|
لم تكن الحاجة ماسّة إلى الفهم العميق في يوم من الأيام كما هي اليوم ؛
فالمعلومات متوفرة إلى حد التخمة ، وصار الفارق الواضح بين إنسان وآخر يتمثل في
مقدرته على الفهم ، والاستفادة من تلك المعلومات على نحو حسن . وهذا لن يتم إلا
من خلال امتلاك مركّب عقلي جديد ، ذي بنية متميزة . ومهمة التربية أن تساهم في
تكوين تلك البنية وصقلها . وسنذكر هنا بعض المسائل ذات العلاقة بذلك :
أ -
إن أول عمل علينا أن نقوم به هو أن نقلع الأشواك من الأرض الطيبة التي نريد أن
نزرعها . كثيراً ما نعمد إلى محاولة تلقين الطلاب بعض المبادئ المنطقية ، أو
نشرح لهم بعض أساليب التفكير ؛ وعند النظر في مدى التأثير الذي يتركه ذلك في
تصحيح تصوراتهم نجد أنه محدود جداً . وقد رأينا كثيراً ممن يدرِّس علم (المنطق)
وكثيراً ممن درسه ، ورأينا أن تفكيرهم يفتقر إلى بعض البدهيات التي يحتاجها
التفكير القويم ! ولذا فإن من الصحيح أن يركز المربي في البداية على إلقاء
الأضواء الكاشفة على الأفكار والرواسب السابقة ، والمفاهيم والعادات العقلية
والنفسية التي تحول دون الرؤية الصحيحة [1] ، مثل التعصب
والمبالغة والرؤية النصفية ، والميل إلى التبسيط ، والانغلاق ، والخضوع
للمقولات الشائعة ، والتعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة ... وأعتقد أن أثر
الأسرة في هذا لن يكون كبيراً ؛ حيث إن هذه المسائل أعقد من أن ينتبه إليها
الأشخاص العاديون ؛ وإنما المعوّل في ذلك على الوسائل الإعلامية والمناهج
المدرسية والمجالس والندوات الفكرية .
ب -
إن تقدم العالم كان في الأغلب عن طريق (الأزمات) وإن القفزات العلمية
والإبداعية جاءت في الأغلب من خلال الاصطدام بمشكلات كبيرة ومحيرة .
الذين استطاعوا تجاوز العقبات ، والإتيان بالمبهر العظيم ، ليسوا أولئك الذين
استسلموا للمقولات والمفاهيم السائدة في الساحة العلمية ، ولا أولئك الذين
يتبرمون بالنتائج التي خالفت توقعاتهم ، وفروض بحوثهم ؛ وإنما أولئك الذين
يملكون العقل المنظم الذي يهش ويبش في وجه المسائل المحيرة والمعضلات الغامضة ،
ويمنحها الرعاية والملاطفة ؛ حتى يجد مخرجاً أو برهاناً يثبتها على محك التجربة
والاختبار[2] . إن كثيراً من أفكارنا لن يبلغ حده الكافي من
التبلور والنضج إلا إذا اغتبطنا بالحقائق التي لا تتطابق مع ملاحظاتنا وفروضنا
الأولية ؛ حيث من خلالها نستطيع إدخال تعديلات على أفكارنا ، ونجعلها أكثر
ملاءمة للتقدم ، وأقرب إلى الدقة والصواب . نحن بشر وتحليلاتنا وملاحظاتنا ،
ستظل قابلة للتشذيب والتطوير ، ويجب أن نعلِّم أطفالنا وطلابنا هذه الحقيقة ،
ونُريهم من خلال الوقائع والمواقف التطبيقاتِ التي تجعلها تتغلغل في (اللاشعور)
منهم .
ج -
قالوا قديماً : نصف عالم أضر على الأمة من جاهل . وهذا من الحكم الرائعة ؛ لأن
الجاهل يملك بعض الأخلاقيات ، مثل التواضع وحب المعرفة ، والقدرة على الاستماع
دون مقاطعة . أما نصف العالم ، فإن لديه قدرة على تكرار الألفاظ ، وطرح الفروض
المبتذلة والدارجة ، وعنده حظ من الغرور والتعالم ؛ ولذا فإنه يسدل حجباً سميكة
على عقله ، فلا يتقبل الأفكار الجديدة ، ولا يملك من الحماسة ما يكفي لتطوير
مفهوماته وطروحاته .
إن توسيع قاعدة الفهم ، يتطلب منا أن نؤكد دون ملل على ضرورة وضع معارفنا
وأفكارنا في موضعها الصحيح من جسم المعرفة البشرية المنظمة ، والسائدة اليوم ،
وأن ننظر بجدية إلى خطورة ما نجهله حول كل قضية من القضايا المعاصرة . وأرى في
هذا السياق أن قدر العالم وفضله لا ينبعان من كثرة ما يعرف ، وإنما من حدسه بما
لا يعرفه وتقديره له ، وأخذه بعين الاعتبار عند إصداره الأحكام .
إن صاحب الفهم الصحيح ، يحاول دائماً أن يجعل أفكاره متساوقة مع حجم البراهين
المتوفرة لديه ، فعلى مقدار صلابة المعلومات والبراهين تكون صلابة الأفكار
ودرجة الوثوق بها . وإذا نظرنا في واقع عالم الأفكار لدى كثيرين منا ، وجدنا أن
درجة الوثوق واليقين كثيراً ما تكون متقدمة على ما هو متوفر لديهم من أدلة
وبراهين ومعلومات ؛ مما يجعلهم في حالة دائمة من الاضطراب والتشوش ، ومما يجعل
خيبة الأمل حليفة لهم !
د -
حتى تتسع قاعدة الفهم لدى الناشئة ، فلا بد من إكسابهم (المرونة) الفكرية ،
وسرعة استيعاب المتغيرات الهائلة التي تجتاح العالم . إن شاب الغد يحتاج إلى أن
يكون مستعداً للتنقل الجغرافي من أجل طلب الرزق ، فمنطق العصر هو (الترحال) بكل
ما تعنيه هذه الكلمة من معنى . ويجب أن يكون أيضاً مستعداً لتغيير اختصاصه
ومهنته بحسب ما يتوفر من فرص العمل . وبحاجة إلى تغيير مفاهيمه عن أشياء كثيرة
محيطة به [3] . وهذا كله يحتاج من الشاب أن يمتلك المرونة
الفكرية والنفسية . لعل مما يساعده على اكتساب هذه المرونة أن ينظر إلى أن
الاستجابة للتغيير ليست عبئاً خالصاً ؛ فهي بما تتطلبه من التكيف ، تخلص
الإنسان من الملل والسأم ، وتخلصه من كثير من الواقع السيئ الذي يعيشه ؛
فالتغيير حين يقوده مسلم ، يكون بإذن الله نحو الأحسن والأفضل .
مما يسهم في تكوين المرونة الذهنية لدى الأطفال ، جعلهم يدركون جملة الفروق
والاختلاف بين بني البشر ، وأنه لا يمكن جعلهم نسخاً مكررة بعضهم عن بعض في كل
أمر ؛ بل إن الله جل وعلا خلقهم مختلفين ليكمل بعضهم بعضاً على جميع المستويات
: { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم
بَعْضاً سُخْرِياً } [الزخرف : 32] . ففي الاختلاف ثراء وتنوع وإخصاب وتعاون ،
وهو عامل أساسي في توازن الحياة العامة . إن فهم الناس العميق للحياة ، بكل ما
فيها من تعقيدات وتشابكات بهدي من المنهج الرباني ، وبتبصير من الخبرة ، سوف
يخفف إلى حد بعيد من الشعور بالألم ، ومن التلاوم ، وسوف يجعل أحلامهم ممكنة ،
وخيالهم معقولاً بعقال ما يمكن توقعه ؛ أي سيكونون أقرب إلى الحكمة . وكما كان
يقول (نيتشة) : (إن النمو في الحكمة يقاس بدقة بانخفاض المرارة)
[4] .
ولا ينبغي أن نهمل في هذا الصدد مساهمة معرفة حدود (الجائز والممنوع) في مسألة
المرونة ؛ فحين يتضح للمرء بجلاء ما هو جائز ، ويتميز عما هو محظور وممنوع ،
فإنه يقبل بجرأة كل الأشياء التي تدخل في حيز المباح ، مهما كانت صورها
وأشكالها ، ومهما كانت غريبة وغير مألوفة . ومشكلة معظم الشعوب المتخلفة خلو
خبرتها ووعيها من الجذور الفاصلة بين الجائز والممنوع على المستوى القانوني على
الأقل ؛ حيث إن لديها إلى جوار كل قانون مكتوب قانوناً غير مكتوب ؛ مما جعل لدى
الناس أنواعاً من الخوف غير المسوّغ ، وأحدث حالة من الإحجام المبهم ، كما أنه
تسبب في تورط بعض الناس في أمور ، كانوا يظنون أنها من قبيل المباح : وهذا هو
السر الأكبر القابع خلف سلبية الإنسان لدينا !
مما ينمي خبرة التفريق بين الجائزات والممنوعات ، أن نستمع بأذن صاغية ، وبعقل
مفتوح لكل ما يُطرح من أفكار ، وأن نتقبله على أنه اجتهاد ، ما لم يصادم
إجماعاً أو نصاً قطعياً ؛ فالأفكار لا تنضج ، ولا تتبلور ما لم تلكها ألسنة
المناظرة .
من خلال الحوار والنقاش والمفاتحة ، ومن خلال الوقوف على الأهواء والأخطاء ،
بنصر طريقنا إلى المنظور الكلي الذي هو الحقيقة . ولا ريب بعد هذا وذاك في أن
سعة الفهم ، لا تؤدي إلى الاتفاق في الآراء ، لكنها تمنح الأساس للاختلاف ، أي
تجعل الاختلاف مؤصلاً واضحاً ، وتجعل ما يتم من اتفاق متيناً ؛ لأنه يقوم على
قواعد فكرية ومنهجية صحيحة . ونستفيد من ذلك التسامح والتعاطف المتبادل في حالة
الاختلاف ، والتعاون والمشاركة في حالة الاتفاق .
إن الإنسان كائن قابل للتعلم ، بل إن الإنسانية كلها ، تظل تتعلم باستمرار ،
وإذا تملكتنا هذه الفكرة ، فسوف نعرف كيف نكتسب المرونة ، وكيف نستخدمها في
تحسين نوعية الحياة .
هـ-
إن الهدف الأساسي من كل ما نتلقاه من تعليم وتدريب ، ليس أن نتمكن من سرد
المعلومات عن ظهر قلب ، ولكن أن نحاول ترشيد أحكامنا العقلية ، التي نستند
إليها في كل القرارات التي نتخذها في جميع مجالات الحياة . وهذا يعني أن على
التربية والتعليم استهداف تكوين (العقل المثقف) وهو ذلك الذي اجتاز عدداً
كبيراً من حالات التدرب على التفكير المستقيم ، والذي يستطيع استخلاص نموذج خاص
وملامح محددة من خلال استعراض عدد كبير من وجهات النظر المختلفة في المسألة
الواحدة . وهذا يعني الاطلاع على مقولات كثيرة في الموضوع الواحد ، وتدريب
الذهن على الاستفادة من تلك الموضوعات في بلورة رؤية خاصة متماسكة
[5] .
كان أفلاطون يرى أن من الضروري أن يكون للعقل نوع من الاستقلال النسبي عن الوسط
الذي يعيش فيه [6] . وهذه الوضعية في تصوري مما يجب أن
تشملها جهود توسعة قاعدة الفهم ، وتربية العقل المثقف ؛ إذ إن توحد عقول
الناشئة مع الأوساط والبيئات التي يعيشون فيها ، سيؤدي بهم إلى أن يصبحوا
(إمّعات) لا يحسنون سوى التقليد ، لكن حين يشجعون على إبداء وجهات نظر مغايرة
لما هو سائد ، فإنه سيتكون لديهم عقل ناقد ، وسيكون ذلك مصدراً لتجديد متوازن .
إن تثقيف العقل وتدريبه على إصدار الأحكام ، يشبه تقوية العضلات ، حيث يمكن بعد
تقويتها أن نستفيد منها في أي عمل يتطلب القيام به استعمالها . إنه يمكن تنمية
(العقل المثقف) بطرق عديدة ، منها تهذيب قوى الملاحظة المميزة ، وتقوية ملكة
المنطق ليتمكن الفرد من تتبع الحجة نقطة بعد أخرى ، وبالعمل على إنضاج القدرة
على المقارنة .
إن بإمكان الدراسات اللغوية والعلوم الطبيعية أن تنمي عادات الملاحظة الدقيقة ،
وإن الرياضيات هي المدرب التقليدي لملكات التفكير . أما التاريخ والدراسات
الأدبية ، فهي تسهم في تنمية القدرة على الحكم [7] .
________________________
(1) حاولنا في كتاب (فصول في التفكير الموضوعي) تسليط الضوء
على شيء من ذلك .
(2) قاموس جون ديوي للتربية : 130 .
(3) العرب وعصر المعلومات : 394 .
(4) قصة الفلسفة : 494 .
(5) انظر الثقافة الفردية وثقافة الجمهور : 83 .
(6) الدروس التي تتعلمها التربية من علم النفس : 138 .
(7) المصدر السابق : 139 .