|
شرح الحديث الـ 213
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ , إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً
- وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . قَالَ : فَأَوْفِ
بِنَذْرِكَ .
وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَوْماً ولا لَيْلَةً .
فيه مسائل :
1 = قوله رضي الله عنه : " نذرت " :
النذر أنواع :
1 – نذر مُطلَق ، نحو : عليّ نَذْر . قال ابن قدامة : فهذا تجب به الكفارة في
قول أكثر أهل العلم . اهـ .
2 – نذر اللجاج والغضب ، وهو الذي يُخْرِجه مَخْرَج اليمين للحث على فِعل شيء
أو المنع منه غير قاصد به للنذر ولا القُرْبة ؛ فهذا حُكْمه حُكْم اليمين .
قاله ابن قدامة أيضا .
3 – نذر مُباح . قال ابن قدامة : المباح كَلُبس الثوب ، وركوب الدابة ، وطلاق
المرأة على وجه مباح ؛ فهذا يتخير الناذر فيه بين فِعْله ، فَيَبَرّ بذلك ...
وإن شاء تركه وعليه كفارة يمين ، ويَتَخَرَّج أن لا كفارة ... وقال مالك و
الشافعي : لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : " لا نذر إلاَّ فيما
ابْتُغِيَ به وَجه الله " .
4 – نذر المعصية ، فلا يَحِلّ الوفاء به إجماعا ؛ ولأن النبي صلى الله عليه و
سلم قال : مَن نَذَر أن يعصي الله فلا يعصه . قاله ابن قدامة .
5 – نذر الواجب ، قال ابن قدامة : كالصلاة المكتوبة ، فقال أصحابنا : لا ينعقد
نذره .
6 – نذر المستحيل ، كَصَوم أمس ، فهذا لا ينعقد ، ولا يُوجب شيئا ؛ لأنه لا
يُتَصَوَّر انعقاده ولا الوفاء به ، ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة ، فالنذر
أولى . قاله ابن قدامة
7 – نَذْرٌ مكروه .
8 – نذر تَبَرُّر ، وهو على نوعين :
ابتداء : مثل نذر عمر رضي الله عنه أن يعتكف .
في مُقابِل : مثل أن يَكون في مُقابل ، كأن يقول : لله عليّ نذر إن عوفي مريضي
، ونحو ذلك . فهذا مكروه ، ويجب الوفاء به إذا تحق ما نذر عليه .
وبعض أهل العلم أدخل بعض هذه الأنواع في بعض .
2 = مَن نذر في حال كُفره ، شُرِع له الوفاء به إذا أسْلَم .
قال ابن الْمُلقِّن : فيه صِحّة النذر من الكافر ، وهو وجْه في مذهب الشافعي .
وذكَر أن مذهب الجمهور أنه لا يصحّ . قال : لأن النذر قُربَة ، والكافر ليس
أهلاً لها . والحديث مُأوَّل على أنه أُمِر أن يأتي باعتكاف يوم شبيه بِما نذر
لئلا يُخِلّ بِعبادة نوى فعلها ، فأطلَق عليه أنه منذور لِشِبْهه به وقيامه
مقامه في فِعل ما نواه مِن الطاعة ...
وأجابوا أيضا : أنه يُحمَل الأمر على الاستحباب . اهـ .
والذي يظهر أنه يصحّ إذا أسْلَم ، ويُشْرَع له الوفاء به ؛ باعتبار ما آل إليه
الأمر ، لقوله عليه الصلاة والسلام لِحَكيم بن حزام رضي الله عنه : أَسْلَمْتَ
عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ . رواه البخاري ومسلم .
3 = " أوفِ بنذرك " : محمول على الاستحباب .
قال ابن بطّال : محمول عند الفقهاء على الحض والندب لا على الوجوب ؛ بدلالة أن
الإسلام يَهْدِم ما قبله . اهـ .
هذا إذا كان النذر في حال كُفْر .
4 = مَن نذر في الإسلام أن يعتكف وَجَب عليه الوفاء به .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الاعْتِكَافَ
سُنَّةٌ لا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا ، إلاّ أَنْ يُوجِبَ الْمَرْءُ عَلَى
نَفْسِهِ الاعْتِكَافَ نَذْرًا ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ .
5 = " ليلة " عليها أكثر الرواة ، وهي روايات الصحيحين . ولذا قال البخاري :
باب الاعتكاف ليلا .
وقال : باب من لم ير عليه صوما إذا اعتكف . ثم روى رواية " ليلة " . وروى أيضا
: فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً .
وروى مسلم : " يومًا " وروى " ليلة " .
قال ابن حجر : ورِواية مَن رَوى " يومًا " شاذة ، وقد وقع في رواية سليمان بن
بلال الآتية بعد أبواب " فاعتكف ليلة " ، فَدَلّ على أنه لم يَزد على نذره شيئا
، وأن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له . اهـ .
6 = ضَعْف رواية : اعْتَكِف وصُم .
قال ابن حجر : وقد وَرَد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحا
، لكن إسنادها ضعيف ، وقد زاد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : اعتكف
وَصُم . أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل ، وهو ضعيف .
وَذَكَر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار . اهـ .
7 = يصحّ الاعتكاف من غير صيام . وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في شوال ،
ولم يُذْكَر أنه صام لأجل الاعتكاف .
وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر عمر رضي الله عنه بالوفاء
بِنذره ، والاعتكاف ليلا .
وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم : ليس على المعتكِف صوم إلاّ أن يجعله
على نفسه .
قال الترمذي : وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ : لا اعْتِكَافَ إِلاَّ
بِصَوْمٍ . وقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَيْسَ عَلَى
الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا ،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي
الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْوَفَاءِ . وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَقَ . اهـ .
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى اشتراط الصيام .
وقال الشافعي : لا يُشترط .
وعن أحمد : روايتان .
قال الخرقي : ويجوز بلا صوم .
قال ابن قدامة : الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الاعْتِكَافَ يَصِحُّ
بِغَيْرِ صَوْمٍ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ،
وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي
الاعْتِكَافِ ...
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، إنِّي نَذَرْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَوْفِ بِنَذْرِك . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ ، لأَنَّهُ
لا صِيَامَ فِيهِ ، وَلأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصِحُّ فِي اللَّيْلِ ، فَلَمْ
يُشْتَرَطْ لَهُ الصِّيَامُ كَالصَّلاةِ ، وَلأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصِحُّ فِي
اللَّيْلِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعِبَادَات ، وَلأَنَّ إيجَابَ الصَّوْمِ
حُكْمٌ لا يَثْبُتُ إلاَّ بِالشَّرْعِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَصٌّ ، وَلا
إجْمَاعٌ .
قَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي
سَهْلٍ ، قَالَ : كَانَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِي اعْتِكَافٌ ، فَسَأَلْت
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
فَقَالَ : لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ ، إلاّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا .
فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : لا اعْتِكَافَ إلا بِصَوْمٍ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
قَالَ : لا .
قَالَ : فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَ : لا .
قَالَ : فَعَنْ عُمَرَ ؟ قَالَ : لا .
قَالَ : وَأَظُنُّهُ قَالَ : فَعَنْ عُثْمَانَ ؟ قَالَ : لا .
فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ ، فَلَقِيت عَطَاءً وَطَاوُسًا ، فَسَأَلْتُهُمَا ،
فَقَالَ طَاوُسٌ : كَانَ فُلانٌ لا يَرَى عَلَيْهَا صِيَامًا ، إلا أَنْ
تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا . اهـ .
8 = أقلّ الاعتكاف :
ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن أقلّ الاعتكاف يوم وليلة .
وذهب الشافعية إلى جواز الاعتكاف ساعة أو لحظة . وهو رواية عن أحمد .
قال النووي : أقل الاعتكاف فيه أربعة أوجه – ثم ذَكَر الوجه الأول – فقال :
أحدها : وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور : أنه يُشترط لُبث في المسجد ،
وأنه يجوز الكثير منه والقليل حتى ساعة أو لحظة . اهـ .
والذي يظهر أنه يُرجَع في ذلك إلى تعريف الاعتكاف ، وأنه لُزوم المكان ، فلا
يصح الاعتكاف لحظة !
9 = هل للمعتكِف أن يشترط شيئا في اعتكافه ؟
له أن يشترط ما لا يُخالف أصل الاعتكاف ، وليس له أن يشترط ما يُبطِل الاعتكاف
.
قال الإمام الشافعي : ومن أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل فيه قبل الغروب ،
فإذا هل شوال فقد أتم العشر . ولا بأس أن يشترط في الاعتكاف الذي أوجبه بأن
يقول : إن عَرَض لي عارض خَرَجْتُ .
وقال ابن عبد البر : وممن أجاز الشرط للمعتكف : أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
، إلاّ أن أحمد اخْتَلَف قوله فيه ، فَمَرَّة قال : أرجو أنه لا بأس به ،
ومَرّة مَنَع منه .
وقال إسحاق : أما الاعتكاف الواجب فلا أرى أن يعود فيه مريضا ولا يشهد جنازة ،
وأما التطوع فإنه يَشْرط فيه حين يبتدئ : شهود الجنازة وعيادة المرضى . اهـ .
وقال ابن قدامة : قَالَ الأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ
عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَشْتَرِطُ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَهْلِهِ ؟ قَالَ : إذَا
اشْتَرَطَ فَنَعَمْ .
قِيلَ لَهُ : وَتُجِيزُ الشَّرْطَ فِي الاعْتِكَافِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت لَهُ : فَيَبِيتُ فِي أَهْلِهِ ؟ فَقَالَ : إذَا كَانَ تَطَوُّعًا ،
جَازَ . اهـ .
وقال : وَإِنْ شَرَطَ الْوَطْءَ فِي اعْتِكَافِهِ ، أَوْ الْفُرْجَةَ ، أَوْ
النُّزْهَةَ ، أَوْ الْبَيْعَ لِلتِّجَارَةِ ، أَوْ التَّكَسُّبَ
بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ
: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)
فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ اشْتِرَاطٌ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالصِّنَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِ الاعْتِكَافِ ،
فَفِي الاعْتِكَافِ أَوْلَى . اهـ .
ويرى شيخنا الشيخ العثيمين رحمه الله : جواز اشتراط ذلك في ابتداء الاعتكاف ،
فإذا نوى الدخول في الاعتكاف ، قال : أستثني يا رب عيادة المريض أو شهود
الجنازة.
ولكن هذا لا ينبغي، والمحافظة على الاعتكاف أولى ، إلا إذا كان المريض أو من
يتوقع موته، له حق عليه، فهنا الاشتراط أولى، بأن كان المريض من أقاربه الذين
يعتبر عدم عيادتهم قطيعة رَحِم ، فهنا يَسْتَثْنِي، وكذلك شهود الجنازة " . اهـ
.
وبالله تعالى التوفيق .