|
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ : لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ : قَسَمَ فِي النَّاسِ , وَفِي الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئاً . فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ , إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ . فَخَطَبَهُمْ ,
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ , أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهُدَاكُمْ
اللَّهُ بِي ؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي ؟
وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ . كُلَّمَا قَالَ شَيْئاً ، قَالُوا :
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ . قَالَ : مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ . قَالَ : لَوْ
شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ : جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا . أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ
يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ , وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ
إلَى رِحَالِكُمْ ؟ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ ،
وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً أَوْ شِعْباً لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ
وَشِعْبَهَا . الأَنْصَارُ شِعَارٌ , وَالنَّاسُ دِثَارٌ . إنَّكُمْ
سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى
الْحَوْضِ .
في الحديث مسائل :
1= أشكَل على غير واحد مِن الشُّرَّاح إدخال هذا الحديث في كِتاب الزكاة .
وقد وقفت أتأمل هذا الحديث ، وما الذي دعا المصنِّف رحمه الله إلى إدخاله في
كِتاب الزكاة ، فتَبيَّن لي أنه أدخل هذا الحديث في كتاب الزكاة لأمور :
الأول : الدلالة على أن قسمة الغنائم والفيء ليست كقسمة الزكاة .
والثاني : أنه لَمَّا جَاز إعطاء صِنْف واحِد مِن الغنائم والفيء ، جاز أيضا في
الزكاة الواجبة .
الثالث : الاستدلال بالأوْلَى ، وذلك أن قسمة الفيء كَما قال تعالى : ( مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، فإذا
جاز صَرْف الفَيء عن أصحابه المنصوص عليهم إلى ما رآه رسول الله صلى الله عليه
وسلم حيث أعطى المؤلَّفَة قلوبهم – وهم مِن أهل الزكاة – فلأن تُصْرَف الزكاة
الواجبة إلى صِنف من أصحابها أولى بالجواز .
2= يجوز الاقتصار على إعطاء صِنْف واحِد مِن أهل الزكاة ، إلاَّ أنه ينبغي أن
يُراعَى في ذلك المصلحة العامة .
ولو اقتصَر صاحِب المال على إعطاء صِنْف واحِد لم يأثم .
والمسألة محلّ خلاف .
قال القرطبي في تفسير آية " التوبة " : قوله تعالى ( للفُقَرَاء ) تَبْيِين
لِمَصَارف الصدقات والْمَحَل حتى لا تَخْرُج عنهم ، ثم الاختيار إلى مَن يَقسم
؛ هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما ... وقال الشافعي : اللام لام التمليك ...
وتَمَسَّك علماؤنا بِقَوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا
هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ،
والصدقة متى أُطْلِقَتْ في القرآن فهي صدقة الفَرْض ، وقال صلى الله عليه وسلم
: أُمْرِت أن آخذ الصدقة مِن أغنيائكم وأرُدّها على فَقرائكم . وهذا نص في
ذِكْر أحد الأصناف الثمانية قُرآنا وسُنة ، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن
عباس وحذيفة ، وقال بِه مِن التابعين جَماعة ، قالوا : جائز أن يدفعها إلى
الأصناف الثمانية ، وإلى أيّ صِنف منها دُفِعت جَاز . اهـ .
3= " لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ "
الفيء مأخوذ مِن الرّجوع ، ومِنه الفيء الذي هو انكسار الظِّل وقت الزوال ،
لأنه يرجع إلى الجهة الثانية .
قال الراغب : وقيل للغنيمة التي لا يلحق فيها مَشَقَّة : فيء ... قال بعضهم :
سُمِّي ذلك بالفيء الذي هو الظِّل تَنْبِيهًا أنَّ أشْرف أعْرَاض الدنيا
يَجْرِي مَجْرَى ظِلّ زَائل ! . اهـ .
ولعله سُمِّي كذلك مِن حيث النَّظَر إلى أصل المال وحِلِّه ، وأن الاستخلاف في
الأرض للمؤمنين ، فإذا غَنِموا أموال الكُفار بهذه الطريقة ، يَكون كأنه رَجَع
إلى أصله . ورَجَع المال إلى أصحابه الذين اسْتُخْلِفُوا فيه .
4= يوم حُنين : تُسمَّى أيام الواقعة أو الْحَدَث : يَوم كذا ، كما يُقال : يوم
القيامة ، ويوم بَدْر ، ونحو ذلك .
5= حُنين : قال القاضي عياض : وادٍ قريب مِن الطائف ، بَيْنَه وبَيْن مَكَّة
بضعة عشر ميلا . اهـ .
6= قال ابن حجر : قوله : " قَسَم في الناس " حَذف المفعول ، والمراد به الغنائم
. ووقع في رواية الزهري عن أنس في الباب : يُعْطِي رِجَالاً المائة من الإبل .
وقوله : " في المؤلفة قلوبهم " بَدَل بعض مِن كُلّ ، والمراد بِالمؤلفة ناس مِن
قريش أسْلَمُوا يَوم الفتح إسلاما ضعيفا .
وقيل : كان فيهم مَن لم يُسْلم بَعد ، كصفوان بن أمية .
وقد اخْتُلِف في المراد بِالمؤلفة قلوبهم الذين هم أحد الْمُسْتَحِقِّين للزكاة
؛ فقيل : كُفَّار يُعْطَون تَرْغِيبا في الإسلام .
وقيل : مُسْلِمون لهم أتباع كُفار لِيَتَألَّفُوهم .
وقيل : مسلمون أوّل ما دخلوا في الإسلام ليتمكن الإسلام مِن قلوبهم .
وأما المراد بالمؤلفة هنا فهذا الأخير ، لقوله في رواية الزهري في الباب فإني
أُعْطِي رِجَالاً حديثي عَهد بِكُفْر أتألفهم . اهـ .
7= الأَنْصَار : هم الذين نصَروا النبي صلى الله عليه وسلم وناصَرُوه ، وهم
سُكَّان المدينة النبوية خاصة .
وفضلهم معروف مشهور ، وفي الصحيحين من طريق عدي بن ثابت قال : سمعت البراء
يُحَدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنْصَار : لا يُحِبُّهم
إلاَّ مؤمن ، ولا يبغضهم إلاَّ مُنافق ، مَن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم
أبغضه الله .
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال : آية الإيمان حُبّ الأنصار ، وآية النفاق بُغْض الأنصار .
وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لا يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ .
وفيه أيضا من حديث أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ .
وجاء في آخر هذا الحديث ما يدُلّ على فضل الأنصار .
8= " فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ " أي : كأنه شقّ عليهم .
والوَجد في الأصل : يُطْلَق على شِدّة الْحُزن .
قال ابن حجر : الْوَجْد بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُون ، أَيْ : حُزْن .
قوله : " فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ , إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا
أَصَابَ النَّاسَ " ليس في هذا اعتراض على حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإنما فيه مَعْتَبَة ، ويَدُلّ عليه قولهم : يَغْفِر الله لِرسول الله صلى الله
عليه وسلم يُعْطِي قُريشا ويدعنا ، وسيوفنا تَقْطر مِن دمائهم ! رواه البخاري
ومسلم مِن حديث أنس .
ومما يَدُلّ على أنه ليس اعتراضا أنهم لم يَتَكلَّموا بِكلام فيه سُخطة ،
وسُرعان ما رَجَعوا عن معتبتهم حينما طيَّب النبي صلى الله عليه وسلم أنفسهم
بِقوله .
وفي حديث أنس : أفلا تَرْضَون أن يذهب الناس بالأموال وتَرجعون إلى رِحالكم
بِرسول الله ؟ فوالله لَمَا تَنْقَلِبُون بِه خَير مما ينقلبون به . فقالوا :
بلى يا رسول الله قد رضينا . قال : فإنكم ستجدون أثَرَة شَديدة فاصبروا حتى
تلقوا الله ورسوله ، فإني على الحوض . قالوا : سَنَصْبِر . رواه البخاري ومسلم
.
ثم إن هذا القول قول بعض صِغارهم !
ففي حديث أنس : فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما كان
حديث بلغني عنكم ؟ قال له فقهاؤهم : أما ذوو آرائنا يا رسول الله فلم يقولوا
شيئا ، وأما أناس منا حَديثة أسْنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلى الله
عليه وسلم يعطي قُريشا ويَترك الأنصار ، وسُيوفنا تَقْطُر مِن دمائهم . رواه
البخاري .
9= " فَخَطَبَهُمْ " أي : وَقَف فيهم خَطيبا ، وكثيرا ما يَخطُب النبي صلى الله
عليه وسلم في أصحابه ، وكان يخطُب على المنبر في غير خُطبة الجمعة .
10= قوله عليه الصلاة والسلام : " وَعَالَة " أي : فقراء ، ومنه قوله تعالى :
(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ
شَاءَ) ، وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) .
11= قولهم : " اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ " أي أكثر مِـنَّـة وأعظم فضلا ؛
لأن الله تبارك وتعالى هو الذي هَداهم ، ومَـنّ عليهم أن أرْسل فيهم رَسولاً
مِن أنفسهم .
12= قوله عليه الصلاة والسلام : " لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ : جِئْتَنَا كَذَا
وَكَذَا " ، هكذا الرواية في الصحيحين . وفي صحيح مسلم : فقال : أما إنكم لو
شئتم أن تقولوا كذا وكذا ، وكان من الأمر كذا وكذا - لأشياء عَدَّدَها - زَعم
عَمرو أن لا يَحفظها .
وفي المسند مِن حديث أبي سعيد : ثم قال : ألا تجيبونني ؟ ألا تقولون : أتيتنا
طريدا فآويناك ، وأتيتنا خائفا فآمناك ؟
وفيه أيضا : أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُم وصُدِّقْتُم .
وفيه المسند مِن حديث أنس : ثم قال لهم : ألا تَقولون : أتيتنا طريدا فآويناك ،
وخائفا فأمناك ، ومخذولا فنصرناك ؟فقالوا : بل لله الْمَنّ علينا ولِرَسُولِه .
13= قوله : " الأَنْصَارُ شِعَارٌ , وَالنَّاسُ دِثَارٌ "
الشِّعَار : ما يلي الْجَسَد من اللباس .
قال القاضي عياض : الشِّعار الثوب يُلزقه الرَّجُل بِجِلْدِه .
والدِّثار : ما لَبِسَه فوق الشِّعار .
أي : فأنتم أقرب منهم .
14= وقوله : " إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً "
الأثَرَة : قال القاضي عياض : أُثْرة بضم الهمزة وسكون الثاء ، ويروى أَثَرَة
بفتحهما .
قال الأزهري : وهو الاستيثار ، أي : يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويُفضل غيركم
عليكم نَفسه ، ولا يجعل لكم في الأمْر نَصيب .
15= " فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ " التذكير بالآخِرة ،
وبِموعود الله مما يُهوِّن على المؤمن المصيبة ، ويُصبِّره على ما يلقى مِن
شِدّة .
والله تعالى أعلم .