الخطبة الأولى :
أيها المسلمون : دين الإسلام دين نظافة وطهارة ، وملة تهذيب ونزاهة ، طهر الله
به القلوب والأبدان ، وهذب به السلوك والأخلاق، فكما اعتنى الإسلام بتطهير
الباطن من الشرك والمعاصي ، اعتنى بتطهير الظاهر من الحدث والنجاسة، وذلك لأن
طهارة الظاهر ، دليل وعنوان على طهارة الباطن .
عباد الله : إن مما أوجب الله عليكم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
عبادة ذات أثر على القلب والبدن ، رتب الله عليها الثواب والجزيل والأجر
العظيم، تلكم العبادة هي عبادة الطهارة من المعاصي وسيء الأخلاق ، والطهارة من
الأحداث والأدران، فهي عبادة ذات شقين :
طهارة معنوية وعليها المعول : أن يطهر الإنسان قلبه ونفسه من الشرك والذنوب
والعصيان ، وهذه الطهارة هي التي أرسل الله جميع الرسل لأجلها (ولقد بعثنا في
كل أمة رسول أن أعبدوا لله واجتنبوا الطاغوت ) ، أما الطهارة الأخرى فهي رفع
الحدث وإزالة الخبث .
أيها المسلمون: إن من أوائل ما أنزل الله على رسولنا من التشريعات قوله سبحانه:
وثيابك فطهر والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق ، والطهارة من الحدث ، والطهارة من
النجاسات كلها .
عباد الله : لقد جاءت الطهارة في النداءات الأولى لهذه الشريعة لتبين أهمية
الطهارة في الإسلام ، وعظم منزلتها ، وقد جاء النص في القرآن الكريم بمحبة الله
سبحانه للمتطهرين : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين ) ، قال
ابن سعدي رحمه الله : يتطهروا من الذنوب ، ويتطهروا من الأوساخ ، والنجاسات ،
والأحداث . أ .هـ .
عباد الله : إن الوضوء للصلاة من أعظم الطهارات التي رتب الله عليها الأجر
العظيم، فهو سبب لمحو الخطايا ورفع الدرجات ، قال صلى الله عليه وسلم : (إذا
توضأ المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع
أخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو
مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة بطشتها رجلاه مع الماء أو مع
آخر قطر الماء ، حتى يخرج نقياً من الذنوب ) أخرجه مسلم .
أيها المسلمون: الوضوء هو السمة التي تتميز بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم من
بين سائر الأمم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم :( إن أمتي يدعون يوم
القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ) أخرجه الشيخان، ولقد جعل المصطفى صلى
الله عليه وسلم المحافظة على المحافظة على الوضوء دليلاً على الإيمان ، وكفى
بهذه الرتبة فخراً وشرفا قال صلى الله عليه وسلم :( استقيموا ، ونعما إن
استقمتم ، وخير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) أخرجه الإمام
أحمد ، وصححه الألباني رحمهما الله .
عباد الله : صفة الوضوء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويها لكم أمير
المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث دعا بوضوءٍ فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاث
مرات ، ثم مضمض واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى
المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله
اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم قال : رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام إلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له
ما تقدم من ذنبه ) . أخرجه الشيخان .قال ابن شهاب الزهري رحمه الله : وكان
علماؤنا يقولون : هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة .
عباد الله :الوضوء للصلاة فرضه الله على هيئة يسيرة يطهر به المرء المسلم أربعة
مواضع من أعضائه فقط : وهي الوجه واليدان والرأس ، والرجلان، ففي الوجه النظر
والشم والكلام ، وفي الرأس السمع والفكر ، وفي اليدين البطش ، وفي الرجلين
الخطى، ولما كان عمل المرء في هذه الحياة ، لا يكاد يخرج عن عضو من هذه الأعضاء
، والمرء بطبعه خطاء ، شرع الله للمسلم الوضوء ليعينه على تطهير أدرانه ،
وتكفير ذنوبه التي اقترفها بتلك الجوارح .
أيها المسلمون : وإذا توضأ المؤمن فقد أدى طهارة بدنه ، فيقول كلمة التوحيد
تأكيداً على طهارة قلبه من الشرك ، ويسأل الله أن يديمه على هذا التطهير ، عن
عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم : ( من توضأ فأحسن
الوضوء ثم قال أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله ، اللهم أجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، فتحت له أبواب
الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ) أخرجه الإمام مسلم دون زيادة (اجعلني من
التوابين) فهي عند الترمذي رحمه الله .
عباد الله : ها هنا بعض المسائل المتعلقة بالوضوء أوردها على سبيل الإجمال
ومنها :
-من نسي التسمية فوضوئه صحيح ، فإن ذكرها في أثناء الوضوء سمى ، وليس عليه أن
يعيد الوضوء .
-ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرةً مرة ، ومرتين مرتين ، وثلاثاً
ثلاثاً ، وثبت عنه أيضاً أنه خالف بين أعضائه في عدد الغسلات فغسل وجهه ثلاثاً
، ويديه مرتين ، ورجليه مرة ، وكل هذا ثابت في سنته صلى الله عليه وسلم والأفضل
أن يأتي العبد بهذا مرة ، وبهذا مرة حتى يدرك سنته كلها.
-من عليه أسنان صناعية أو مركبة ، لا يجب عليه أن يزيلها عند الوضوء لأنها مثل
الخاتم لا يجب نزعه ، والأفضل أن يحركه ليصل الماء إلى ما تحته .
-الأفضل في الأذنين أن تمسحا ببقية البلل الذي بقى بعد مسح الرأس ، فلا يلزم
أخذ ماء جديد لهما .
-يجب على المرأة أن تزيل طلاء الأظافر – المناكير- قبل الوضوء لأن لها جرماً
يمنع وصول الماء ، أما الحناء فلا يؤثر على الغسل ولا على الوضوء لأنه لا يمنع
من وصول الماء إلى البشرة .
-مسح الرقبة في الوضوء غير مشروع ، لأنه لم يثبت في كتاب الله تعالى ولا في سنة
رسوله صلى الله عليه وسلم أن مسح الرقبة من سنن الوضوء .
-لا بأس بتنشيف الأعضاء بعد الوضوء لأن الأصل عدم المنع .
- إذا صلى العبد بوضوئه استحب له أن يجدد وضوءه للصلاة الأخرى ، أما إذا لم يصل
بوضوئه فلا يجدد ، قال تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : وإنما تكلم الفقهاء
فيمن صلى بالوضوء الأول هل يستحب له التجديد ، أما من لم يصل فلا يستحب له
إعادة الوضوء بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم . أ . هـ .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وأنفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً وعملاً يا حي يا
قيوم .
الخطبة الثانية
عباد الله : مع شرف الوضوء في الإسلام ومكانته ومع يسره وسهولته ، فإن الناس
فيه طرفان ووسط ، طرف فرطوا في الوضوء ، لا يقيمون له وزناً ، ولا لأحكامه
قدراً ، إما تهاوناً بشأنه وإما جهلاً بصفته الشرعية ، ونسي أولئك أن الأجر
العظيم في الوضوء إنما رتب على إسباغه وتمامه وإحسانه قال عليه الصلاة والسلام
: ( ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم يصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه
إلا وجبت له الجنة )، أخرجه مسلم ، وفي حديث أخر قال صلى الله عليه وسلم : (من
أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن )) أخرجه
الإمام مسلم، أما الطرف الثاني من الناس فقد أفرطوا في الوضوء ، يتوضأ أحدهم
للصلاة الواحدة عشرات المرات ، ويمكث في دورات المياه لإتمام وضوئه الساعات ،
تفوتهُ الجمعُ والجماعات وهو معذب باستعمال الماء ، ووسوسة الشيطان ، ولمثل
هؤلاء يقال دلت السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم
يكونوا يكثرون صب الماء في الوضوء، ومضى على هذا التابعين لهم بإحسان ؛ جاء في
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثم قال :( هذا الوضوء فمن زاد
على هذا فقد أساء وظلم ) ، وقال الإمام ابن المبارك رحمه الله: لا آمن على من
أزداد على الثلاث أن يأثم ، ويقول الحسن البصري رحمه الله : إن شيطاناً يضحك
بالناس في الوضوء يقال له : الولهان، ومما يروى في هذا أن أحد المبتلين
بالوسوسة رأى أبا الوفاء بن عقيل يتوضأ ، فتعجب من قلة استعماله الماء ، ثم قال
له يا إمام : إني لأنغمس في النهر ثم أخرج منه وأشك : هل صح وضوئي أم لا ، فقال
له ابن عقيل : لقد سقطت عن الصلاة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
رفع القلم عن ثلاثة ... وذكر منهم .. المجنون حتى يفيق )) وأنت هو .
ألا فاتقوا الله عباد الله ، وتفقهوا في دينكم ، وأحسنوا الوضوء ، ولا تسرفوا
إنه لا يحب المسرفين .
اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين ، ونعوذ بك ربنا أن يحضرون اللهم أعنا على
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .