|
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ - : إنَّك
سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ
يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ
. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ
فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ
أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ , فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ
صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ،
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ , فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ .
وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ
حِجَابٌ .
في الحديث مسائل :
1= الوصية للدُّعاة والوُلاة ولو كانوا مِن أولي العِلْم ، فمعاذ رضي الله عنه
سيّد العلماء ، ومع ذلك أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2= أهمية مَعْرِفة الدَّاعي بأحوال الْمَدْعُوِّين ، فإن ذلك أدْعَى لِقَبُول
دعوته .
3= في الحديث أنَّ دعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لأهل الكِتاب وغيرهم ،
إذ هي دَعوة للناس كافَّة .
4= فيه أنه لا يُقبَل مِن أهل الكِتاب الإيمان بعد بعثة محمد صلى الله عليه
وسلم إلاَّ باتِّبَاعه عليه الصلاة والسلام
وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا
نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
5= مِن مُقْتَضَى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما
أخبر ، وطاعته فيما أمَر . ولذلك تَقْدَح المعاصي في التوحيد بِقَدْرها .
6= " وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْكُفَّار يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْحِيد
قَبْل الْقِتَال . وَفِيهِ أَنَّهُ لا يُحْكَم بِإِسْلامِهِ إِلاَّ بِالنُّطْقِ
بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَهَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة . قاله النووي .
7= الـتَّدَرُّج في دَعوة الكُفَّار إلى الإسلام حتى لا يَنْكُصوا على أعقابهم
، ولا يستثقلوا الدخول في الدِّين ابتداء .
وفي المسند من طريق عن نصر بن عاصم عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فأسْلَم على أنه لا يُصَلِّي إلاَّ صلاتين ، فَقَبِل ذلك منه .
وفي المسند أيضا من طريق أبي الزبير قال : سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بَايَعَتْ
؟ فقال : اشْتَرَطَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صَدقة عليها ولا
جِهاد .
قال ابن رجب : وأخَذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث ، وقال : يصح الإسلام على الشرط
الفاسِد ثم يُلْزَم بِشَرائع الإسلام كلها ، واستدل أيضا بأن حكيم بن حزام قال
: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخِرّ إلاَّ قَائما . قال أحمد :
معناه أن يسجد من غير ركوع . اهـ .
8= فرض الزّكاة على الأغنياء في أموالهم الزكوية .
ولذا قال : " فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً "
والمقصود بالصَّدَقة هنا : الزكاة .
وفي الزكاة مُؤازرة الأغنياء للفقراء ، وعدم نسيان حقّ الله في المال ، مع ما
فيه مِن بركة ونماء لأموال الأغنياء
والزكاة رُوعي فيها الغني والفقير ، فلم يُضَرّ بالفقير ، ولم يُجحَف الغنيّ في
مالِه ، وإنما هي نسبة قليلة إلى عموم مالِه .
9= اخْتُلِف في قوله : " تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى
فُقَرَائِهِمْ " ، هل المقصود به فقراء البلَد أو عموم فقراء المسلمين ؟
قال البخاري : وَقَالَ طَاوُسٌ : قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَهْلِ
الْيَمَنِ : ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ
مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ ، وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ . اهـ .
وهذا التعليق وَصَلَه ابن أبي شيبة في المصنف .
وفيه دليل على جواز نَقْل الصدقة مِن البَلَد إذا وُجِد مَن هو أحْوَج ، ولولا
ذلك لَمَا جَاز إخراج الزكاة لأهل الثغور .
إلاَّ أن يُراعى في ذلك مصلحة فقراء ذلك البلد .
10= هل تُخرَج العَيْن بدَل الزَّكاة الواجبة في المال ؟
قال العيني في شرح تبويب البخاري السابق : احتج به أصحابنا في جواز دفع القِيم
في الزكوات ، ولهذا قال ابن رشيد : وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع
كثرة مخالفته لهم ، لكن قاده إلى ذلك الدليل . اهـ .
وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية جَواز إخراج الزكاة عَيْنًا بَدَل الْمَال لِمصلحة
الفقير .
11= قال النووي : وَفِيهِ : أَنَّ الزَّكَاة لا تُدْفَع إِلَى كَافِر . اهـ .
لأنه نصّ أن الزكاة تؤخذ مِن أغنياء المسلمين وتُدفَع إلى فقرائهم .
12= ما المقصود بِـ " كرائم أموالِهم " ؟
قال القاضي عياض : كرائم المال خياره وأفضله .
وقال ابن الأثير : " كرائم أموالهم " أي : نفائسها التي تتعلق بها نَفس مالكها
، ويختصها لها حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقها ، وواحدتها كريمة .
وقال النووي : أَمَّا الْكَرَائِم فَجَمْع كَرِيمَة . قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع
: هِيَ جَامِعَة الْكَمَال الْمُمْكِن فِي حَقّهَا مِنْ غَزَارَة لَبَن ،
وَجَمَال صُورَة ، أَوْ كَثْرَة لَحْم أَوْ صُوف . اهـ .
والمعنى : أن لا تُؤخذ نفائس الأموال في الزكاة .
قال ابن الأثير : " وتَوقّ كرائم أموالهم " أي : تَجَنبها لا تأخذها في الصدقة
؛ لأنها تَكرم على أصحابها وتَعُزّ، فَخُذْ الوسط ، لا العالي ولا النازل . اهـ
.
13= ما العلاقة بين اتِّقاء كرائم أموالِهم واتِّقاء دعوة المظلوم ؟
لأن أخْذ كرائم الأموال ونفائسها مِن الظُّلْم ، فإذا فَعَل الْجَابِي ذلك فقد
ظَلَم وعَرَّض نفسه لِدعوة المظلوم .
14= لَم يُنصّ على بقية أركان الإسلام .
وذلك لأمور :
الأول : أنّ مَن صلّى فقد أدى أعظم العبادات البدنية ، والزكاة أعظم الحقوق
المالية ، ومَن فعلها فهو لِمَا سِواها أسرع .
وفي معناه قوله عليه الصلاة والسلام : مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ
الْجَنَّةَ . رواه البخاري ومسلم .
والبَرْدَان : الفجر والعّصْر ، أي : أن مَن صلّى هذين الفَرْضَين مع ثقلهما
بعد تعب ونوم فهو لَما سِواهما أسرع أداء ، وليس معناه أن من صلى هذين
الفَرْضَين وتَرَك بقية الفروض دَخَل الجنة !
الثاني : أن الإنسان إنما يُخاطَب بالصيام وبالحج إذا حضر وقته ولَزِم وُجوبه .
الثالث : أنه – كما تقدّم – تُرِك ألأمر بها آنذاك مِن باب التّدرُّج في دعوة
القوم .
الرابع : أن ما في هذا الحديث ونظائره مُوافَقَة لَظاهر القرآن ، فإن الله
جَعَل الحدّ الفاصل لِقبول توبة الكفار أداء الصلاة والزكاة ، فقال : (فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ) .
وهذا راجِع إلى معنى ما تقدَّم من أن من أقام الصلاة وأدّى الزكاة فهو لِمَا
عداها أسرع أداء .
والله تعالى أعلم .