شرح أحاديث عمدة
الأحكام
الحديث 170 في الإسراع بالجنازة
عبد الرحمن بن عبد الله
السحيم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
: أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا إنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ
تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ
رِقَابِكُمْ .
في الحديث مسائل :
1= فيه الْحَثّ على الْمُسَارَعة في تقدِيم الْجِنَازَة ، والْمُبَادَرة إلى
دَفْن الْمَيِّت .
2 = اسْتِحْبَاب الإسْرَاع في حَمْل الْمَيِت وفي تجهيزه ودَفْنه .
3 = كراهية تأخير الْجِنَازة من غير حاجة ، ويَحرُم إذا تضَرَّرَتْ جُثَّـة
الْمُسْلِم ؛ لأن حُرْمَة الْمُسْلِم كَحُرْمَته حيًّـا . وهذا يَدُلّ عليه
عموم الأحاديث التي جاء فيها الْحَثّ على دَفْن الْمَيِّت .
قال ابن بطال : وقد تأوَّل قَوم في قوله صلى الله عليه وسلم : " أسرعوا
بالجنازة " إنَّمَا أرَاد تَعْجِيل الدَّفْن بَعْد اسْتِيقَان الْمَوْت ...
وكُلّ مَا احْتَمَل فَليس يَبْعَد في التَّأوِيل . اهـ .
وقال النووي بِبُطلان الاستدلال بالحديث على الإسراع في تجهيز الْمَيِّت إذا
مات .
والإسراع في تجهيز الْمَيِّت مُحْتَمل في الحديث .
قال العيني : وَرُدَّ عليه بأنَّ الْحَمْل على الرِّقَاب قد يُعَبَّر بِه عن
الْمَعَاني ، كما تَقَول : حَمَل فُلان على رَقَبَتِه ذُنُوبًا ، فَيَكُون
الْمَعْنَى : اسْتَرِيحوا مِن نَظَر مَن لا خَيْر فيه . ويَدُلّ عليه أنَّ
الكُلَّ لا يَحْمِلُونَه . قلت : ويُؤيِّدُه حَديث أبي داود والطبراني المذكور
.
وكان قال قبل ذلك : رَوى أبو داود وروى الطبراني بإسناد حَسَن مِن حَديث ابن
عمر ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا مَات أحَدُكم فلا
تَحْبِسُوه ، وأسْرِعُوا بِه إلى قَبْرِه . اهـ .
ولم أرَ الحديث في سُنن أبي داود ، وأما ما رواه الطبراني ، فقد قال فيه
الألباني : ضعيف جدا .
4 = ليس مِن السُّـنَّـة تأخِير الْجِنَازَة مِن أجْل أن يحضُرها مَن يَحْضُرها
. بل السُّـنَّـة تَعْجِيل الْجِنَازة . وهكذا كان ابن عمر يَصْنَع بِالْجَنازة
.
ومِن السُّـنَّـة تَجهيز الْمَيِّت والصلاة عليه بعد تجهيزه ، ولا يُنتَظَر به
صَلاة ولا غيرها .
وعلى هذا جَرَى عَمل السَّلَف .
ويَدُلّ عليه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أسود - أو امرأة
سوداء - كان يَقُمّ الْمَسْجِد ، فَمَات ، فَسَأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه
، فقالوا : مات . قال : أفلا كنتم آذَنْتموني به ؟ دُلُّونِي على قَبره . أو
قال : قبرها . فأتى قَبْرَها فَصَلَّى عليها . رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَـرَّ
بِقَبْر قد دُفِن ليلا ، فقال : مَتَى دُفِن هذا ؟ قالوا : البارحة . قال :
أفلا آذنتموني ؟ قالوا : دَفَـنَّاه في ظُلْمة الليل ، فَكَرِهْنَا أن نُوقِظَك
. رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري .
والشاهد من هذا مُبادَرَة الصحابة رضي الله عنهم في تجهيز الْمَيِّت حتى
دَفَنوه ليلا ، ولم يُخْبِرُوا النبي صلى الله عليه وسلم إبْقَاءً عليه .
