يقول الله (جل وعلا) : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ
} [البقرة : 269] .
وردت كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ، وذهب المفسرون إلى تفسير
معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة
بالموعظة ، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، فإن للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة ،
منها : النبوة ، والفقه في القرآن ، والمعرفة بدين الله ، والفقه فيه ،
والاتباع له ، والخشية ، والورع [1] ...
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين ، والفقه في
التأويل ، والفهم الذي هو سجية ، ونور من الله (تعالى) [2]
.
ولعل هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب . والذي يبدو لي : أن
الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بين
معارف الحكيم والمواقف العملية له ؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني : وضع الشيء في
موضعه ؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة ، وليس جزءاً منها ، لكنهم لمحوا
أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء .
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة ، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في المفردات
التالية :
1-
إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي خارجها ؛
فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه في هذا الكون
، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح والخطوة المناسبة .
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك فإن نجاحه يظل نسبيّاً ، كما
أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً ؛ حيث إن مبادئ الإنسان ومعارفه
تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء ؛ ومن ثم : فإن موقفاً ما قد يكون في نظر
واحد منا حكيماً ، على حين ينظر إليه آخرون على أنه طائش وخائب ؛ إلا أن الأيام
بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما تركمه من نماذج تساعدنا على نوع من توحيد
الرؤية والفهم .
2-
إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى العناصر
المكوّنة لها ، وهي على ما يبدو لي ثلاثة : الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛
فالذكاء اللماح ، والمعرفة الواسعة ، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً : (الحكمة) ،
وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها .
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة
من العلم والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل
استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن من
غربلة المعرفة أو الإضافة إليها . والأهم من هذا وذاك : أن المعرفة دون ذكاء
تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب ضعف البداهة
.
ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل الإنسان حكيماً ما لم
يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي تجعلنا ننصاع لأمر
الخبرة ، وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق بين النظرية والتطبيق .
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ، والمعرفة الواسعة كسب شخصي ، والإرادة
القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه البررة ؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف
المطلوبين للعيش فيه بكرامة على مستوى الإرادة ، وعلى مستوى القدرة ، وهو لا
يمنح القدرة ، لكنه يمنح أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية ،
ومن خلال المراتبية الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره .
3-
إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن ثم :
فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة في تخصص من التخصصات
، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً متبحراً في أي علم
من العلوم .
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها ، فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات
كثيرة ، أما الحكيم : فيقوم بتركيب المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل
بناء وتشكيل المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات
الماضي والحاضر والمستقبل .
العلم يمكننا من صنع الدواء ، وصنع السلاح ، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى نداوي
، ومتى نحارب .
العلماء كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها ، والعمل
الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين ، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى الحكماء
العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة ، ويخلصون منها إلى محكات
نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن الحكمة أُم الوسائل والأساليب ، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من
المناهج ، إنها معرفة تتأبى على التنظيم ، فهي دائماً مرفرفة ، على حين أن
العلم معرفة منظّمة ، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة ، وتنتهي إلى أن
تكون فنّاً ، أي : إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في قوالب
جاهزة ، وتصبح بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد ، أي : أن تطعّم بالحكمة . ومن
ثم : فإن الحكمة تتأبى على الاستنفاذ ، ولذا : فإنها الخير الكثير الفياض
المتجدد الذي يهيئه الله (تعالى) لمن شاء من عباده .
4-
جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين أخرجوا
الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة ، فصارت المفاهيم
الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية ، بل مصادمة لها .
وفي العصر الحديث : لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية ، وإنما اتباع لفلاسفة الغرب ،
ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس : هدم عقيدة الألوهية وتدعيم
الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين ذوي النظر الكلي
والرؤية العامة .
إن الناظر في الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما
اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت تالية له ، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما
هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكبرى ؛
إنه القيّم والمهيمن عليها ، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها ، ولكنه
إمساك بها كي لا تفقد اتجاهها ومحورها ؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته لا
يستطيع أن يعمل بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت وصلابة
اليقين .
وقد آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها جميعاً
: في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية والجدلية التي
تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات العلوم ،
ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً ، والسعي إلى تكوين جيل جديد من
الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون
المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية الشاملة
.
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد ؛ إذ إن المعرفة البشرية على
وشك إكمال دورتها ، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره سوف يكون أقصر العصور
الحضارية ، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى : أسئلة الهوية ، وعلل الوجود ،
والمصير ، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها ، وحقوقها .. أي : إن الفلسفة قد
تستعيد مجدها القديم ، لكن ضمن معطيات ومساقات جديدة ، وبلغة شديدة التعقيد ،
وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك ، الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر القادم ،
ويحسنون الجواب عليها .
5-
الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات ( الحكمة ) كما ذكرنا وهي (الإكسير) الذي
يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس ، إن الحكمة نور
داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة ، ويدمجها في نظم أشمل ، فتبدو منسجمة
متناسقة ، لكن الحكيم لا يبدو كذلك ، فهو طراز فريد ، ونموذج خاص ، يصعب تقنين
عطاءاته وتوجهاته ومواقفه ؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على التحقق الكامل ، ومن ثم
: فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على فضل الله (تعالى) على أصحابها
وتوفيقه لهم . وتلك المواقف تفوق الحصر والعد ، لكن نذكر بعضها من أجل التقريب
:
أ-
الحكمة نمو دائم ، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل مفهومات
الحكيم في نوع من الحركة الدائبة ، مفهوم يكبر ، وآخر يضمر ، ونقط تزداد
تفصيلاً ، وأخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة ، وأفكار
قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل الحكيم في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسّر لدى
الكثيرين على أنه تناقض واضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة
للمرونة الذهنية العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصُلبة
، لكن كل ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل .
ب-
إيثار الآجل على العاجل ، والدائم على الآني ، وما يمليه ذلك من مواقف
والتزامات : أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت توجّه
الناس نحو هذه الفضيلة ، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت جلّ الناس
عن الاستجابة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ }
[القيامة : 20 ، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير من الناس ، سببه : ضعف في الخبرة ، أو ضعف
في الإرادة ، أو فيهما معاً ، والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما .
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما
يتقاتلون عليه ، وربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه
يضحك في داخله من جهادهم في غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب ! ! .
ج-
داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليات
المقارنة ، والموازنة ، والتحليل ، والتركيب ، والاستنتاج ، والتشذيب ،
والإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ تعلوه
السكينة والوقار .
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ،
لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ،
إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ،
ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ، لكنها منها جميعاً !
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر ، لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي
بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة ، لكنها غير منظورة ! .
د -
من أهم تجليات الحكمة : إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فالحكيم يرى
الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي ، وتقدير
القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على مدار التاريخ ،
وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس تافهة ، فإذا هي
عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه ! .
الحكيم : رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً
أو نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع
، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم . كلنا نرى
القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، وبعد أن نكتوي بنارها ،
وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب ، كما قال سفيان
الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم
« ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه ، أما أهـل الاختصاص ، الذين أذهبوا العمر في
تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم
العلمي ، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء محدودة للغاية ! .
هـ ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة ؛ والنزق والبَرَم
الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع
الأشياء ومنطق سيرورتها . أما الحكيم : فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث
وفواجعها ، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ،
ونبهتهم إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة
الخطب الذي سيواجهونه . إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض النتائج تكون
مكافئة في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا مستريحة) ومشاعرنا
غارقة في عالم الملذات والأوهام ! .
ما ذكرناه من أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض ، ولا يشف عن محاسنها قول كقول
الله (تبارك وتعالى) : { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً } [البقرة : 269] .
________________________ (1) الجامع لأحكام القرآن : ج3 ، ص330 . (2) السابق : ج2 ، ص131 .