أنزل الله - جلَّ وعلا - في المنافقين سورة سُميت باسمهم ، تفضح بعض مواقفهم ،
وتُخبر عن بعض صفاتهم ، وكان من جملة ما نَعَتَهُمْ الله تعالى به قوله : {
وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ } [1] .
فقد وصفهم الله - تعالى - بأن الناظر إليهم يُعجبُ بجمال أجسامهم ، ومن يسمعهم
يُؤخذ بفصاحة ألسنتهم ، لكنهم كالهياكل الفارغة ، أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا
أحلام ...
وهذه الصفات تتناسب مع حالة النفاق ، إذ إن ظاهر المنافق دائماً خير من باطنه ،
فظاهره الإيمان ، وباطنه الكفر ، وهو ذلق اللسان ، لكنه يقول غير ما يعتقد ؛
فهو كذاب ، وهو جميل الصورة ، لكنه عاطل من الصفات النبيلة كالإيمان والمروءة
والرجولة ، وكل ما يزين الباطن .
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : » كان عبد الله ابن أُبي
(رأسُ النفاق) وسيماً جسيما صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي -
صلى الله عليه وسلم- مقالته « [2] .
ولمّا كان للظاهر سلطانه القوي في التأثير ، وانتزاع الإعجاب علَّم النبي - صلى
الله عليه وسلم- أصحابه ضرورة تجاوزه إلى المعاني الباطنية ؛ لأنها هي الفيصل
الحقيقي في تقييم الرجال ؛ وقد ورد في الحديث الصحيح : أن رجلاً مرَّ على النبي
-صلى الله عليه وسلم- فقال : ما تقولون في هذا ؟ « قالوا : حري إن خطب أن ينكح
، وإن شفع يُشفع ، وإن قال أن يُستمع إليه « قالوا : » حريٌّ إن خطب ألا يُنكح
، وإن شفع ألا يُشفَّع ، وإن قال ألا يُستمع إليه « ثم مر رجل آخر ، فقال : »
ما تقولون في هذا « . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : » هذا خير من ملء
الأرض مثل هذا [3] ففضَّل النبي صلى الله عليه وسلم الفقير
على الغني ، وذلك لا يلزم منه تفضيل كل فقير على كل غني ، إنما أراد أن يعلمهم
أن التفاضل لا يقوم أبداً إلا على المعاني الباطنية ، وما يتبعها من أعمال .
وتطرح هذه الآية الكريمة مسألة خطيرة في حياة الإنسانية بعامة وحياة المسلمين
بخاصة ، هي قضية العلاقة بين الشكل والمضمون ، أو الجوهر والمظهر
[4] .
ونعني بالجوهر ابتداءً : مجموع الخصائص الخُلُقِيَّة والنفسية . والصور الذهنية
، والخبرات والموازنات العميقة للفرد .
أما المظهر : فإنه مجموع ما يحمله الفرد من الصفات الجسمية ، وما يمتلكه من
الأشياء ، وما يتحمله من وظائف ، مما لا يعد على صلة مباشرة بكينونته الذاتية .
في البداية ليس الجوهر والمظهر شيئين منفصلين انفصالاً تاماً ، بل بينهما علاقة
تأثر وتأثير وأخذ وعطاء ، وقد ورد ما يدل على هذا فقد كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان يمسح مناكب أصحابه في الصلاة ، ويقول : » استووا ، ولا تختلفوا
فتختلف قلوبكم « [5] . والمرء حين ينشرح صدره يظهر ذلك على
مُحيّاه ، ومن ثم قيل : » من كثرت صلاته بالليل ضاء وجهه في النهار « .
وإذا كان بين الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتلازم فإن من البدهي ألا
يزهِّد الإسلام الناس في الشكل ؛ فالصلاة موقف روحي بحت ، ومع ذلك حرص النبي
-صلى الله عليه وسلم- على انتظام الصفوف فيها ، والأمر قريب من ذلك في صفوف
القتال .
وحث الإسلام على النظافة ، كما امتنَّ الله - تعالى - علينا بما نشعر به من
التأنق عند غدوِّ الأنعام ورواحها ، كما قال سبحانه : { ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ
حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ } [6] ، وتلك مسألة
شكلية . والأمثلة على هذا أكثر من أن تُحصى .
إذن ما هي المشكلة ؟
تكمن المشكلة في اختلال التوازن بين الجوهر والمظهر ، أو بين المضمون والشكل ؛
فالبشر متفقون على أن اللباب هو الأصل ، وأنه ينبغي أن يُعطي من الاهتمام
والعناية والبلورة القسط الأكبر لأن كل الإنجازات الحقيقية التي تتم على السطح
نابعة أساساً من إنجازات تمت على مستوى الكينونة والجوهر . وهذا يتناسب مع
حقيقة تسخير الكون الذي حبا الله - تعالى - به الإنسان ؛ كيما يظل حراً طليقاً
يحكم ويأمر دون أن يُكَبَّل ! بشيء من صنع يديه !
وللمجتمع وما يقره من أعراف سلطانٌ كبير على الناس ، ولما كان الحكم الاجتماعي
منصباً على الشكل كان الانحدار نحو الاهتمام بالشكل هو الأمر الطبيعي المتبادر
إليه ، أما العناية بالجوهر فيمكن أن تنمو عن طريق التربية الخاصة في الأسرة أو
المدرسة ، لكن ذلك سيظل ضعيف التأثير ما لم يكن المجتمع كله خاضعاً لمبادئ عليا
خارجة عن إنتاجه ، ولن يكون مصدر تلك المبادئ حينئذ الأرض ، وإنما السماء ! لكن
حين يكون الدين عبارة عن بعض الرؤى الغيبية ، أو الدغدغات العاطفية - كما هو
الشأن عند بعض الملل - فإنه لا يضع شيئاً في مواجهة التيارات الاجتماعية
العاتية ؛ لأنه لا يعدو آنذاك أن يكون عنصراً رخواً من عناصر الثقافة !
وإن الذين الذي يوجِّه ويقاوم هو الذي نُمحِّص حياتنا من أجله !
وحينما يضعف الوازع الديني لدى المسلم فإن الميزان يميل مباشرة لصالح المظهر .
وبما أننا نعيش في عصر نتأثر فيه أكثر مما نؤثر فقد أضيف إلى ضعف الوازع الديني
عند أكثر الناس الوقوع تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب الحياة المختلفة ،
تلك الفلسفة التي شكَّلت من الإنتاج غير المحدود والحرية غير المحدودة والسعادة
غير المتناهية ديناً جديداً اسمه التقدم ! واقتضى ذلك توجهاً كلياً نحو الطبيعة
لاستثمار كل شيء فيها ! ثم استهلاكه بصورة جشعة لم يسبق لها مثيل ناسين أن
موارد الطبيعة محدودة ، وأن الطبيعة . سوف ترد على ذلك ، بل إنها بدأت بالرد
فعلاً !
وعلى صعيد الرمز فقد كان البطل المسيحي يستوحي شخصية الشهيد ، وهو عيسى - عليه
السلام - حيث وهب حياته من أجل غيره - حين صلب كما يزعمون - ، ثم انقلبت الأمور
رأساً على عقب ، حيث صار العالم الغربي يستوحي شخصية البطل الوثني ، كما يتجسد
في أبطال الإغريق والرومان ، ذلك البطل الذي يغزو ، وينتصر ، ويدمر ، ويسرق ،
وينهب . وشتان ما بين شخصية الشهيد الذي يهب حياته من أجل غيره ، وبين المقاتل
الذي غايته السيطرة على الآخرين وتضخيم الحياة الشخصية ! ! 12
وكانت النتيجة ولادة مجتمعات تعاني من الوحدة ، والقلق ، والاكتئاب ، والنزوع
التدميري ، والخوف من المستقبل ، والأنانية الشخصية ، والتفكك الأسري...
تأثرنا - نحن المسلمين - بهذا كله من حيث ندري ، ولا ندري ، وتوجهت قوانا
الفاعلة نحو الخارج ، وأهملنا الجوهر ، وكانت حالتنا في بعض النواحي أسوأ ممن
تأثرنا بهم ؛ لأن القوم صاروا إلى الشكل بعد أن حققوا ذواتهم بطريقة فعَّالة
وإن كان انحرافها يحمل في النهاية بذرة موتها ؛ أما نحن فقد غادرنا الجوهر لغمر
أنفسنا بالشكليات !
والناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والحياة العامة لصحابته - رضوان
الله عليهم - يجد أن السيطرة كانت للكينونة الداخلية ، وليس لما يمتلكه الناس
من أشياء ؛ لأن المحور الأساسي للحياة الاجتماعية كان الإنسان ، وليس الأشياء ؛
أما الآن فقد صارت (الملكية) هي المحور ، ويتجلى ذلك واضحاً في أمور عديدة منها
:
1 -
تناقصت الألفاظ المستعملة في الدلالة على الجوهر ، في حين زاد تداول الألفاظ
الدالة على الأشياء ، فحديث المجالس لم يعد يتمحور حول البطولات ، والإنجازات ،
والمواقف الكريمة ، والصفات الحميدة ، وإنما حول العقارات ، والسيارات ، وأسعار
السلع ، وأثاث البيوت ، والأرصدة المالية ...
2 -
الرغبة في مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من الاستهلاك جعل اعتماد الناس على
الآلة يتزايد يوماً بعد يوم ، وصار الإنسان ترساً من تروسها ، وصار دوره مكملاً
لدورها ؛ ومن طبيعة هذا الشأن أن يزيد اهتمامنا بالمظاهر ، ويشغلنا عن الحقائق
.
3 -
كانت قيمة وجود الإنسان مستمدة مما يُحسن ويتقن ، وصارت المعادلة الجديدة :
قيمة وجودي مستمدة من مقدار ما أملك ، ومقدار ما أستهلكُ ! وهذا ولَّد الخوف
الدائم من ذهاب الملكية ؛ لأن ذهابها ذهاب لمالكها ؛ واقتضى ذلك مزيداً من الشح
والأثرة والتقاطع ...
4 -
علاقتنا بالمعرفة تبدلت ؛ فقد كان حب العلم واكتساب المعرفة من أجل الفقه في
الدين وتنمية الشخصية ومعرفة الحياة ... وكانت العملية التعليمية عبارة عن
اندماج بين العلم وطالبه ، أما الآن فقد صارت علاقة طالب العلم بما يطلب علاقة
تجارية بحتة ، فهو يتعلم لينال الشهادة ؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي عند
إفراغها على الورق في الامتحان !
5 -
السمات الأساسية للجوهر هي : الاستقلالية ، والحرية ، وحضور العقل النقدي ،
والاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية ، والنمو ، والتدفق ، لكن العلاقات
الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية الجديدة جعلت أنشطة الإنسان عبارة عن
انشغال دائم مفصول تماماً عن قواه الروحية ، بل يقف ضدها ، ويحد من فاعليتها في
كثير من الأحيان ؛ مما أدى إلى الاتكالية والسأم والتذمر ، وجعل الحياة تفقد
طعمها الحقيقي بشكل عام .
6 - كانت عواقب الاتجاه إلى الشكل
والتغافل عن المضمون كثرَة اللذائذ وانعدام السعادة ! واللذة إشباع الرغبة على
نحو لا يتطلب نشاطاً ، مثل لذة الحصول على مزيد من الربح ، أو هي : تجربة لحظة
من لحظات الذروة يعقبها في الغالب نوع من الكآبة ، ولا سيما حين تكون غير
مشروعة ، حيث يبدأ التقريع الداخلي .
أما السعادة فهي : شعور مصاحب للنشاط الإنساني ؛ وهي أقرب إلى أن تكون حالة من
الوجود المتصل على ربوة رحبة ؛ لأنها وهجٌ لكينونة الإنسان ، ونشاطه الداخلي .
ويمكن القول : إن السعادة في مقياسنا الإسلامي تتعاظم كلما ردم المسلم من
الفجوة القائمة بين معتقداته وسلوكياته ، حيث يرضى المسلم عن أدائه ، ويستشرف
عاقبة المتقين .
كل هذه التحولات باتجاه الشكليات جعلت كثيراً من أمة الإسلام قوة عددية ليس إلا
؛ لأن الذي يفقد الصلة بمكوناته الأساسية لابد أن يصبح شكلياً . فهل تعيد
الصحوة المباركة الأمر إلى نصابه بإعادة التوازن من جديد بين الشكل والمضمون ،
والجوهر والمظهر لنستأنف رسالتنا الحضارية ؟ ! هذا ما نرجوه . وعلى الله قصد
السبيل .
________________________ (1) المنافقون : 4 . (2) تفسير القرطبي 18 / 124 . (3) أخرجه البخاري . (4) ننصح بالرجوع إلى كتاب الإنسان بين الجوهر والمظهر
الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت وقد أفدت منه هنا في بعض ما كتبت . (5) أخرجه مسلم وغيره . (6) النحل : 6 ومثل هذا قوله سبحانه : [ والْخَيْلَ
والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً ] .