|
ركز الله جل وعلا في فطرة الإنسان حب التساؤل والتطلع إلى معرفة المجهول .
وتاريخ الإنسانية حافل بالجهود التي يحاول الناس من خلالها الخروج من العماء و
( اللاتكوّن ) . والإنسان إذ يحاول التعرف على الوسط الذي يعيش فيه يسعى إلى
فهم ذاته وتيسير حركته واستثمار طاقاته ، وهو في سبيل ذلك مطالب بأن يعرف
الكثير الكثير من الحقائق ، وذلك لا يتم إلا بامتلاك المنهج والأدوات الملائمة
. إن مما هو مألوف أن نجد بعض الحقائق يبدي طواعية من غير حدود ، حتى إذا حاولت
القبض عليه واستيعابه تأبّى على التشكل على نحو ما نجده في المادة الهلامية .
وهذا ما يخدع كثيراً من الناس ؛ حيث يكون قبضهم إذا يظنون أنهم قبضوا على ما
يشبه السراب .
ولعلِّي أسلط الضوء على هذه المسألة
المهمة من خلال النقاط الآتية :
1 -
إدراك الإنسان للمحسوسات والمجسَّمات أسهل بكثير من إدراكه للمعنويات والعقليات
؛ فنحن نكاد لا نبذل جهداً يذكر في التعرف على لون ثوب أو مساحة غرفة أو وزن
هاتف ، أما إذا تحدثنا عن شجاعة شخص أو أثر الرخاء في حياة شعب ، أو أثر اليتم
في حياة طفل ومستقبله ، فإننا سنختلف اختلافاً بيناً في ذلك ؛ حيث يكون التعامل
مع عناصر غير ملموسة ، وبعضها غامض جداً يصعب الحدس به .
دعونا نقول : إن ( الحقيقة ) ليست ذات جوهر واحد ، أو ذات طبقة واحدة ، وإنما
هي ذات طبقات عدة ، بعضها فوق بعض ، وكلما صرنا للبحث في طبقة أعمق احتجنا في
إدراكها والتعامل معها إلى أسلوب جديد أو وسيلة جديدة ، ووجدنا أنفسنا على أرض
هشة ؛ حيث يشتد النقص في وسائل المعرفة ، كما يزداد الاعتماد على عناصر ذات
طابع يكاد يكون شخصياً .
حين نرى ( قلماً ) فإننا نعرف سماته الظاهرة لأول وهلة ؛ فإذا أردنا أن نعرف (
ثمنه ) وجدنا أنفسنا بحاجة إلى درجة من الخبرة التجارية وأسعار الأقلام في
السوق ؛ فإذا تجاوزنا ذلك إلى معرفة المواد التي صُنع منها القلم ومقدار كل
منها والتقنية المستخدمة فيها وجدنا أنفسنا أمام معضلة كبرى ، ووجدنا أن
الاقتراب من ذلك يتطلب وجود مختبرات متطورة وتجارب كثيرة وخبرات متخصصة وراقية
؛ ومع كل ذلك ففي الغالب تكون النتائج متواضعة ، وإلا لأمكن اقتباس أسرار
التقنية المتقدمة بسهولة . ونحن في كل هذا نتعامل مع شيء محسوس ، لكننا تجاوزنا
ما يوقفنا عليه النظر العابر إلى طبقات أعمق من الحقيقة .
2 -
في المسائل الصغيرة والمحدودة نستخدم الحواس والأخبار المتواترة والمستفيضة ،
ونصل إلى أحكام قطعية أو شبه قطعية ، وذلك كحكمنا بأن زيداً من الناس موجود
معنا في هذه الحجرة ، وكإيماننا بوجود بلد اسمه ( الصين ) وشخص مضى اسمه : حاتم
الطائي أو الذهبي . ونحن لا نستخدم في إدراك هذا النوع من الحقائق والمعارف
مقدمات أو عناصر ذهنية ؛ ومن هنا حصلنا على معرفة يقينية أو شبه يقينية .
