•
ثلاثون دقيقة وأنت تطل وبشغف من هذه النافذة الصغيرة ! والذي يراك هكذا يحسب
أنك لم تركب طائرة قبل هذه المرة ! هل ستستمر هكذا طيلة الطريق ، وتتركني
للسآمة والملل ، ما هكذا تكون الصحبة يا أخي !!
•
رويدك رويدك يا رفيقي ، فهذه المناظر الخلابة قد أخذت من لباب عقلي كل مأخذ .
•
أخبرني ماذا رأيت ، هل أبصرت شيئاً جديداً !! أرجوك اغضض من صوتك حتى لا
يسمعك أحد فتكون مثار دهشتهم أو حتى ضحكهم .
•
نعم ، السماء هي السماء ، والجبال هي الجبال و ..
•
والأرض هي الأرض طبعاً ..ماذا في ذلك ؟
•
لكن الإنسان في حياته اليومية منشغل عن هذه العبادة العظيمة .
•
يظهر أن مشقة السفر بدأت تحط رحالها في فكرك قبل أن تسافر ، وإلا فأيّ عبادة
تتحدث عنها وأنت تحملق بعينيك من هذه النافذة ؟
•
ألا تثير إعجابك هذه المئات من الناس التي تصحبك على متن هذه الطائرة ، وكيف
هي متعلقة الآن بين السماء والأرض ، وقد لفّ قلوبهم الأمان ، وتوّج نفوسهم
الاطمئنان ؟
•
الحق أن هذا المنظر قد اعتدت عليه ،فلم يعد يثير مكامن الإعجاب في نفسي .
•
وهل يستحق منك في واقع الأمر تفكراً وتأملاً ؟
•
نعم وبدون ريب .
•
وممن تذهل ؟
•
أذهل من الإنسان ، وكيف بلغ عقله هذه الذروة في التفكير .
•
فقط ؟؟
•
وماذا غير ذلك ؟
•
إنها نتيجة كنت أريد الوصول إليها ، مع أني كنت أخشاها !!
•
أفصح عما في نفسك .
•
قل بربك أيّ شيء عقل الإنسان أمام هذه السموات العظام ، وتلك الجبال الضخام ؟
•
الحق : لاشيء ..
•
وأيّ شيء عقله مقابل ما بسط له في الأرض من ثمر وبحر ونهر ؟
•
أيضاً : لاشيء .
•
هل يستطيع عقل الإنسان أن يعلق جزءاً من سماء كما علق هذه الطائرة على حد
قولك ، أم هل يستطيع علمه أن يجري السحاب كما ترى أمثال الجبال ، أم هل
يستطيع أن يضيء الدنيا بشمس كهذه الشمس التي تضيء بنور خالقها سبحانه ؟
•
لا والله لا يستطيع . . لا يستطيع .
•
والآن قل لي : من الذي يستحق منا أن نتأمل في قدرته وعظيم خلقه ؟
•
إنه الذي يقدر على ذلك كله ؟
•
أتعلم من هو يا رفيق دربي ؟ إنه الذي خلق عقل الإنسان ، ورفع السموات بغير
عمد نراها ، وبسط الأرض بكل مقدراتها ، وضرب أوتاد الجبال الشامخات أن تميد
بنا الأرض ، وأجرى لنا الأنهار ، وأحاطنا بالبحار ، وفوق هذا كله أمدنا بعظيم
كرمه ، وجميل حلمه ، إنه الله يا أخي ، نعم إنه الله .
•
سبحانه جلّ من خالق عظيم ، لكنك قبل قليل أطلقت لفظ العبادة ، فما صلت
العبادة بموضوعنا هذا ؟
•
إن الله حينما سخر لنا هذه النعم ، ومكننا من الانتفاع بها ، أمرنا أن نتعبده
بالتفكر في عظيم صنعه إياها ، وإبداعه لدقة خلقها ، والتأمل في سحر جمالها ،
وجعل هذا من صفات أصحاب العقول النيرة ، والنفوس المؤمنة .
•
يبدو أنك تشير إلى قول الله سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَاب . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . }
.
•
ليس هذا الموضع من كتاب الله فحسب الذي يدل على هذا المعنى الجليل ، وإنما هي
آيات كثيرة ، حثنا الله عز وجل فيها على هذه العبادة الشريفة ، التي غالباً
ما ينشغل عنها الإنسان بسبب ما يدور في فلك فكره من هموم الدنيا ومشاغلها .
•
ولعلك توافقني الرأي أن مما يساعد الإنسان على أداء عبادة التفكر ، خروجه
للنزهة ، أو السفر إلى منطقة يتجسد فيها الإبداع الإلهي أكثر من غيرها .
•
هو كذلك يا أخي .
•
لكنني لا أريد أن أفهم منك أنك تستحقر ما يبدعه عقل الإنسان من اختراعات ،
وما ينشئه من حضارات .
•
كلا ، أنا لم أقصد هذه النتيجة الخاطئة ، كيف وإن كل عظمة يتوصل إليها بنو
آدم تدل بكل معانيها وأسرارها على عظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي خلق
الإنسان وهداه إلى هذا التقدم والرقي .
