تشعر أمة الإسلام اليوم بغربة حقيقية بين الأمم المعاصرة ، وتجد نفسها فريدة
ومتميزة على مستوى المبادئ والمفاهيم والأهداف ؛ وهذا التميز والتأبي على السير
في ركاب القوى العظمى جرّ عليها ضغوطاً أدبية ومادية ، هي أكبر مما نظن بكثير .
إن أدبياتنا تعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته لايكمن
في التشاغل بالرد عليها ؛ مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة ، وإنما يتمثل في
الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم ... ولا ريب أن ذلك شاق على
النفس ؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه ، ويجعل من ذاته الحجر والنحّات في آن واحد
!
والآية الكريمة التي نحن بصددها معْلم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء ، ولعلنا
نقتبس من الدوران في فلكها الأنوار التالية :
1-
إن كثيراً من النصوص يوجهنا نحو الانكفاء على الداخل في مواجهة الخارج بالنقد
والإصلاح والتقويم والتحسين ، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصِّه أحوال الأمم
السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها واندثار حضاراتها لا
يعود أبداً إلى قصور عمراني ، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها ؛ وإنما يعود
إلى قصور داخلي ، يتمثل في الإعراض عن منهج الله (جلّ وعلا) واستدبار رسالات
الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذه الحقيقة بارزة في جميع أخبار الأمم
السابقة ؛ حتى يتأصل في حسِّ القارئ للكتاب العزيز إعطاء الأولوية لصواب المنهج
قبل أي شيء آخر .
وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أحد ، وقال بعض الصحابة (رضوان الله عليهم ) :
كيف نُهزَم ونحن جند الله ؟ ! جاء الجواب : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ
} [آل عمران : 165] فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي ، وليس بسبب شراسة الأعداء ،
وكثرة عددهم وعتادهم ؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته
شيئاً بعيداً ؛ فالعدو بَشَر له أحاسيسه ، وله موازناته ومشكلاته ، وبالتالي
إمكاناته أيضاً ، وفي هذا يقول (سبحانه) : { إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ
فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا
يَرْجُونَ } [النساء : 104] .
2-
ترمي الآية الكريمة إلى تدعيم (الذاتي) في مقابل (الموضوعي) ؛ إذ تعلِّم المسلم
أنه إذا ساءت الظروف فإن عليه أن يُحسِّن من ذاته ؛ لأن من المعروف أنه حين
تسوء الظروف ، فإن الغالب أن يسوء الإنسان نفسه ، ولذلك : فإنه يحدث في حالات
الفقر الشديد نوع من التحلل الخلقي من نحو : السرقة ، والرشوة ، وسؤال الناس ،
والذل ، والتحايل ، والغش ، والبخل ، وقطيعة الرحم ... والمطلوب من المسلم
آنذاك : أن يقف (وقفة رجل) فيضغط على نفسه ، ويضبط سلوكه ويُلغي أو
يؤجل بعض رغائبه ، ويقتصد في نفقاته ، حتى تمر العاصفة ، وينتهي الظرف
الاستثنائي .
ومن النصوص الواضحة في تدعيم الشخصية عند صعوبة الظروف قوله :
(يا معشر الشباب : من استطاع منكم الباءة ، فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [1] .
لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة ، فبدل أن نلجأ إلى
التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم ، واكتساب عادات جديدة ، واقتلاع المشكلات
من جذورها .. كنا نواجه التفسخ الاجتماعي والانحراف السلوكي بأمرين : القوة ،
ومزيد من القوانين ، حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً ، وأقلها تكلفة حسب
ما يبدو وقد عبّر عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عن هذه الحقيقة حيث قال :
(يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور) .
ونحن نقول : إن شيئاً من التوسع في الأنظمة والتشريعات الرادعة يحدث عند جميع
الأمم ، حين يقع تهديد خطير لأمن الناس وحقوقهم ، لكن الجزاءات والعقوبات هي
أشبه شيء بالتدخل الجراحي في العلاج الطبي ، فهو آخر الحلول ، وعند اللجوء إليه
ينبغي أن يتم في أضيق الحدود ! .
إن العقوبات الرادعة إنما وجدت لمن فاتتهم التنشئة الاجتماعية القويمة ؛
والعقوبات لا تنشيء مجتمعاً لكنها تحميه . وهذه رؤية إسلامية جلية ، فآيات
الأحكام والعقوبات جزء منها لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم ، أما
الباقي فكان يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل . إن التجربة علمتنا أن
كثرة القوانين وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء ، وتزيد في قيود الضعفاء
! ، وأن البطش لا يحل المشكلات ، لكن يؤجلها ، فيكون حال المجتمع كمن يأكل عن
طريق الدّين ، فهو ينتقل من سيء إلى أسوأ ! ! .
إن الدولة الفاضلة هي التي تدير مجتمعها بأقل قدر ممكن من العنف واستخدام القوة
؛ لأنها ترتكز أساساً على استخدام الأساليب والأدوات السلمية في الضبط والإدارة
.
إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى : أن النصر الخاص يسبق النصر العام ، وأن
الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً ، وحقق كل واحد
من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك .
3-
لا ينبغي لنا أن نفهم نصّاً من النصوص بمعزل عن المنظومة التي ينتمي إليها ،
ويعالج معها مشكلة واحدة ؛ والنص الكريم هنا يوجهنا إلى أمرين : الصبر ،
والتقوى .
ويعني الصبر : احتمال المشاق والديمومة في تأدية التكاليف الربانية ، مهما كانت
الظروف قاسية ؛ لأن ذلك نصف النصر ، إذ إن نصف الفوز يأتي من جهودنا ، وقبله من
توفيق الله (تعالى) لنا ، والنصف الثاني يأتي من أخطاء أعدائنا .
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة كما هو مفهوم العوام لكنه يعني عدم
اللجوء إلى الحلول السريعة ، وقد جرت العادة أن الناس حين يرون إنساناً متفوقاً
: يطلبون منه حلولاً سريعة لمشكلاتهم المتخمرة والمتأسنة ؛ والحلول السريعة
تفضي في كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط ، أو إلى الاندفاع والتهور ؛ مما
يعقِّد المشكلة أكثر مما يحلها ! .
إن من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعاً كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن شيئاً
، لكن إذا قلنا : ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها خلال عشرين عاماً ، فسوف نرى أننا
نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدّاً ، فكأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من
أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها .
حقيقةُ ضرورة اقتران الصبر بالعمل والحركة للخلاص من الأوضاع الصعبة حقيقة
قرآنية لامعة ، نطقت بها الكثير من الآيات القرآنية ، مثل قوله (سبحانه) : {
ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل
: 110] ، وقوله (سبحانه) : { يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا
بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153] ،
وقوله (تعالى) : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً
أَوْ كَفُوراً } [الإنسان : 24] .
إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس
والاستسلام ، وقد يكون ضرباً من العجز أو قصر النظر أو ضيق الأفق ... وهذا ما
لا يرضى الله (جل وعلا) لعباده المؤمنين منه شيئاً .
أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية : نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر
بالظروف السيئة المحيطة ؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية
والاقتصادية القاسية .. كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والأخلاق
والنفوس والسلوك ، بل إنها تصلّب روح المقاومة ، وتُكسب الخبرة ، وتكشف عن
الأجزاء الرخوة في البناء الداخلي ، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس .
وقد مرّت أمم كثيرة بأقصى مما نمر به ، لكنها استطاعت عن طريق الانتفاضة
النفسية والشعورية ، أن تتجاوز المحن ، وتنبعث من جديد ! .
4-
إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو : تهذيب الذات وتحسينها ، وتدعيمها ،
والرقي بها ؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة ، منها : المزيد من الالتزام
الصارم ، ومقاومة الشهوات ، والتعاون ، والمفاتحة ، والمراجعة ، والتضحية ،
والمواساة لبعضنا بعضاً ، والحفاظ على رأس المال الوطني ، والاقتصاد في
الاستهلاك .. إنه يعني اكتساب عادات جديدة ، من نحو تكثيف القراءة الجيدة ،
والنظر دائماً إلى المستقبل بعقل مفتوح ، وتحسين العلاقات مع الآخرين ،
والإكثار من المعروف والنوافل ، إلى جانب التخلص من أكبر قدر ممكن من العادات
السيئة ، مثل عدم الدقة وخلف الوعد ، وتأجيل أعمال اليوم إلى أوقات أخرى ...
5-
يركز الخطاب الإسلامي بصورة عامة على تدعيم الذاتي في كل الأحوال ، وقلما يتطرق
إلى علاج الظروف العامة التي يعيش فيها المسلم ، ومن ثم : فإننا نجده يؤكد على
الصلاح واستقامة السلوك والانتهاء عن المناهي ...
أما تناول الشروط الموضوعية الضرورية لاستجابة المسلم للدعوة فإنه ضعيف ، وعلى
بعض الأصعدة معدوم ، وهو على كل حال فقير ، وتنقصه الخبرة والدربة .
إن بين الإنسان والظروف والأوضاع الحياتية العامة التي يعيشها علاقة جدلية فهو
يؤثر فيها ويتأثر بها ، ولا بد للدعاة من أن يدركوا أن الفرد المسلم لا يستطيع
أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع ، وذلك التباعد مرهق ومكلف ؛
فحين يكون كسب القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن طرق محرمة
أو ملتوية مثلاً فإن الذين سوف يستجيبون لنداء (اللقمة الحلال) سيكونون قلة ،
وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم ، وربما أدخلهم ذلك في مشكلات مع أقرب
الناس إليهم .
ولهذا : فكما أن محاولات تحسين المستوى الشخصي للمسلم يظل ضروريًّا وحيويّاً ،
فإن تحسين المناخ العام ينبغي أن يظل موضع عناية واهتمام ؛ إذ ليس المطلوب
تحقيق شروط الدعوة الجيدة ، وإنما تحقيق شروط الاستجابة الناجحة أيضاً .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
________________________ (*) الآية : 120 من سورة آل عمران . (1) أخرجه البخاري ، كتاب النكاح .