أما إذا أردنا الاقتراب من قضية أو حقيقة ذات بنية مركبة فإن الأمر سيكون
مختلفاً جداً . وتكون البنية مركبة إذا ساهم في تشكلها عدد من الروافد
المتباينة أوالمتقاربة ؛ وذلك كما إذا أردنا الوقوف على ما جرى في معركة من
المعارك ، والآثار الرمزية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها . في مثل
هذه الحالة يكون من غير الممكن فهم هذه الحقيقة أو الحقائق المركبة على نحو
مباشر ؛ ولا بد من استخدام وسيط معرفي ، يسميه بعض الباحثين اليوم بـ (
الإشكالية ) . هذه الإشكالية مكونة من عدد من العناصر ، أهمها معتقداتنا ،
بالإضافة إلى الخلفية الثقافية العامة أو ما كان يسمى بـ ( الأهلية ) ثم
المعلومات المتوفرة حول القضية موضع البحث . فالطبيب الذي لا يؤمن بوجود ( الجن
) أو الذي لا يرى ( الإصابة بالعين ) سوف يُبعد كل ما يتعلق بهذين الأمرين عند
التشخيص والعلاج لكل المرضى الذين يراجعونه ، والذي خبرته في الاقتصاد معدومة
يمكن أن يصدِّق من يقول له : إن ثروته يمكن أن تتضاعف كل سنة مائة مرة إذا هو
دفع ماله إليه .
والذي لا يعرف الاحتياطات التي تقوم بها الدول النووية نحو السلاح النووي فإنه
يمكن إذا رأى قنبلة في صحراء أن يصدِّق من يقنعه بأنها قنبلة نووية ، وهكذا .
الإنسان وهو يستخدم هذا الوسيط المعرفي في استيعاب الواقع الموضوعي لا ينتهي في
أكثر الأحيان إلا إلى نتائج ظنية ؛ وذلك لأن صلابة الرأي نابعة من صلابة
المقدمات التي ولَّدته . وعند النظر في خلفياتنا الثقافية ومعلوماتنا حول
القضايا التي نحاول فهمها نجد أنها كثيراً ما تكون قاصرة وقابلة للجدل والنقد ؛
وهذا ما يجعل تعاملنا مع القضايا المركبة والمعقدة منطوياً على نوع من (
الاجتهاد ) الذي يحتمل الخطأ والصواب .
3 -
كثيراً ما نشكو من نقص المعلومات التي تساعدنا على فهم بعض الأمور ، وكثيراً ما
نجد أنفسنا بلا حول ولا طول تجاه الوقوف على بعض الدوافع لبعض التصرفات ، أو
تجاه تقدير الآثار المترتبة عليه ، أو تكوين صورة جيدة عن واقعة تاريخية معينة
، وفي هذه الحالة نلجأ إلى ( التفلسف ) ، وليس من المبالغة القول :
إنه ما يمر على الواحد منا يوم دون أن يستخدم في كلامه وتأملاته نوعاً من
التفلسف من أجل التغلب على ما نواجهه من نقص في عتادنا المعرفي .
نحن نستخدم ( التعليل ) في كثير من الأحيان من أجل جعل تصرفاتنا وأقوالنا تبدو
منطقية ومنسجمة ، ونستخدم ( القياس ) لسد الفراغات التي تركها الاستقراء الناقص
، أو حيث يكون الاستقراء التام مستحيلاً ، ونستخدم ( التقنين ) من أجل تسهيل
التعامل مع الأفكار والأشياء والمواد . والسنن الواردة في القرآن الكريم والسنن
النبوية تهدف إلى مساعدتنا على أخذ العبر والوصول إلى مستخلصات مركزة حول
الماضي والمستقبل . حين نمارس ( التحليل ) فإننا نرمي إلى تفكيك المعطيات
المعقدة بغية النفاذ إلى جوهرها ، وإتاحة الفرصة لأدمغتنا كي تتعامل معها
بكفاءة . وحين نتوقع حدوث بعض الأمور ، ونهجس بالمستقبل فإننا نقوم بعملية
استكشاف للعلاقات بين الأسباب والمسببات ، ونفعل ذلك بغية إيجاد نوع من
الاستمرارية الشعورية والظرفية ، وتوفير منطقة عيش آمنة وملائمة لحركتنا .
