون نذر خير وإصلاح وهداية للسبيل القويم .
الرسالة الأولى : إلى رعاة الجيل وامنة التعليم ، إلى حماة مشكاة النبوة ،
والمؤتمنين على ميراث الرسالة في التعليم والتربية ، إلى المعلمين والمعلمات :
هنيئاً لكم يا أهل التربية والتعليم شرف الرسالة ونبل المهمة ، ومهما عانيتم
وقاسيتم ومهما جار البعض عليكم ، وهمش رسالتكم ، وقلل هيبتكم ، وغمطكم حقكم ،
فيكفيكم ثناء ربكم جلا وعلا ، ومدح نبيكم صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي
وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله وملائكته وأهل السموات
وأهل الأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير ".
يا أهل التربية والتعليم : لقد ائتمنتكم الأمة على أعز ما تملك ، على عقول
فلذات أكبادها ، وثمرات فؤادها ، يقضي الطالب شطر يومه في قلاع التعليم وحصون
التربية ، فماذا أعددتم لهم ؟ وبماذا تستقبلونهم ؟ وكيف ؟وماذا ستعلمونهم؟ إنهم
أمانة في أعناقكم فقدروا الكلمة التي تقولونها ، وزنوا الحركة قبل أن تتحركوها
، وأعملوا أن من أهم ما تتصفون به هو جانب القدوة والتزام أخلاقيات هذه المهنة
الجسيمة ، لأن الطلاب والطالبات يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم ،
والبيان بالفعل أبلغ من البيان بالقول .
يا أهل التربية والتعليم : إن المنهج يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى بشر
يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئ المنهج ومعانيه ، وإن ناشئ الفتيان فينا
ينشأ على الصدق إذا لم تقع عينه على غش وتسمع أذنه كذباً ، ويتعلم الفضيلة إذا
لم تلوث بيئته بالرذيلة ، ويتعلم الرحمة إذا لم يعامل بغلظة وقسوة ، ويتربى على
الأمانة إذا قطع المجتمع دابر الخيانة ، فكونوا معاشر التربية والتعليم خير
أنموذج يتمثل الخير أمام الأجيال ، وتذكروا عتاب ربكم في حال المخالفة بقوله :"
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله إن تقولوا ما
لا تعلمون "
يا أهل التربية والتعليم : إن التعليم المثمر هو الذي يسار فيه مع التربية
جنباً إلى جنب ، وإلا ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوباً خؤونا ، وما قيمة
العلم إذا كان حامله ينقض مبادئ التربية عروة عروة بسلوكه وأخلاقه ؟ قال ابن
المبارك رحمه الله : نحن إلى قليل من الأدب ، أحوج منا إلى كثير من العلم ،وقال
ابن سيرين رحمه الله عن السلف الصالح : كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم
.
يا أهل التربية والتعليم : لقد خلق الإنسان في كبد ، والمرء في هذه الحياة ساع
ولا ريب إلى مصدر رزقه ، فإما أن يخرج بنية صالحة يعود من خلالها بالأجر
والثواب ، وإما أن يرجع من عمله بثواب الدنيا فقط ، والموفق من وفقه الله .
يا قادة العلم هبوا وانشروا همما *** نطوي بها جهلنا حقاً ونزدجر
هيا إلى العلم والقرآن ننصـــــره *** أليس بالعلم والقرآن ننتصــــر
يا رب وفق جميع المسلمين لــما *** فيه الصلاح وفيه الخير والظفر .
الرسالة الثانية : إلى الطلاب والطالبات : لقد عدتم إلى مقاعد الدراسة والعود
أحمد إن شاء الله ، فاغتنموا أوقاتكم في طلب العلم وتحصيله ، لأنكم في زمنه
ووقته ولا تلهينكم المشاغل ، وعليكم بإحسان النية في تحصيله وطلبه ولا يكن
الهدف الأسمى من العلم الحصول على الشهادة ، ولئن دعت الحاجة في الدنيا إلى
الوظيفة والعمل ، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرء إلى المنازل
العالية في الجنة .
معاشر الطلاب : إن الناس إما عالم أو متعلم أو جاهل ، والعلم شرف لا قدر له ،
فهو يرفع الوضيع ، ويعز الذليل ، ويجبر الكسير ، به حياة القلوب ، وشفاء الصدور
، ولذة الأرواح ، فانهلوا منه وتذكروا أن سلك طريقاً يبتغي فيه علماً ، سلك
الله به طريقاً إلى الجنة ، وان الملائكة لتضع أجنحتها لطلاب العلم رضاً بما
يصنع ".
