الخطبة الأولى :
عباد الله : أنزل الله تعالى كتابه ليكون على الناس حجة ، حجة يوم العرض لمن
فرط فيه ، وشافعاً لمن عمل به ، وقد ضمن المولى سبحانه كتابه الخير ورغب فيه ،
وحذر من الشر وتوعد عليه ، قال بعض السلف : من لم تنفعه موعظة القرآن ، فلن
تنفعه موعظة ولو تناطحت الجبال بين يديه ، وإن من المواعظ التي اشتمل عليها
القرآن تلك القصص التي لا تكاد تخلو منها سورة من سور القرآن فهي تحكي لنا
أخبار الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، يجد القارئ والسامع فيها التسلية
والعبرة ، والتفكر والاصطبار والتأسي والاقتداء ، ومن القصص القرآني الفريد في
بابه ، العظيم في معانيه وعبره، المعجز في لفظه وأحداثه ، ما قصه الله سبحانه
وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مما جرى بين ابني آدم لصلبه .
هذان الابنان يسميان بـ ( قابيل وهابيل ) وهذه التسمية المشهورة لهما ، إنما هي
من نقل العلماء عن أهل الكتاب ، لم يرد بها نص في القرآن ، ولا جاءت في سنة
ثابتة ، فلا علينا أن لا نجزم بها ولا نرجحها كما يقول العلامة أحمد شاكر.
عباد الله: قربا الولدان قرباناً فاخرج كل منهما شيئا من ماله ، بقصد التقرب
إلى الله تعالى ، فتقبل الله من أحدهما صدقته ولم يتقبل من الآخر، وكانت قرابين
الأمم الماضية علامة قبولها أكل النار ما تقبل منها ، وترك ما لم يتقبل ، قال
الابن الذي لم يتقبل منه لأخيه حسداً وبغياً لأقتلنك فقال له أخوه مترفقاً له
في ذلك :" إنما يتقبل من المتقين " أي من المتقين لله في ذلك العمل بأن يكون
عملهم خالصاً وصواباً .ثم قال له مخبراً أنه لا يريد أن يتعرض لقتله ، لا
ابتداء ولا مدافعة فقال : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك
لأقتلك " ، وليس ذلك جبناً منه ولا عجزاً ، وإنما لأنه يخاف الله رب العالمين ،
حيث حرم الله قتل النفس بغير النفس ظلماً ، والخائف لله لا يقدم على الذنوب
صغيرها وكبيرها ، وإذا دار الأمر بين أن أكون قاتلاً أو مقتولاً فإني أوثر أن
أكون مقتولاً فتبوء بالوزرين وترجع بالأثمين ، الإثم الأول أثم القتل بغير الحق
، والإثم الثاني أثم معاصيك التي عملت من قبل ، " فتكون من أصحاب النار وذلك
جزاء الظالمين " فإن قتلتني فإن عاقبة قتلك إياي أن تكون من سكان النار التي هي
ثواب التاركين طريق الحق ، الزائغين عن قصد السبيل ، المعتدين ما جعل الله لهم
إلى ما لم يجعل لهم ، وهذا يدل على أن الله عز وجل كان أمر ونهى آدم بعد أن
أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد ، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل : فتكون من
أصحاب النار بقتلك إياي ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين ، وفي الآيات دلالة
أيضاً على أن القتل من كبائر الذنوب ، وأنه موجب لدخول النار .
أيها المسلمون: لم يرتدع الأخ الجاني ولم ينزجر ، ولم يزل يراود نفسه حتى طوعت
له نفسه قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه ، فقتله فأصبح من الخاسرين
دنياهم وآخرتهم ، وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل :" ومن سن سنة سيئة ، فعليه
وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " . أخرج الإمام أحمد وغيره أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال :" ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول شطر من
دمها ، لأنه أول من سن القتل ".