إن كل هذه الممارسات الذهنية والمعرفية ما هي سوى طرق لترويض الحقائق ، ومناهزة
استيعابها . وهي لا تعدو أن تكون ضروباً من ( المقاربة ) لما نبتغيه . وهي
جميعاً تعمل خارج منطقة اليقين والصواب القطعي . وفي هذه العمليات التي أشرنا
إليها يقع الكثير من المجازفة والتعسف والتجاوز . وتقدُّم الوعي الإسلامي ولا
سيما على الصعيد الشعبي ضعيف جداً في هذا الحقل ؛ بل إن كثيراً من الصفوة من
ذوي الثقافة العليا يسلكون مسلك العامة في بعض الأحيان حيال التعامل مع معطيات
التفلسف والنظر العقلي . مع أن من الواضح أن ( الفلسفة ) لا تمنحنا الدقة ، ولا
تساعدنا على التحديد ، وإنما تزيد في درجة شفافيتنا ، وتساعدنا على رسم
الاتجاهات والتعامل مع المسائل الكلية .
4 -
في البنية العميقة للمعرفة الإسلامية مرونة فكرية كبيرة ، نحن اليوم في أَمسّ
الحاجة إلى التشبع بها وتمثلِها في عمليات الاستنباط والاختلاف والتقويم
المختلفة . ومن الملاحظ أن الفكر الحداثي الغربي يقوم اليوم على ركائز غاية في
التطرف ؛ فهو شديد التأرجح بين الشك المطلق واليقين المطلق ؛ بين العقلانية
المطلقة وبين جحود أي ثابت من الثوابت ، وقد تأثر بهذا كثير من الرؤى الحضارية
المعاصرة في بلاد المسلمين .
أما الرؤية الإسلامية في هذا المجال ، فإنها تقوم على ( الوسطية ) المبصرة ؛
فهناك اليقين ، والظن القوي والظن الضعيف ، والشك القوي والشك الضعيف .
والاقتراب من الحقيقة متفاوت ، كما أن التورط في الخطأ متنوع ، وحين وضع
الأصوليون قواعد تفسير النصوص لاحظوا هذا المعنى بدقة متناهية ؛ ولذا ذهبوا إلى
أن النص قد يكون ظني الدلالة ، فيقبل آنذاك التأويل والفهم المتعدد .
ولاحظوا على سبيل المثال أن الأمر قد لا يفيد الوجوب ، بل قد ينصرف عند وجود
قرينة إلى الإرشاد أو الندب أو الإباحة ، كما أن النهي قد يفيد مجرد الكراهة ،
وليس الحرمة . العلاقة بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات في كثير من
الآداب الغربية تميل اليوم إلى ( التصلب ) حيث يحاول كثيرون هناك إضفاء معنى
التلازم والاطراد على الارتباط القائم بين حدث وآخر .
وقد بات كثيرون لدينا يستخدمون عبارات الجزم والتأكيد فيما تأبى طبيعته ذلك .
وقد كان من أدب علماء المسلمين أن يقولوا عقب بسط آرائهم واستنتاجاتهم :
« والله أعلم » ليشعروا القارئ باحتمالية ما ذهبوا إليه وعدم استحواذه على
اليقين .
وكان من لطيف ما قرروه قولهم : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا خطأ
يحتمل الصواب » ولو أنهم قالوا : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا صواب
يحتمل الخطأ » لما أبعدوا النجعة ؛ حيث يرى بعض الأصوليين أن كل مجتهد مصيب .
ومن أدب المسلم وصفاء اعتقاده أن يقول إذا تحدث عن شيء مستقبلي : « إن شاء الله
» و « بإذن الله » ليذكّر السامعين أن الأمر كله لله ، وليشعرهم بوجود علاقة
لينة بين ما نراه أسباباً ، وما نراه مسببات . إن كل ما نصل إليه من مقولات
وطروحات يظل أغلبياً يحتمل الكثير من الشذوذ ، كما يحتمل الوهم والغلط ؛ وما
ذلك إلا لأن إمكانات التجريب في عالم الفكر والشأن الإنساني عامة محدودة ومعقدة
؛ مما يجعل كل براهيننا على ما نقوله ذات وزن نسبي ومدلولات ترجيحية ، ليس أكثر
. وإن من أهم سمات الرجل العقلاني أنه لا يستمسك بآراء وأفكار ليس لديه ما يكفي
من البراهين عليها .