•
سبحان الله !!
•
مم العجب يا صاحبي ؟
•
إن حال الإنسان هي التي تثير عجبي ، فالله عز وجل يخبر _ وخبره اليقين _ أن
الإنسان خلق من ضعف إذ يقول عز من قائل :
{ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ
ضَعِيفًا = 28 } ، وهو مع هذا يمن على
عباده أن أظلهم بسماوات عظام واسعات ، وأقلهم بأرضين فساح مهد لهم فيها
متاعهم ومنافعهم فقال سبحانه وتعالى :
{ وَ السَّمَاءَ بَنينَاها
بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .} .
•
والحال يقيناً يختلف بين هذه المخلوقات في خلقها وفي خُلقها .
•
أراك أدركت موطن الاستغراب ، فيا ليتك تكشف عنه .
•
لعلك تتذكر معي قول الله تعالى :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ، هل
تأملت يا أخي كيف تسارعت هذه المخلوقات العظيمة إلى استجابة أمر خالقها بدون
تردد أو عصيان .
•
هذا ما أريد ، ولكن يأبى الإنسان إلا أن يضيف إلى ضعفه جهلاً ، فتراه يقابل
الفضل بالنكران ، والكرم باللؤم ، والجميل بالنسيان ، وإلا فالسماوات تطيع
وهو يعصي ، والأرض تخضع وهو يتكبر !!.
•
وعلى مَنْ ؟ على مَنْ كرّمه على كل مخلوقاته ، وسخّر له أجلّ نعمه وأعظمها ،
والله عليم بخلقه ، وخبير بجحودهم ، فهاهو سبحانه بعد أن عدد عليهم نعمه يقول
:
{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ }
.
•
ما أروع أن ينيب المرء إلى خالقه سبحانه ، فتعلوه سحابة الهيبة من جلاله
وعظيم قدره ، لأنه بدون ذلك لا يستطيع أن يشعر بفقره لغناه ، وحاجته لفضله ،
حتى يكون في محل التكريم الذي فضله الله به .
•
ما زالت مظاهر الجمال والإبداع الإلهي تثير في فكري معاني كثيرة .
•
هات ما عندك أرجوك ، فلا أجمل من أن يقطع الطريق بهذه العبادة الجليلة .
•
أجْمِل بالمرء أن يسمو كهذه السماء ؟
•
أنت تطلب المستحيل ؟
• لم تفهمني بعد !!
•
إذاً ماذا تقصد ؟
•
إن الذي رفع هذه السماء تعهّد بأن يرفع الإنسان ؛ إذا سلك أسباب السمو
والرفعة ، أليس العلم يرفعه ، والتواضع يعليه ، والخلق الحسن يرتقي به في
أعلى الدرجات ، وقراءة كتاب الله تعالى تسكنه أسمى الجنات ؟
•
بلى وربي إن ما تقوله حق ، وفي ذلك يقول عز وجل :
{ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . } ، ويقول صلى
الله عليه وسلم :
(ما تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا
رَفَعَهُ اللَّهُ )
رواه مسلم
.
•
ويقول كذلك عليه الصلاة والسلام :
( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ
إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَسَكَتَ
الْقَوْمُ ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، قَالَ الْقَوْمُ :
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ :أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا )
رواه أحمد
،ويقول :
(يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ
اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ؛
فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا )
رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ
.
•
وماذا توحي لك هذه الأرض المنبسطة مع صلابتها ، وتلك الجبال الممتدة مع
شموخها ؟
•
إن لسان حالها يصرخ في وجه الإنسان : تواضع فإنك لن تقوى قوتي ، ولن تبلغ
طولي ، فاعرف ضعف نفسك ، وقلة حيلتك .
•
ولقد صدق أحسن الخالقين حين قال :
{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا }
، والآن ماذا تقرأ في هذه اللوحة التي بدأت تطل من بعيد .
•
أتقصد أننا اقتربنا من الوصول ؟!
•
نعم ، وإلا فما معنى هذه المباني ، وتلك الأضواء .
•
سبحان الله ، لقد هان السير ، وانقضت مدة الطريق ونحن لم نشعر .
•
أرأيت ، لقد كنت تريد أن تتركني تفترسني وحوش الهموم والغموم في هذه المسافة
، فالحمد لله أن جعلني أشاركك تأملك وتفكرك في آلاء الله تعالى ، غير أني
أريد أن تجيب على سؤالي الأخير .
•
إنها لوحة الفتنة والإغراء ، تلك هي الدنيا ، جمال .. ودعة .. واستقرار ..
ولهو .. وزينة .. غير أن ذلك كله متاع قليل لا يساوي عند الله جناح بعوضة ،
فطوبى لمن عرف قدرها الزائل ، وعمل لما هو أبقى .
•
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا .
•
اللهم آمين .
•
اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين
وما أضللن ، و رب الرياح وما ذرين ، نسألك خير هذه القرية ، وخير أهلها ،
وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها ، وشر أهلها ، وشر ما فيها .
•
اللهم آمين .