عباد الله : لما قتل الأخ أخاه لم يدر كيف يصنع به ، لأنه أول ميت مات من بني
آدم ، فبعث الله غراباً يبحث في الأرض أي يثيرها ليدفن غراباً ميتاً ، فجعل
الغراب الحي يواري سوءة الغراب الميت ، فقال القاتل لأخيه : يا ويلتا (كلمة
تحسر) لما رأى الدفن من الغراب وأنه أكبر منه علماً ، وأن ما فعله كان جهلاً
فندم وتحسر ، ثم وارى سوءة أخيه (أي بدنه) لأن بدن الميت عورة ، فأصبح من
النادمين على ما أقدم عليه من قتله أخاه .
أيها المسلمون : من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً شرع الله على أهل
الكتب السماوية أنه من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض ، واستحل
القتل بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، لأنه لا فرق عند القاتل
بين نفس ونفس ، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل، علم انه لا فرق
عنده بين هذا المقتول وبين غيره ، ومن أحياها بأن استبقا نفس أحد فلم يقتله مع
دعاء نفسه إلى فعله فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار وذلك أحياء لها.
عباد الله : قرن الله سبحانه في الآيات السابق ذكرها قتل النفس بالفساد في
الأرض ، وجعل كلاً منهما مبرراً للقتل ، وذلك لأن أمن الجماعة المسلمة ، وصيانة
النظام العام ضروري لأمن الأفراد ، فالذي يهدد أمن المجتمعات المسلمة هو عنصر
فاسد يجب استئصاله ، ما لم يرجع إلى الرشد والصواب ، وقد أوضح المولى سبحانه
عقوبة المفسدين في الأرض فقال : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون
في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا
من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".
عباد الله : إن المبارزين لله ورسوله بالعداوة ، المفسدين في الأرض بالكفر ،
والقتل ، وأخذ الأموال ، وإخافة السبيل ، المعتدين على أهل دار الإسلام
المقيمين للشريعة سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ، إن أولئك
يحاربون الله ورسوله ، وإن كانوا بفعلهم يحاربون الجماعة المسلمة والإمام
المسلم، إنهم قطعاً لا يحاربون الله سبحانه بالسيف ، ولا يحاربون رسوله صلى
الله عليه وسلم بعد اختياره للرفيق الأعلى ، ولكن الحرب منهم لله ورسوله متحققة
بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار
التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون : إن الجزاء الذي يلقاه أولئك المحاربون لله ورسوله في الحياة
الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة ، وهذا كله
تغليظ للعقوبة ، وتشنيع للجريمة ، ذلك أن الجماعة في دار الإسلام يجب أن تعيش
آمنة ، والسلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة ، وهذا هو
الوسط والخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره ، وهذا هو أيضاً
النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به ، فإذا ارتدع هؤلاء
المحاربون لله ورسوله ، الساعون في الأرض فساداً عن غيهم وفسادهم ، نتيجة
استشعارهم نكارة الجريمة ، وتوبة منهم إلى الله ، ورجوعاً إلى طريقه المستقيم ،
كان الله غفورا لهم رحيما بهم في الحساب الأخير في الدار الآخرة .
الخطبة الثانية :
عباد الله : لقد جاء الإسلام بحفظ الأنفس والأرواح ، وحرم الاعتداء عليها
والأنفس المعصومة أربعة : المؤمن وهو أشدها وأكرمها على الله ، والمعاهد ،
والذمي ، والمستأمن ، فهذه الأنفس المعصومة لا يجوز الاعتداء عليها ، أو
استحلال دمها، قال صلى الله عليه وسلم :" لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم
يصب دماً حراماً " رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ
مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ،
والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .متفق عليه .
أيها المسلمون : إن الحفاظ على أنفسكم وأموالكم وأمن بلادكم أمانة في أعناقكم
فكونوا لبنة خير ، وقفوا في وجه من يريد الإفساد والفساد بدينكم ومقدساتكم، ثم
صلوا على نبيكم كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .