قصة البشرية هي قصة البحث عن طريق السعادة والأمن والاستقرار ... وقصة البحث عن
الفهم والوضوح ، ومحاربة (العماء) و (اللاتكوّن) لكن نتائج ذلك كثيراً ما تكون
موضوعاً محزناً للقراءة !
وهذه الآية المباركة تفتح أعيننا على السبب الجوهري لذلك ؛ إنه بحث البشرية عن
نجاتها بعيداً عن هدي الله - تعالى - وبعيداً عن سبيله الذي وضَّحه لعباده في
كتبه ، وعلى لسان رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام . ولعلنا نقف مع هذه
الآية الكريمة بعض الوقفات التي نستجلي من خلالها بعض ما تشعَّه من معان
ومفاهيم ، وبعض ما ترتب على الحيدة عن سبيل الله من مآس ومهلكات ، وذلك من خلال
الحروف الصغيرة الآتية :
1-
تقرر هذه الآية المباركة أن سبيل الهداية هو السبيل الوحيد الذي على البشرية أن
تسلكه ، وفي حالة تنكبه فليس هناك سبل أخرى للنجاة والفوز والنجاح .
ومعنى الآية : أن من يضلله الله فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا ، وإلى
الجنة في الآخرة ، لأنه قد سدت عليه سبل النجاة . إن الضال يجد سبلاً كثيرة ،
لكنها جميعاً توصله إلى غير ما يؤمِّله ، وإلى غير ما يحقق من خلاله ذاتيته
ووجوده ، وهذا هو الذي يفهم من قوله - جل وعلا : { وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153] .
وفي حديث ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه - قال : ( كنا عند النبي - صلى الله
عليه وسلم- فخط خطاً ، وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن يساره ، ثم وضع يده في
الخط الأوسط ، فقال : هذا سبيل الله ، ثم تلا هذه الآية : { وأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... } ) [2] .
إن هناك دائماً الكثير من إمكانات الحركة ، والكثير من اتجاهات السير ، لكن عدم
وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبالاً على البشرية ، وهذا هو
الحاصل الآن .
2-
يلمس كل من يعمل فكره في واقع البشرية وجود مفارقة عجيبة بين ما تحرزه في مضمار
الاكتشاف والتقنية والتنظيم والسيطرة على البيئة ، وبين ما تحرزه من تقدم على
الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني - عامة - حيث إن التقدم التراكمي
المطرد على الصعيد الأول ، لا يكاد يوازيه سوى الحيرة والارتباك ، واتساع
الخروق على الصعيد الثاني . وهذا ؛ مع أن الناس يؤملون دائماً أن ينعكس توفر
وسائل الراحة والرفاهية على وضعهم الروحي والنفسي والاجتماعي ، لكن ذلك - مع
الأسف - أمنية لم تتحقق !
في الغرب تساؤلات كثيرة اليوم عن سبب هذه الظاهرة المزعجة ، وتفسيرات عديدة لها
، فمن قائل : إن العالم لم يوجه من إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي لسبر غور
الأبعاد الإنسانية والاجتماعية المختلفة ؛ وما بذل من جهد في هذه المجالات أقل
بكثير مما بذل في المجالات الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية ... ،
ولذلك فالنتائج لم تكن غير متوقعة . ومن قائل : إن المشكلة تعود إلى طبيعة
العلوم الاجتماعية ، فهي على درجة من الهلامية تجعلها تتأبى على التشكيل ،
ومهما حاولنا تقنين أساليب التعامل معها ، فإن النتائج التي يمكن أن نتوصل
إليها ستظل ظنية واحتمالية . ومن قائل : إننا لم نكتشف بعد المنهج الملائم لبحث
قضاياها ومشكلاتها .
والأدوات المعرفية المستخدمة الآن في المجالات الاجتماعية أكثرها مستعار من
منهجيات البحث والمعالجة في المجالات العلمية ، ولذا ، فإنها ستظل محدودة
الفاعلية ... وهكذا ، فالتحليلات كثيرة ، لكن لا يبدو أن هناك سبيلاً للخروج من
المأزق !
وعندي أن التقدم في مجالات العلوم الطبيعية ، يعود إلى أسباب عدة . أهمها :
توفر الإطار الذي تتفاعل فيه الخبرات والإنجازات في المجالات المختلفة ، مما
يجعل التقدم الأفقي في المجالات العلمية المختلفة يساعد على التقدم الرأسي في
كل مجال على حدة . وأمكن التقدم في بلورة هذا الإطار وفي تحديد المبادئ
الأساسية للعمل فيه لسببين أساسيين :
يعود الأول منهما إلى أن العلم محدود الطموحات ، ويشتغل بالجزئيات ؛ فكثافة
إنجازاته من تواضع طموحاته .
ويعود الثاني إلى كونه على غير صلة مباشرة بمسائل الوحي والروح والاعتقاد ،
فكأن الإنجاز فيه في الأصل جزء من سنة الابتلاء في هذه الحياة ، والذي على
الناس أن يستخدموا فيه كل مواهبهم وإمكاناتهم للنجاح . أما في مجال العلوم
الاجتماعية ، فالأمر مختلف تماماً ، فمهما بذل الناس من جهود ، ومهما اكتشفوا
من مناهج ، فإنهم لن يستطيعوا - مثلاً - تحديد الغاية النهائية للوجود ، كما
أنهم لن يستطيعوا توفير المقدمات الكافية لتحديد ما يحتاج العقل من مسارات حتى
يقوم بأعمال الاستنتاج والتوليد ، كما أنهم سيجدون أنفسهم مشتتين حيال تقويم
التجارب الكلية .
العقل البشري - على ما يتمتع به من طاقات هائلة - تظل وظيفته عند بحث القضايا
الكبرى أشبه بوظيفة (المدير التنفيذي) الذي يجهز كل أدوات الرحلة ووسائلها ،
لكنه لا يحدد أهدافها ووجهتها ؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتجسد هنا في
المنهج الرباني المعصوم . وممن انتهى إلى هذه النتيجة (أنشتاين) وهو من أكبر
عباقرة القرن العشرين عندما قال : ( إن حضارتنا تملك معدات كاملة ، لكن الأهداف
الكبرى غامضة ) .
3-
حين أعرض الغرب عن (سبيل الله) أخذ يبحث بجدية نادرة عن السبيل البديلة التي
يمكن أن توصله إلى كل أمنياته ، وتحقق له كل رغباته ، وقد كان (القرن التاسع
عشر) قرن التفاؤل الكبير ؛ إذ حقق العلم انتصارات كبيرة ، واعتقد الناس في
الغرب عندئذ أن (العلم) سيكون قادراً على تحقيق كل شيء وحل كل معضلة ، وسيطرت
من جراء ذلك النزعة الوضعية أو العلمية المتطرفة التي اعتقد أصحابها أنهم
قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأسئلة التي يطرحها الإنسان ،
والمسألة مسألة وقت ليس أكثر . وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بالتضاد بين
(العلم) و (الإيمان) فإما أن تكون عالماً غير مؤمن ، أو مؤمناً غير عالم !
في النصف الثاني من القرن العشرين - على نحو أكثر وضوحاً - بدأت النظرة تختلف
[3] ، حيث شهد هذا القرن حربين عالميتين إلى جانب أكثر من
130 حرباً صغيرة ، وحيث صارت البيئة الطبيعية في حالة يرثى لها ، وأخذت البنى
الاجتماعية المختلفة بالتداعي والانهيار ، وتبين لصفوة من علماء الغرب عظم
الخطأ الذي ارتكبه الغربيون حين ردوا على انحرافات الكنيسة بالإلحاد وتأليه
(العلم) ، كما تبين لهم أن العلم أعجز من أن يدل على طريق النجاة . يقول (بيير
كارلي ) [4] : ( العلم يهدف إلى تمكيننا من معرفة أفضل
بالعالم وعلاقتنا به ، كما أن العلم ينير لنا الطريق في صدد ما يمكن فعله ،
وبخصوص الوسائل والإمكانات المتاحة ، أو الرهانات والمخاطر . أما (الإيمان)
فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي لحياتنا معنى ، إنه يقدم لنا الغاية من
الوجود والقيم وأسباب الأمل والعمل ) [5] .
هذه الأفكار صارت من جملة معتقدات بعض صفوة العلماء والمفكرين في الغرب ، لكنها
ليست في واقع الأمر سوى خطوات قليلة في طريق طويل ، والتخريب الذي أحدثته
(العلمانية) في بنى الحياة الغربية على مدى ثلاثة قرون شديد الانتشار والعمق ؛
والأمل في الإصلاح على المدى المنظور ضئيل للغاية !
4- إن أمة الإسلام ما زالت تنعم - بفضل الله - بالهداية ومعرفة (سبيل الله)
وهذا ما يوفر للمسلمين اليوم تميزاً ، لا يشركهم فيه أحد ، كما أنه يخفف الكثير
من لأواء الحياة ومشاقها . وأكبر دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (الانتحار) في أي
مجتمع إسلامي ، على حين أنها تنتشر في أكثر دول العالم تقدماً ورفاهية . لكن لا
ينبغي لنا أن نطمئن كثيراً إلى ما نحن فيه ، فهذا الفيض من الأفكار والصور
والنظم والنماذج التي يبثها في كل اتجاه أكثر من خمسمائة قمر صناعي تدور حول
الأرض أربكت (الوعي) لدى كثير من المسلمين ، وبتنا نرى الكثير من الثقافات
المحلية العميقة الجذور آخذةً في التحلل والتفكك والانكماش لصالح رموز الحداثة
القادمة من الغرب ، وهذا يفرغ الكثير من الأطر والقوالب الإسلامية من مضامينها
، ويدخل مجتمعاتنا في امتحان ليست مستعدة له !
إن الذي يقرأ التاريخ بشفافية يجد أن التقدم العمراني كثيراً ما يكون مصحوباً
بانخفاض في وتائر التدين وسويّات الالتزام ، فالقرن الرابع الهجري - مثلاً -
كان قمة في التقدم العلمي والعمراني ، لكن الالتزام بتعاليم الشريعة لم يكن
كذلك ، فقد كان في القرون التي سبقته أفضل وأرسخ . وهذا معنى تحذير النبي -صلى
الله عليه وسلم- لأمته من الانبهار والافتتان بزخارف الدنيا ، وخوفه من أن تعجز
عن إقامة أمر الله - تعالى - في ظروف الرخاء والرفاهية .
إن المنتجات التقنية - بالإضافة إلى هيمنة (نظام التجارة) - أخذت تعيد تشكيل
حياتنا على نحو لا يعبأ كثيراً بمقتضيات التدين الحق ، وصار من الواجب علينا أن
نتدبر أمرنا ونرفع درجة حساسيتنا للوافدات الجديدة ، والا فقد نستيقظ بعد فوات
الأوان . وإن على مثقفي الأمة - على اختلاف تخصصاتهم - أن ينهضوا بمسؤولياتهم
والوفاء بالعهد المأخوذ عليهم في هذا الشأن ، فالثقافة ليست وجاهة فحسب ، وإنما
ريادة ومسؤولية في آن واحد .
ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ، ،
________________________ (1) سورة الشورى : 46 . (2) أحمد ، ح / 14853 ، وابن ماجه / المقدمة ، ح / 11 . (3) انظر كتاب العلم والإيمان في الغرب الحديث : 6 ، 7 تأليف
: هاشم صالح ، ضمن سلسلة كتاب (الرياض) عام 1998م . (4) أستاذ فسيولوجيا الأعصاب وعضو أكاديمية العلوم منذ عام
1979 م . (5) السابق : 63 .