ولم يُأمُرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُؤخِّروا الجنائز حتى يَشْهَدها أهل
الفضل والصَّلاح .
وكان الصحابة يُسارعون في تجهيز أمواتهم والصلاة عليهم ودفنهم .
روى ابن سعد في " الطبقات " من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان ابن
الزبير إذا كان في أهله جنازة كان كأنه قائم على رِجْل حتى يُخْرِجها .
وروى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن
ابن عمر ، أنه كان إذا مات له مَيت تَحَيَّن غفلة الناس .
5 = الْمَقْصُود بِالإسْرَاع بِها الإسْرَاع بِالْمَشي حَال حَمْل الجنازة .
روى الإمام أحمد والنسائي من طريق عيينة بن عبد الرحمن بن يونس قال : حدثني أبي
قال : شَهِدْتُ جنازة عبد الرحمن بن سَمُرة ، وخَرَج زِياد يَمْشي بَيْن يَدي
السَّرِير ، فَجَعَل رِجَال مِن أهل عبد الرحمن ومَوَاليهم يَسْتَقْبِلُون
السَّرِير ويَمْشُون على أعْقَابِهم ، ويَقُولُون : رُويدا رُويدا بارك الله
فيكم ، فكانوا يَدِبُّون دَبِيبًا حتى إذا كُـنَّا بِبَعْض طَرِيق الْمِرْبَد
لَحِقَنا أبو بكرة على بَغْلَة ، فلما رأى الذي يَصْنَعُون حَمَل عَليهم
بِبَغْلَتِه ، وأهْوَى إليهم بِالسَّوط ، وقال : خَلُّوا ، فو الذي أكْرَم
وَجْه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رَأيتنا مَع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإنا لنَكَاد نَرْمُل بِها رَمْلًا ، فانْبَسَط القَوم .
وفي رواية للإمام أحمد ، قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وإنا لنرمل بالجنازة رملا .
ورواه أبو داود ، إلاّ أنه وقع عنده " أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص رضي
الله عنه " .
قال القرطبي في تفسيره : الْحُكْم الإسْراع في الْمَشْي، لقوله عليه السلام : "
أسْرِعُوا بِالجنازة ، فإن تك صالحة فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونها إليه ، وإن تكن غير
ذلك فَشَرٌّ تَضَعَونه عن رِقَابكم " .
قال : لا كَما يَفْعَله اليوم الْجُهَّال في الْمَشِي رُوَيدًا ، والوقوف بها
الْمَرَّة بَعْد الْمَرَّة ، وقِراءة القرآن بالألحان إلى مَا لا يَحِلّ ولا
يَجوز حَسب ما يفعله أهل الديار الْمَصْرِيَّة بِمَوْتَاهم . اهـ .
قال الحافظ العراقي : الأَمْرُ بِالإِسْرَاعِ مَحْمُولٌ عَلَى الاسْتِحْبَابِ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : لا خِلافَ بَيْنَ الأَئِمَّةِ فِي
اسْتِحْبَابِهِ .
6 = حَدّ الإسْرَاع : مَا لا يُخْشَى معه سُقُوط الجنازة ، أوْ تَضَرُّر مَن
يَحْمِلها .
قال النووي : قال أصحابنا وغيرهم : يُسْتَحَبّ الإسْرَاع بِالْمَشْي بِها مَا
لَم يَنْتَهِ إلى حَدّ يُخَاف انْفِجَارُها ونحوه
قال النخعي : انْبَسِطُوا بِها ، ولا تَدِبُّوا دَبِيب اليَهود والنصارى .
وقال ابن حبيب : لا تَمْشِ بِالْجِنَازة الْهُوَينا ، ولكن مَشْي الرجل
الشَّابّ في حاجته .
وقال الحافظ العراقي : ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ مَحَلَّ الإِسْرَاعِ
الْمُتَوَسِّطُ إذَا لَمْ يُخْشَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ التَّأْخِيرِ تَغَيُّرٌ
أَوْ انْفِجَارٌ أَوْ انْتِفَاخٌ ، فَإِنْ خُشِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ زِيدَ فِي
الإِسْرَاعِ .