|
خلق الله تعالى الجنة داراً لتكريم أوليائه ، فوفر فيها كل شروط التكريم ؛ وخلق
النار داراً لإهانة أعدائه ، فوفر فيها كل شروط الإهانة ؛ وخلق الدنيا داراً
لابتلاء الفريقين ، فوفر فيها كل شروط الابتلاء .
إن هذا الدين يعلمنا أن كل ما يحيط بنا في دائرتي الزمان والمكان يمثل بالنسبة
لنا ضرورة تتحدانا ، وعلينا أن نعيه ، ونتصرف معه التصرف اللائق بالإنسان
المكرم المبتلى .
إن كل لحظة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي لحظة اختبار ، وهي في الوقت ذاته
ضرورة تتحدى ، وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً مناسباً ، فإذا لم نستطع تكيف تلك
اللحظة مضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا ! وإن التكييف في موازين
هذا الدين السمح قد يأخذ في بعض الأحيان صورة اعتبارية محضة ، كما هو الشأن مع
الذي يبادر إلى فراشه فيما يتمكن من حضور صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإنه قد كيف
كل لحظه نوم بما انطوت عليه سريرته من قصد . وعلى هذا فإن البطالة والنوم - غير
المكيف - ضربان من ضروب الفناء والعبودية المكبلة بالأغلال !
إن كل ما حولنا من فكر ومادة وضرورات هي الأخرى تنادي الإنسان المبتلى كي يتحرر
من قيودها بتكييفها ؟ إن الفكرة الصحيحة تتحدانا كي نعممها ، وإن الفكرة
الخاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها ، وإن الفكرة الغامضة تتحدانا ؛ لننفذ إلى
جوهرها ، كما أن الفكرة القاصرة تتحدانا لنطورها .
إن الأرض تتحدانا لنزرعها ، فإذا قبضنا على منتوجها تحدانا هو الآخر كي نصنعه
على الوجه الأمثل . إن نديف القطن يتحدى النساجين ، فإذا ما صار قماشاً دخل في
طور من التحدي جديد ، فلئن كان النساجون قد تحرروا من قيود النديف فقد وقع
الخياطون في ضرورة النسيج إلى أن يحيلوه ثوباً جميلاً . فإذا ما عجزت أمة عن أن
تخيط نسيجها بين يديها ، أو تزرع أرضاً خصبة تملكها تحول ذاك وهذا إلى قيود على
حريتها ووجودها ، وإن من القيود ما يقتل ، ومنها ما يشل ، ومنها ما يشوه ...
وليس انتقال الإنسان من ضرورة إلى أخرى انتكاساً أو زجاً له في دائرة مغلقة -
كما قد يتوهم - فنحن إذ نتردد بين مشكلاتنا وحلولها إنما نمضي في حركة لولبية
صاعدة تمنحنا المزيد من الحرية والقدرة والتأنق .
إن كل سلعة مصنعة نستوردها هي عبارة عن ضرورة نطوق بها أعناقنا ، وإن أشد
المستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند مستوردها ؛
لأن العمل هو الحرية ، والذي يلغيه يلغي الحرية . ذلك لأن السلعة المصنعة كانت
من قبل مادة غفلاً وكان لإمكاننا أن نمارس حريتنا في تصنيعها وتحويلها ، وقد
صودرت هذه الحرية حين قام بتشكيلها غيرنا .
وقد أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة فتسابقت إلى استيراد المواد الخام ،
ووضعت القيود على استيراد السلع المصنعة ؛ فهي لا تبادل الدول الأخرى منها إلا
قدراً بقدر حتى تمارس حريتها كاملة ؛ وترى ثمار ما عملته أيديها ..
إن حرية الفرد في المجتمع على قدر عمله ، فإذا ما أخذ من الآخرين أكثر مما
يعطيهم فقد من حريته مقدار ما يزيد لهم عنده . وإن أقسى ما يواجهه الحر الكريم
أن يرى نفسه غارقاً في عطاء الآخرين دون أن يكون لديه ما يعطيهم ؛ لشعوره بأن
ذلك على حساب حريته ، أي : على حساب وجوده ! !
إن العمل هو طريق الخلاص ، وهو طريق تحقيق الذات ؛ ولكن هل كل حركة بركة ، وهل
كل عمل هو كسر للقيود وإعتاق للرقاب ؟ ؟
لاريب أن الأمر ليس كذلك ، فالسكون في أيام الفتن - مثلاً - خير من الحركة ،
ورب حركة متعجلة قصد منها كسب الحرية أدت إلى الرسف في أغلال العبودية سنين
طويلة ، ذلك لأن العمل عبارة عن غزو الصورة للمادة ، وإذا ما شكلت مادة ما على
صورة خاطئة فإن هذا قد يعني الحرمان منها باعتبارها كماً ، وباعتبارها كيفاً ؛
لأن أشياء كثيرة قد لا تقبل أن تتشكل إلا مرة واحدة ! ! إنه لا بد من توفر
شرطين أساسيين في العمل الكريم ، هما الصواب والإخلاص ، أي القوة والأمانة ، أو
القدرة والإرادة ، وإن كان بعض الأعمال يعتمد على أحدهما أكثر من اعتمادها على
الآخر ؛ فأعمال الآخرة تعتمد على الإخلاص أكثر من اعتمادها على الصواب ، وإن
يكن الصواب أساسياً . وأعمال الدنيا تعتمد على الصواب أكثر من اعتمادها على
الإخلاص ، فكلما كان الإخلاص أعظم كانت المثوبة أكبر ، وكلما كان الصواب أكبر
كان النجاح أكثر ، تلك هي سنة الله .