يا طلب العلم : إن مما لا ينبغي أن يا طالب المدرسة : إن جهوداً كثيرة تستنفر
من أجلك جهوداً مالية وذهنية ووقتية ، كل أولئك يتعاهدون سقاية نبتتك ورعايتها
، حتى تؤتي أكلها بعد حين ، فليكن ثمارك يانعة ، فالبيت يرجو منك ويؤمل ،
والمدرسة تبذل لك وتعلم ، فكن عند حسن الظن بك خلقاً وعلما ، وجد واجتهد ، ولا
يغرنكم كثرة البطالين وتذكر أن " من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية
مشرقة ".
أأبناء المدارس إن نفســــي *** تؤمل فيكم الأمل الكبيرا
فسقياً للمدارس من رياض *** لنا قد أنبتت منكم زهورا
الرسالة الثالثة : إليكم يا معاشر الأولياء : إلى شركاء المدرسة في رسالتها ،
لأن البيت هو المدرسة الأولى التي يتربى فيها الأجيال ، وينشأ فيها الفتيان
والفتيات .
وينشئ ناشئ الفتيان فينا * على ما كان عوده أبوه
معاشر الأولياء : إن مما يعاني منه الغيورون قلة الاتصال بين المدرسة والبيت
حيث يظن بعض الآباء أنه بتوفير لوازم المدرسة وحاجياتها قد انتهى دوره ، وقام
بواجبه ، دون متابعة أو سؤال ، وفئة أخرى من الأولياء آخر عهده بالمدرسة أو
الكلية أو الجامعة عندما ألحق فلذة كبده بها ، وهذا من القصور والتفريط الذي
يسأل عنه الولي في الآخرة ، ويجني عاقبته في الدنيا.
معاشر الأولياء : أحرصوا رحمكم الله على تربية أبنائكم ، ومتابعتهم أثناء
الدراسة ، تخيروا لهم رفاقهم ، واعرفوا أين يذهبون ؟ ومن يصاحبون ؟ وماذا
يصنعون ؟ وإياكم ثم إياكم أن تهدموا في أبنائكم ما يربيه المخلصون في المدارس
وقلاع العلم .
أيها الأب :
حرص بنيك على الآداب في الصغر *** كيما تقربهــــم عيناك في الكبـــــر
فإنمـــــــــا مثـــــل الآداب تجمعهـــــا *** في عنفوان الصبا كالنقش في
الحجر
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية :
عباد الله :إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها أن يحمل الطلاب على عواتقهم
كما من المقررات طيلة عام أو نحوه ، ثم يتخففون منها بأداء الامتحان ، وإن
التعليم لم يبلغ غايتها إذا حفظ الطالب أو الطالبة نصوصاً في أهمية الصلاة
وكيفيتها وشروطها وواجباتها ، وهو لا يصلي إلا قليلا ، أو يصلي على غير ما تعلم
.
أيها المسلمون: إن رسالة التعليم لن تحقق هدفها إذا كان الطالب يقرأ في المدرسة
موضوعاً في مادة المطالعة عن الصدق ، ثم يكذب على معلمه وزملائه ، وإن التعليم
لن يسير إلى مقصده إذا كان الطالب في المدرسة يكتب موضوعاً في الإنشاء عن بر
الوالدين ، ثم يخرج من المدرسة ليرعد ويزبد على أمه ، أو يعرض عن أمر أبيه .
عباد الله : بقيت همسة لطيفة أختم بها حديثي إليكم ألا وهي : عن مصاعب الحياة
التي تشتد في هذه الأيام على بعض الدارسين والدارسات ، فيشق عليهم توفير ما
يستطيع نظراؤهم توفيره ، فهل يجد هؤلاء من المدرسة رعاية خاصة ، وبطريقة مناسبة
لا تحرج شعوراً ولا تقلل قدرا ؟ وهل يجد هؤلاء الضعفاء من الآباء مساهمة في عدم
كسر قلوبهم ، حين لا يسرفون في تأمين الأدوات الدراسية لأبنائهم ، وإعطائهم من
الأموال ما يفوق حاجتهم ، مراعاة لنفسيات أبناء الأسر الفقيرة من زملائهم ؟
أيها المسلمون : لو أسهم كل واحد منا في تخفيف الأعباء المدرسية عمن يحتاج من
أقاربه وجيرانه ، لمسحنا دموعاً كثيرة، وأرحنا هموماً عديدة ، ترزح على قلوب
أولئك الضعفاء ، وإن مما يوصى به في هذا المقام أن الجمعيات الخيرية تقوم
بمشروع عظيم ، ألا وهو توفير الحقائب المدرسية لأبناء الفقراء والمحتاجين ،
فأسهموا عباد الله بأموالكم في هذا الخير ، ولا تحرموا أنفسكم باباً ساقه الله
إليكم ، [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ
حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]
{البقرة:261} .
ثم صلوا على الرحمة المهداة ...