(ولذلك جاءت السنة
بتقسيمالعلم
إلى نافع وإلى غير نافع. والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع. وسؤال العلمالنافع
ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ( اللهمإني أعوذ
بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجابلها).
وخرجه أهل السنن من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعضها ومندعاء لا
يسمع. وفي بعضها أعوذ بك من هؤلاء الأربع وخرج النسائي من حديث جابر أنالنبي
صلي الله عليه وسلم كان يقول (اللهم إني أسألك علماً نافعاً وأعوذ بك من علملا ينفع)
وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
(اللهم
انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً) وخرج النسائي من حديث أنسأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يدعو (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعنيوارزقني
علماً تنفعني به) وخرج أبو نعيم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلمكان يقول
(اللهم إنّا نسألك إيماناً دائماً فرب إيمان غير دائم وأسألك علماً نافعاًفرب علم
غير نافع)).
بعد أن أشار المصنف رحمه الله إلى دلالة الكتاب على العلم النافع والعلم الغير
نافع بين أن السنة أيضا على دلت على انقسام العلم إلى نافع وغير نافع وقد دلت
السنة على ذلك من وجوه:
1- تارة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم ربه العلم النافع.
2- وتارة باستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من العلم الذي لا ينفع.
3- وتارة بمدح العلم والثناء على طالبه وبيان فضائله.
4- وتارة بذم فساد نية العلم وسوء استخدامه في سبيل الهوى والباطل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه العلم النافع مما يدل على أنه ليس كل
علم نافع إما باعتبار وضعه من حيث الأصل وموضوعه أو باعتبار ما يترتب ويؤول
إليه من فساد القصد أو العمل أو الاستطالة والتكبر به على عباد الله. وكان
يستعيذ من العلم الذي لا ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة فلا يكسب العبد قصدا
صحيحا ولا معرفة تامة ولا عملا صالحا ولا يزكي النفس ويهذب الجوارح. ولهذا كان
يستعيذ أيضا صلى الله عليه وسلم من القلب الغافل اللاهي القاسي الذي لا يتأثر
بالمواعظ والزواجر والعبادات . ويستعيذ أيضا من النفس الشحيحة الشرهة على حطام
الدنيا التي لا تشبع ولا تقنع أبدا من جمع المال وهذا داء خطير إذا اتصف به
المؤمن أصيب في مقتل. ويستعيذ أيضا من الدعوة التي لا يستجيب لها الرب ولا ينظر
فيها لكونها مشتملة على موانع وأسباب تمنع من نفوذ أثرها لوقوع السائل في شيء
من المكاسب المحرمة أو القطيعة أو الإثم فهذه الأحوال الأربعة التي استعاذ منها
النبي صلى الله عليه وسلم شر الأحوال التي من ابتلي بها محقت بركته ومن سلم
منها واتصف بضدها كان في خير وتوفيق وبركة وموافقة للشرع ظاهرا وباطنا. وسؤال
النبي صلى الله عله وسلم النفع بالعلم يدل على أن العلم بحد ذاته ليس مقصودا في
الطلب فقط وإنما المقصود الثمرة من العلم زكاء الباطن وصلاح العمل والقصد
ليتحقق نفعه وتعظم بركته وتظهر آثاره الحسنة على العبد أما التحلي فقط بمجرد
العلم والمكاثرة بذلك دون اتباعه بالعلم والوقوف عند حدوده فهذا مذموم شرعا
ومخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون وبالا على صاحبه وحجة يخاصمه يوم
القيامة ويفضحه على رؤوس الأشهاد فنسأل الله أن يسترنا بستره ولا يفضحنا بسوء
عملنا وتفريطنا.
(وخرج أبو داود من حديث بُريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ
منَ البيان سحراً وإن من العلم جهلاً) وإن صعصعة بن صوحان فسر قوله (إن منالعلم
جهلاً) أن يتكلف العالم إلى علمه مالا يعلم فيجهله ذلك. ويُفسر أيضا بأنالعلم
الذي يضر ولا ينفع جهل. لأن الجهل به خير من العلم به. فإذا كان الجهل بهخيراً
منه فهو شر من الجهل. وهذا كالسحر وغيره من العلوم المضرة في الدين أو فيالدنيا).
بعد أن ذكر المصنف دلالة السنة على العلم الغير نافع ذكر أيضا أنه ورد في سنن
أبي داود ما يدل على أن من أنواع العلوم ما يسمى جهلا وهذا مشكل في الظاهر ولكن
عند التأمل يزول هذا الإشكال. وقد ذكر المصنف وجهين لتفسير إطلاق الجهل على نوع
من العلوم:
1- أن يكون المراد أن يتكلم العالم في مسائل لا يعلم حقيقتها ولا دليلها ولا
حكم الشرع فيها فيقع في الجهل والوهم والخطأ فيؤدي ذلك إلى انتزاع ثقة الناس في
باقي علمه وعدم اطمئنانهم لفتواه ورأيه فينسب علمه إلى الجهل ويلحق بالجهال
فيزهد الناس فيه. ونسب هذا الوجه إلى صعصعة بن صوحان وهو العبدي الكوفي من
سادات بني عبد القيس كان خطيبا فصيحا عاقلا صالحا من رجال علي بن أبي طالب
مخضرم أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره فهو من التابعين. وقد حذر
السلف من سلوك هذا المسلك وكانوا إذا سئلوا عما يجهلون يستوثقون لعلمهم وفتواهم
بقول الله أعلم.
2- أن يكون المراد أن هذا العلم وإن كان محصله يغتر بتعلمه وجمعه إلا أنه يضره
في الحال والمآل لأنه شر وباطل وما كان كذلك كان الإعراض عن تعلمه أولى وأليق
من طلبه وتحصيله وهذا الضرب من العلم أسوأ من ترك العلم جملة. وقد مثل المصنف
له بعلم السحر ويدخل فيه علم البدع والرأي الفاسد والموسيقى والمجون ونحو ذلك
فكل علم يضر الإنسان ويفسد دينه ودنياه فهو جهل وإن اغتر به الناس وكثير من
العلوم اليوم تعد من الجهالات والسخافات التي لا ينبغي إعمال العقل فيها وصرف
الوقت والمال في تحصيلها. والمرجع في تمييز العلوم ومعرفة النافع من الضار إلى
أهل الخبرة والاختصاص الموثوق بأمانتهم وعلمهم وسيأتي إشارات في كلام المصنف
إلى جملة من العلوم الفاسدة التي أولع بها المتأخرون.