وتقاس حيوية المجتمع بقدر ما يمور به من حركة الفكر واليد ؛ وعلى هذا الصعيد
فقد فجر الإسلام طاقات المسلم على مستوى القيم ، وعلى مستوى الأداء بصورة قل
نظيرها في التاريخ ، فشيد المسلمون في قرن من الزمان حضارة زاهرة ظلت تعطي
وتقاوم عوامل الفناء نحواً من عشرة قرون ، ثم صارت المجتمعات الإسلامية ، من
أقل مجتمعات الأرض حراكاً وعطاء ، فما هو السبب الذي أفضى إلى هذه الحالة
المنكورة ؟
في مقاربة أولية للوقوف على جواب هذا التساؤل الكبير ، يمكن أن نقول أولاً : إن
ظاهرة كبرى كظاهرة الركود الحضاري أكبر من أن تفسر بعامل واحد ؛ ولكن بإمكاننا
أن نسلط الضوء على عامل نحسب أنه كان على جانب كبير من التأثير في هذه الظاهرة
، هذا العامل هو انخفاض مستوى الإيمان بالله - تعالى - أو انخفاض جوهر ذلك
الإيمان ، أعني (الصلة بالله تعالى) . حقاً لقد ظلت قيمة الإيمان في أعلى السلم
القيمي للمسلمين ، ولكن ذلك وحده غير كاف لإطلاق الطاقات وتوجيهها نحو بؤرة
محددة ما لم تتوفر شروط موضوعية في الإيمان نفسه ، وفي البيئة التي يعمل فيها .
وإنما كان ذلك هو السبب في تصورنا ، لأن بنية الثقافة الإسلامية تتمحور داخلها
العلاقات حول ثلاثة أقطاب هي : الله - سبحانه - ، الإنسان ، الطبيعة .
وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقات حول قطبين اثنين لكانا : ( الله ، الإنسان ) .
وأما الطبيعة فإنها هامشية نسبياً ما أن وظيفتها تتركز في كونها إحدى الدلائل
على وجود الله ، وكونها مجالاً للابتلاء ؛ فالمسلم يكتشفها ويعمرها امتثالاً
لأمر الله تعالى ، وهذا على خلاف ما هو مستقر في العقل اليوناني الأوربي الذي
تتمحور العلاقات فيه على الإنسان والطبيعة . أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على
كشف الطبيعة ، أي إنها تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الطبيعة في الثقافة
الإسلامية .
ومن هنا فإن تعامل المسلم مع الطبيعة ليس مباشراً ، ونظرته إليها معيارية قيمة
؛ فعلى مقدار ما يتوهج الإيمان في صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ويكون عطاؤه
الحضاري ، فإذا ما خبا الإيمان في صدره - لسبب من الأسباب - انحبس جهده في
البناء الحضاري ، أو فتر . وليس كذلك الشأن عند أهل الحضارة المادية . ولا يكفي
أن يتوهج الإيمان في صدور أفراد قليلين في المجتمع الإسلامي لاستئناف مسيرة
الحضارة الإسلامية ؛ لأن الحضارة ظاهرة اجتماعيه لا ظاهرة فردية .
ونلمح هذا المعنى شائعاً في الخطاب القرآني كله ؛ فكثيراً ما تفتتح آيات
الأوامر والنواهي بـ { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا .. } وكثيراً ما تختتم بـ
{ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .. } { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .. } ؛ تذكيراً بأن
الايمان المتألق هو الذي يطلق طاقات المسلم ، ويفعل القيم لديه . ولم تشذ الآية
الكريمة التي نحن بصددها عن هذا النسق حيث يقول سبحانه : { وقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى
عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
فقد ربطت العمل برؤية الله تعالى لهذا العمل ومجازاته عليه في الآخرة .
وقد أدى الضعف في فاعلية المسلم وحركته اليومية إلى وجود خلل كبير في حياة
المسلمين فصارت بلادهم أفقر بلاد الله ، كما أن نظامهم الرمزي الذي كان في يوم
من الأيام أغنى نظم العالم بالأبطال العظام صار اليوم مجدباً على مستوى الكم
والكيف ! !
ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل إن الأزمة على صعيد الفعل أدت إلى وجود أزمة
خطيرة على صعيد (الفكر) ؛ ذلك لأن العقل عقلان على حد تعبير (لالاند) عقل فاعل
، وعقل سائد . أما العقل الفاعل فهو النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين
البحث والدراسة ، وهو الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ . وأما العقل السائد
فهو مجموع القواعد والمبادئ التي نستخدمها في استدلالاتنا . فليس العقل السائد
شيئاً غير الثقافة . والعقل الفاعل أشبه شيء بالرحى ، والعقل السائد أشبه شيء
بالقمح يلقى فيها ؛ وماذا تصنع رحى لا قمح فيها ؟ ! ومن أين ستأتي الثقافة لأمة
لا تحرك يداً ، ولا تبني نموذجاً إلا في نطاق الضرورات إن كل انحباس في حركة
اليد سيؤدي الى انحباس في حركة الفكر ، وكل انخفاض في وتيرة الإيمان سيؤدي -
لدى المسلم - إلى انخفاض في تردد اليد . فهل كتبنا الحرف الأول في أبجدية
البداية ؟