الخطبة الأولى :
عباد الله : بغروب شمس هذا اليوم المبارك يودع المسلمون في أنحاء العالم فريضة
الحج لهذا العام ، تلكم الفريضة التي عظمت في مناسكها ، وجلت في مظاهرها ، وسمت
في ثمارها ، إنها فريضة الحج التي تضمنت من المصالح ما لا يحصيه المحصون ، ولا
يعده العادون ، تضمنت من المقاصد اسماها ، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع
أعظمها وأزكاها .
أيها المسلمون: مقاصد الحج تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبد ، وعلى
الدعوة لانتظام شمل المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية للفرد والمجتمع ،
والتزكية السلوكية للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان ، قال تعالى : { ليشهدوا
منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }
الآية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : منافع الدنيا والآخرة ، فأما منافع
الآخرة فرضوان الله جل وعلا ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن
والذبائح والتجارات.
عباد الله : إن من أبرز دروس فريضة الحج تلكم المحبة التي جعلها الله تعالى
لبيته الحرام في قلوب عباده، يستنفرهم البيت من كل فج رجالاً أو ركباناً ،قال
تعالى:{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما
رواه عنه ابن جرير وغيره : لا يقضون منه وطراً، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ،
ثم يعودون إليه ، وأنشد القرطبي في هذا المعنى قول الشاعر :
جعـل البيت مثاباً لهـم * ليس منه الدهر يقضون الوطر
وأنشد غيره في الكعبة :
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها * حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم رحمه الله " بدأ الإسلام
غريباً وسيعود غريباً وهو يأزر بين المسجدين " وفسر يأزر بمعنى ينضم ويتجمع ،
وفي معناه العام ما يفيد تعلق قلوب المسلمين بمشاعرهم .
عباد الله : لا تزال الأفئدة تهوي إلى ذلكم البيت وتتوق إلى رؤيته ، والطواف
به، الغني القادر ، والفقير المعدم ، مئات الألوف من هؤلاء وهؤلاء يتقاطرون من
أصقاع الأرض ليلبوا نداء إبراهيم عليه السلام الذي نادى به منذ آلاف السنين :
"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " ، فيا
لله لكم اشتاقت لبطحاء مكة النفوس ، وهفت لربها القلوب ، وكم من متحسر يتمنى
المبيت ليلة بمنى أو الوقوف ساعة بعرفة ، أو مشاركة الحجيج مبيتهم بمزدلفة ، أو
المزاحمة عند الجمرات ، أو الطواف بالبيت وسكب العبرات .
هذه الخيف وهاتيك منى * فترفق أيها الحادي بنا
وأحبس الركب علينا ساعة * نندب الربع ونبكي الدمنا
فلذا الموقف أعددنا البكا * ولذا اليوم الدموع تقتنى
عباد الله : ومن دروس الحج أيضاً تذكير الأمة بان أعظم ما يجب أن تهتم به وأن
تحافظ عليه وأن تغرسه في النفوس تحقيق التوحيد لله سبحانه ، وتحقيق الغاية
القصوى في الخضوع والتذلل له عز شأنه ، توجهاً وإرادة ، قصداً وعملاً ، ولذا
افتتح النبي صلى الله عليه وسلم حجته بالتوحيد كما يقول جابر رضي الله عنه :
فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك
والملك لا شريك لك ، وكذلك الأنبياء من قبل كانوا يلهجون بالتوحيد ويلبون به ،
ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في
حجه بوادي الأزرق فقال : أي وادٍ هذا ؟ قالوا : هذا وادي الأزرق ، قال : كأني
أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام هابطاً من الثنية له جؤار إلى الله تعالى
بالتلبية ، ثم أتى على ثنية أخرى فقال : أي ثنية هذه ؟ قالوا : ثنية كذا وكذا ،
قال : كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة
من صوف وهو يلبي .
عباد الله : إن الواجب علينا جميعاً استحضار ما دلت عليه هذه الكلمات من معنى ،
ومعرفة ما تضمنته من دلالات ، وعلى المسلم أن يكون على دراية عظيمة بهذا المعنى
في حياته كلها، محافظاً عليه في كل حين وآن ، مراعياً له في كل جانب ، فلا يسأل
إلا الله ، ولا يستغيث إلا بالله ولا يتوكل إلا على الله ، لا يطلب المدد
والعون والنصر إلا من الله ، مستيقنا أن الخير كله بيد الله ، وأزمة الأمور
بيده ومرجعها إليه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، ولا ينفع ذا الجد منه
الجد ، وإذا كان الأمر كذلك في حق الافراد ، فالأمة أجمع حري بها أن تستلهم من
الحج تلك الدروس والعبر ، وأن تعلم أن القاعدة الثابتة لاستقرار حياتها هو
تحقيق التوحيد لله جل وعلا في مناشط الحياة كلها ، وأن تحقق الخضوع التام لله ،
والذل المتناهي له سبحانه ترسيخاً للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة وتأصيلاً لها
في النفوس ، وإلا فبدون ذلك تتخطفها الأهواء وتتقاذفها الأوهام { الذين آمنوا
ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } .
عباد الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يكبر الله عند كل شوط في الطواف
ويكبر الله عند الصفا والمروة ، ويكبر الله عند رمي الجمار ، ويكبر الله في
أيام التشريق ، لهو يبعث في النفوس شعوراً عميقاً لقيمة ذكر الله وتكبيره في
حياة المرء المسلم ، وإن كلمة الله اكبر لهي رأس الذكر وعموده ، وهي أول ما كلف
به النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بالإنذار: { يا أيها المدثر قم فانذر وربك
فكبر } .
بالذكر عباد الله تستدفع الآفات ، وتستكشف الكربات ، وتهون به على المصاب
الملمات، قال ابن عباس رضي الله عنه " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها
وغفل وسوس فإذا ذكر الله خنس " وقال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة
في ثلاثة أشياء : في الصلاة وفي الذكر وفي قراءة القرآن ، فإن وجدتم وإلا
فاعلموا أن الباب مغلق .
عباد الله : لما غربت شمس يوم عرفة ، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص دفع
النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة وقد شنق لناقته القصواء الزمام حتى لا تسرع
وهو يقول بيده اليمنى : أيها الناس: السكينة ، السكينة ، السكينة ، السكينة.
إن هذا الموقف الجليل الذي تتسابق فيه النفوس إلى الخير، يبين أن الهدوء
والطمأنينة والسكينة وعدم الاستعجال هو الشعور الايجابي وهي الطريقة المباركة
لكل نجاح امثل .
إن العجلة أيها المسلمون من مقتضيات حظوظ النفس البغيضة والجهل بالعواقب ، وذلك
لخروجها عن الإطار المشروع حتى في حال العبادة يقول الباري سبحانه : {ويدع
الإنسان بالشر دعائه بالخير وكان الإنسان عجولا .. } بل حتى في أدق مواضع
العبادة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل
يقول : دعوت فلم يستجيب لي ... رواه البخاري مسلم ، فحري بكل عاقل أن يلزم
التأني في أموره كلها الحياتية والعبادية، لأن المرء العجل تصحبه الندامة
وتخذله السلامة ، وقد كانت العرب في القديم تكني العجلة بأم الندامات .
قد يدرك المتأني جل حاجته * وقد يكون مع المستعجـل الزلل
بارك الله لي ولكم في الوحيين ، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين ، أقول قولي
هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفورا .
الخطبة الثانية :
عباد الله : إن للحج حكماً عالية ، ومقاصد نافعة ، ففيه يتعارف المسلمون ،
يجتمعون فيه على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وأوطانهم وألسنتهم وألوانهم ، يلتقي
المسلم بإخوانه المسلمين ، فتلتقي القلوب ، وتزداد المحبة والمودة والائتلاف .
وفي الحج عباد الله تذكير بالدار الآخرة حيث يصور الحج ذلك تصويراً عجيباً ،
فالميت يتنقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، والحاج ينتقل من بلاده إلى أخرى،
والميت يجرد من ثيابه ، والحاج يتجرد من المخيط ، والميت يغسل بعد تجريده ،
والحاج يغتسل عند ميقاته ، والميت يكفن في ثياب بيضاء ، وكذا الحاج يلبس إزارا
ورداء أبيضين نظيفين ، والأموات يحشرون سواء ، وكذا الحجاج يقفون سواء كذلك،
وهذا غيض من فيض من حكم الحج ومقاصده .
عباد الله : اليوم ومواكب الحجيج تتحرك من بيت الله الحرام تودع فريضة من فرائض
الله ، حري بكم أن تذكروا قبلتكم الأولى التي ترزح في أيدي اليهود ، تذكروا أنه
من الواجب على كل واحد منكم أن يسعى إلى تطهير بيت المقدس كما طهر بيت الله من
دنس الشرك وعبادة الأوثان ، حتى يعود إلى المسلمين ويدخلوا فيه أعزة ظاهرين
ليعبدوا الله وحده ويسبحونه ، وحتى ترفع فيه كلمة الله ، ولن يكون ذلك إلا
بالرجوع إلى الله سبحانه ، والعمل بكتابه وإتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
، ويومها نجد النصر حليفنا والفوز معنا ، قال سبحانه : { إن تنصروا الله ينصركم
ويثبت أقدامكم ) ، وقال أيضاً عز ذكره : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي
عزيز } .
عباد الله صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه .