يعيش العالم المتقدم أزمة حضارة بسبب افتقاده الوجهة أو الهدف الأكبر الذي يجذب
إليه جميع مناشط الحياة ، ويمنحها المنطقية والانسجام . أما المسلمون فأزمتهم
الأساسية ، هي أزمة حركة في العالم ، وأزمة شهود على العصر ؛ فهم في أكثر
الأحيان يتأثرون ، ولا يؤثرون ، ويأخذون من الحياة أكثر مما يعطونها ؛ وذلك
بسبب انخفاض إنتاجيتهم ، وضعف إدارتهم لإمكاناتهم الشخصية والعامة . نقرأ آيات
الاستخلاف وشروط التمكين في الأرض ، وأدبيات النجاح والفلاح ، لكنّ قليلين منا
الذين يسألون أنفسهم عن وظيفتهم الشخصية في تحقيق كل ذلك !
إن الأماني الوردية حول قيادة أمتنا للعالم تداعب أخيلة الكثيرين منا ، وتدغدغ
مشاعرهم ، لكن لا أحد يسأل عن آليات تحقيق ذلك ، ولا عن الإمكانات المطلوبة
للسير في طريقه !
إني أعتقد أن هناك حقيقة أساسية غائبة عن أذهان الكثيرين منا ، هي أننا لا
نستطيع أن نوجد مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده ؛ ولذا فإن النهوض بالأمة يقتضي
على نحوٍ ما أن ينهض كل واحد منا على صعيده الشخصي ، وما لم نفعل ذلك ، فإن
الغد لن يكون أفضل من اليوم .
إن رسم الأهداف نوع من مدِّ النظر في جوف المستقبل ، وإن الله جل وعلا يحثنا
على أن نتفكر في الآتي ، ونعمل له : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر : 18] إن المسلم الحق لا يكون إلا
مستقبلياً ، ولكننا بحاجة إلى أن نعمم روح الالتزام نحو الآخرة على مسلكنا
العام تجاه كل ما يعنينا من شؤون وأحوال .
أهمية وجود هدف :
من الأدوات الأساسية في تحسين وضعية الفرد أن يكون له هدف يسعى إلى تحقيقه .
ونرى أن حيوية وجود هدف واضح في حياتنا تنبع من اعتبارات عديدة ، أهمها :
1-
إن كل ما حولنا في تغير دائم ، والمعطيات التي تشكل المحيط الحيوي لوجودنا لا
تكاد تستقر على حال ، وهذا يجعل كل نجاح نحققه معرضاً للزوال ؛ ووجود هدف أو
أهداف في حياتنا ، هو الذي يجعلنا نعرف على وجه التقريب ما العمل الذي سنعمله
غداً ، كما أنه يساعد على أن نتحسس باستمرار الظروف والأوضاع المحيطة ؛ مما
يجعلنا في حالة دائمة من اليقظة ، وفي حالة من الاقتدار على التكيف المطلوب .
وقد جرت عادة الكثيرين منا أن يسترخوا حين ينجزون عملاً متميزاً ؛ مما يضعهم
على بداية الطريق إلى أزمة تنتظرهم . ولذا فإن الرجل الناجح ، هو الذي يسأل
نفسه في فورة نجاحه عن الأعمال التي ينبغي أن يخطط لها ، ويقوم بإنجازها ؛
فالتخطيط هو الذي يجعل أهمية المرء تأتي قبل الحَدَث . أما معظم الناس فإنهم لا
يفكرون إلا عند وجود أزمة ، ولا يتحركون إلا حين تحيط بهم المشكلات من كل جانب
، أي يستيقظون بعد وقوع الحدث ، وبعد فوات الأوان !
2-
إن وعي كثيرين منا بـ (الزمن) ضعيف ، ولذا فإن استخدامنا له في حل مشكلاتنا
محدود . وحين يجتمع الناس برجل متفوق فإنهم يضعون بين يديه كل مشكلاتهم ،
ويطلبون لها حلولاً عاجلة متجاهلين عنصر (الزمن) في تكوينها وتراكمها ، وطريقة
الخلاص منها . ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه بالزمن أعظم ، ويجعله
يستخدمه في تغيير أوضاعه . إذا سأل كل واحد منا نفسه :
ماذا بإمكانه أن يفعل تجاه جهله بعلم من العلوم مثلاً أو قضية من القضايا ؟
فإنه يجد أنه في الوقت الحاضر لا يستطيع أن يفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك . أما
إذا سأل نفسه : ماذا يمكن أن يفعل تجاهه خلال خمس سنين ؟ فإنه سيجد أنه يستطيع
أن يفعل الكثير ؛ وذلك بسبب وجود خطة ، واستهداف للمعالجة ، وهما دائماً يقومان
على عنصر الزمن . إني أعتقد أن كثيراً من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا ، وحل
أزماتنا ، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية ، ومساحة الفعل معاً ، وذلك كله بسبب فقد
النظر البعيد المدى .
3-
إن كثيراً من الناس يظهرون ارتباكاً عظيماً في التعامل مع (اللحظة الحاضرة)
وذلك بسبب أنهم لم يفكروا فيها قبل حضورها ، فتتحول فرص الإنجاز والعطاء إلى
فراغ قاتل ومفسد ؛ وهذا يجعلنا نقول : إننا لا نستطيع أن نسيطر على الحاضر ،
ونضبط إيقاعه ، ونستغل إمكاناته ، إلا من خلال مجموعة من الآمال والأهداف
والطموحات ، وبهذا تكون وظيفة الهدف في حياتنا هي استثمار اللحظة الماثلة على
أفضل وجه ممكن .
إني أتجرأ وأقول : إن ملامح خلاص جيلنا ، والجيل القادم على الأقل من وهن
التخلف والانكسار قد تبلورت في أمرين : المزيد من الالتزام بالمنهج الرباني ،
والمزيد من التفوق ، ولا نستطيع أن نجعل هذين الأمرين حقيقة واقعة في حياتنا من
غير تحديد أهداف واضحة .
سمات مطلوبة في الهدف :
1- المشروعية :
إن مجمل أهداف المرء في الحياة ، يعادل على نحو تام (استراتيجية) العمل لديه ،
ولذا فإن الذين لا يأبهون لشرعية الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها يحيون حياة
مضطربة ممزقة ، تختلط فيها عوامل البناء مع عوامل الهدم ، وينسخ بعضُها بعضَها
الآخر . إن الهدف غير المشروع ، قد يساعد على تحقيق بعض النمو في جانب من جوانب
الحياة ، لكنه يحطّ من التوازن العام للشخصية ، ويفجّر في داخلها صراعات مبهمة
وعنيفة . وليس المقصود بشرعية الهدف أن يكون معدوداً في (المباحات) فحسب ،
وإنما المقصود أن يكون مندمجاً على نحو ما في الهدف الأسمى والأكبر الذي يحيا
المسلم من أجله على هذه الأرض ، ألا وهو الفوز برضوان الله تبارك وتعالى وهذا
يعني أن الأهداف المرحلية والجزئية للواحد منا يجب ألا تتنافر معه في وضعيتها
أو مفرزاتها أو نتائج تفاعلها . ولعل من علامات الانسجام بينها وبين الهدف
الأكبر شعور المرء أنه يحيا (حياة طيبة) وهي لا تولد من رحم الرخاء المادي ،
ولا من رحم التمتع بالجاه أو الاستحواذ على أكبر كمية من الأشياء ، وإنما تولد
من ماهية التوازن والانسجام بين المطالب الروحية والمادية للفرد ، ومن التأنق
الذي يشعر به من يؤدي واجباته .
الهدف المشروع عامل كبير في إيجاد التطابق بين رموزنا وخبراتنا ، وهو إلى ذلك
مولِّد لما نحتاجه من حماسة للمضي في الطريق إلى نهايته .
2- الملاءمة :
لكل منا طاقاته وموارده المحدودة ، وله ظروفه الخاصة ، وله إلى جانب ذلك تطلعات
وتشوّفات ؛ ومن الواضح اليوم أن الحضارة الحديثة أوجدت لدى الناس طموحات فوق ما
هو متوفر من إمكانات لتلبيتها ، وهذا يؤدي بكثير من الناس إلى أن يسلكوا طرقاً
غير مشروعة لتلبيتها ، أو يؤدي بهم إلى الشعور بالعجز والانحسار .
والهدف الملائم ، هو ذلك الهدف الذي يتحدى ولا يعجز . ومعنى التحدي دائماً :
طلب تفجير طاقات كامنة أو استخدام موارد مهملة ، لكنها جميعاً ممكنة . حين يكون
الهدف سهلاً فإنه لا يؤدي إلى حشد إمكاناتنا الذاتية ، ولا إلى تشغيل أجهزتنا
النفسية والعقلية ، كما لو أننا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة ، أو
يستغفر عشر مرات .
في المقابل فإن الهدف الكبير جداً يصد صاحبه عن العمل له ، وفي هذا السياق نرى
كثيراً من أهل الخير ، يشعرون بالإحباط ، ويشكون دائماً من سوء الأحوال ،
وتدهور الأوضاع ، وهذا نابع من وجود هدف كبير لديهم هو (الصلاح العام) لكن ليس
لديهم أهداف صغيرة ، أو مرحلية تصب فيه . إن كل هدف صغير يقتطع جزءاً من الهدف
الكبير ، ويؤدي إلى قطع خطوة في الطريق الطويل ؛ وعدم وجود أهداف صغيرة ، يجعل
الهدف النهائي يبدو دائماً كبيراً وبعيداً ، وهذا يسبب آلاماً نفسية مبرحة ،
ويجعل المرء يظهر دائماً بمظهر الحائر العاجز . إنه لا يأتي بالأمل إلا العمل ،
وقليل دائم خير من كثير منقطع .
3- المرونة :
إن أنشطة جميع البشر ، تخضع لعدد من النظم المفتوحة ، ومن ثم فإن النتائج التي
نتطلع إلى الحصول عليها ، تظل في دائرة التوقع والتخمين . حين يرسم الإنسان
هدفاً ، فإنه يرسمه على أساس من التقييم للعوامل الموجودة خارج طبيعة عمله ،
وخارج إرادته ، وهذه العوامل كثيراً ما يتم تقييمها على نحو خاطئ ، كما أنها
عرضة للتغير ، بالإضافة إلى أن إمكاناتنا التي سوف نستخدمها في ذلك هي الأخرى
متغيرة ؛ ولهذا كله فإن الهدف يجب أن يكون (مرناً) ، أي : له حدود دنيا ، وله
حدود عليا ؛ وذلك كأن يخطط أحدنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع
ساعات ، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا .. هذه المرونة تخفف من ضغط
الأهداف علينا ؛ فالناس يشعرون حيال كثير من أهدافهم أنها التزامات أكثر منها
واجبات ، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من الحرية ، وسيكون من الضار بنا
تحوّل الأهداف إلى قيود صارمة ، وحواجز منيعة في وجه تلبية رغبات شخصية كثيرة .
4- الوضوح :
هذه السمة من السمات المهمة للهدف الجيد ، حيث لا تكاد تخلو حياة أي إنسان من
الرغبة في تحقيق بعض الأمور ، لكن الملاحظ أن قلة قليلة من الناس ، تملك
أهدافاً واضحة ومحددة ، ولذا فمن السهل أن يتهم الإنسان نفسه أو غيره بأنه لم
يتقدم باتجاه أهدافه خطوة واحدة خلال عشرين سنة ، مع أنك لا تراه خلال تلك
المدة إلا منهمكاً ومتابعاً بما يعتقد أنه هدف يستحق العناء !
إنه يمكن القول بسهولة : إن كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما أنجز منه ،
وما بقي ؛ ليس بهدف . ولذا فإن من يملك أهدافاً واضحة يحدثك دائماً عن إنجازاته
، وعن العقبات التي تواجهه . أما من لا يملك أهدافاً واضحة ، فتجده مضطرباً ،
فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير ، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه ؛ إنه كمن
يضرب في بيداء ، تعتسفه السبل ، وتشتته مفارق الطرق ! نجد هذا بصورة أوضح لدى
الجماعات ؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافاً واضحة محددة ، تظل مشتتة الرأي في
حجم ما أنجزته ، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم لذلك ! لا يكفي أن
يكون الهدف واضحاً ، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه ، فالزمان ليس ملكاً لنا
إلى ما لا نهاية ، وطاقاتنا قابلة للنفاد . ثم إن القيمة الحقيقية للأهداف ، لا
تتبلور إلا من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها ، والجهد والتكاليف التي
نحتاجها . ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف ، ووضوح تكاليفه المتنوعة ، ليس سوى
العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة !
إن من أسباب ضبابية أهدافنا أننا لا نبذل جهداً كافياً في رسمها وتحديدها ،
وهذا لا يؤدي إلى انعدام إمكانية قياسها فحسب ، وإنما يؤدي أيضاً إلى إدراكها
بطريقة مبتذلة أو رتيبة ، مما يُفقدها القدرة على توليد الطاقة المطلوبة
لإنجازها .
سنعمل الكثير من أجل أهدافنا إذا أدركنا أنه عن طريقها تتم الصياغة النهائية
لوجودنا .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .