|
ح 166 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : بَيْنَمَا
رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ , إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ , فَوَقَصَتْهُ -
أَوْ قَالَ : فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْن وَلا تُحَنِّطُوهُ ,
وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مُلَبِّيًا .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ .
الوَقْصُ : كَسْرُ العُنُقِ .
في الحديث مسائل :
1= في رواية في الصحيحين : " وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْه " .
وهل بينها وبين رواية : " وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْن " فَرْق ؟
في ثوبَيْه : يقتضي أن يُكفَّن الْمُحْرِم في ثوبي إحرامه .
و في ثوبين : يعني : يُكفَّن في أي ثوبَيْن .
2 = استحباب تكفين الْمُحْرِم إذا مات حال إحرامه في ثَوبَين ، دون غيره مِسن
سائر الأموات ، وقد تقدّم ما يتعلّق بتكفين غير الْمُحْرِم .
3 = في الحديث وُجُوب تكفين الْمَيِّت .
قال ابن الملقِّن : الكَفَن للميِّت واجب ، وهو إجْمَاع ، وكذا غَسْله والصلاة
عليه ودَفْنه .
أقول : الغَسْل والصلاة عليه لِغير الشَّهيد . أما شَهِيد الْمَعْرَكة فالراجِح
أنه لا يُغسَّل ولا يُصلى عليه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام عن الشهداء يوم
أُحُد : زمّلوهم في ثيابهم . رواه الإمام أحمد والنسائي ، وصححه الألباني
والأرنؤوط .
4 = قال ابن القيم : الكَفَن مُقَدّم على الميراث ، وعلى الدَّين ؛ لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يُكفّن في ثوبيه ، ولم يسأل عن وارثه ، ولا عن
دَين عليه . ولو اختلف الحال لسأل .
وكما أن كسوته في الحياة مُقدّمة على قضاء دَينه ، فكذلك بعد الممات ، هذا كلام
الجمهور .
5 = الْوَقْص هو كسْر العُنُق ، كما قال الْمُصَنِّف رحمه الله .
وفي رواية للبخاري : فأقْصَعَتْه ، أوْ قال : فأقْعَصَتْه .
واللفظة الثانية عند مسلم .
وكُلّ هذا شَكّ مِن الرَّاوي . ولا يَضُرّ لأن الْمَعْنِى واحد .
6 = الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ يَبْقَى فِي
حَقِّهِ حُكْمُ الإِحْرَامِ . قاله ابن دقيق العيد .
وهذا مأخوذ مِن قوله صلى الله عليه وسلم : " ولا تُحَنِّطُوه " وفي رواية في
الصحيحين :" وَلا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ" وضُبِطَتْ : ولا تَمَسُّوه .
قال النووي : قوله : " ولا تُحَنِّطُوه " ، أي : لا تُمِسّوه حَنُوطًا .
والحنوط أخْلاط مِن طِيب تُجْمَع للميت خَاصَّة ، لا تُسْتَعْمَل في غَيره .
7 = قوله : " فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيا " .
فيه : أنَّ مَن مات على عَمَل صالِح بُعِث على ما مات عليه ، ورُجِي له
الْخَيْر .
قال ابن بطال : وفِيه دَليل أنَّ مَن شَرَع في عَمَلٍ مِن عَمَلِ الطَّاعات
وصَحَّت فِيه نِـيَّتُه لله ، وحَال بَيْنَه وبَيْن تَمَامِه الْمَوْت ؛ فإن
الرَّجَاء قَوي أنَّ الله قد كَتَبَه في الآخِرَة مِن أهْل ذَلك العَمَل
وتَقَبَّله مِنه . اهـ .
ومصداقه قوله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .
8 = السِّدْر ليس مِن جِنْس الطِّيب ، وإن وُجِدَتْ له رائحة طيبة .
ويُمكن أن يُستَدَلّ به على أنَّ ما يُؤكَل أو يُشْرَب ليس مِن جِنْس الطِّيب ؛
لأنه لا يُقصَد به التَّطَيُّب بِحال .
9 = اسْتِحْبَاب السِّدر في غَسْل الْمَيِّت ، وأنَّ الْمُحْرِم في ذلك
كَغَيْرِه . قاله النووي .
10 = هل يُغَطِّى رأس الْمُحْرِم ؟ وهل يُلبَس الْمَخِيط إذا مَات حَال إحْرامه
؟
قال النووي بعد أن ذَكَر بعض روايات الحديث : في هذه الرِّوايات دَلالة
بَـيِّـنَة لِمَذْهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومُوافِقِيهم في أنَّ الْمُحْرِم إذا
مات لا يَجُوز أن يُلْبَس الْمَخِيط ، ولا تُخَمَّر رَأسُه ، ولا يُمَسّ طِيبًا
. اهـ.
11 = اخْتُلِف في هذا الْحُكْم . هل هو خاصّ بِهذا الرَّجُل بِعَيْنِه أوْ هو
عام لكل مَن مات مُحْرِما ؟
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : خَرَج عبد الله بن الوليد مُعْتَمِرًا
مع عثمان بن عفان فمات بالسُّقْيا وهو مُحرم ، فلم يُغَيِّب عثمان رَأسَه ولم
يُمِسّه طِيبا ؛ فأخذ الناس بذلك حتى تُوفِّي واقد بن عبد الله بن عمر
بالْجُحْفَة وهو مُحْرِم ، فَغَيَّب رَأسَه ابنُ عُمر ؛ فأخذ الناس بذلك .
ذَكَره ابن عبد البر في الاستذكار .
ورَوى الإمام مَالك عن نافع عن ابن عمر أنه كَفَّن ابنه واقِدًا ، ومَات
بالْجُحْفَة مُحْرِمًا ، وخَمَّر وَجْهَه ورَأسَه، وقال : لولا أنا حُرُم
لَطَيَّـبْـنَاه .
قال مالِك : إنَّمَا يَعْمَل الرَّجُل مَا دَام حَـيًّا ، فإذا مات انْقَطَع
العَمَل .
وروى ابن أبي شيبة من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود قال : سُئلتْ عائشة عن
الْمُحْرِم يَمُوت ؟ فقالت : اصْنَعُوا بِه مَا تَصْنَعُوا بِمَوْتَاكُم .
قال ابن عبد البر : يَعْنِي مِن الطِّيْب وغَيره .
قال ابن عبد البر : وبِه قال الحسن البصري وعِكرمة والأوْزاعي وأبو حنيفة
وأصحابه .
وقال الشافعي : لا يُخَمَّر رَأس الْمُحْرِم ، ولا يُطَيَّب ؛ اتِّـبَاعًا
لِحَدِيث ابن عباس في الذي وَقَصَتْه نَاقته وهو مُحْرِم ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : لا تُخَمِّرُوا رَأسَه ، ولا تُمِسُّوه طِيبًا ، فإنه يُبْعَث
يَوْم القِيَامة مُلَـبِّيًا .
وبِه قال أحمد وإسْحاق .
وهو قول عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس . اهـ .
وقال ابن دقيق العيد في مسألة مُعامَلة الْمُحْرِم إذا مات مُعامَلة الْحَلال :
وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لانْقِطَاعِ الْعِبَادَةِ بِزَوَالِ مَحَلِّ
التَّكْلِيفِ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ . لَكِنْ اتَّبَعَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ
وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ . اهـ .
وقال بعض الحنفية : هذا الْحَدِيث لَيس عَامًّا بِلَفْظِه لأنه في شخص مُعَيَّن
، ولا بِمَعْنَاه ، لأنه لم يَقُل يَبْعَث مُلَبِّيًا لأنه مُحْرِم ، فلا
يَتَعَدَّى حُكْمُه إلى غَيره إلاَّ بِدَليل مُنْفَصِل .
قال ابن حجر : وأوْرَد بَعْضُهم أنه لو كان إحْرَامه بَاقِيا لَوَجب أن يُكْمَل
بِه الْمَنَاسِك ، ولا قائل به . وأُجِيب بأنَّ ذَلك وَرَد على خِلاف الأصل
فَيْقُتْصَر بِه على مَوْرِد النص ، ولا سيما وقد وَضح أنَّ الْحِكْمَة في ذلك
اسْتِبْقَاء شِعَار الإحْرَام كَاسْتِبْقَاء دَم الشَّهْيِد . اهـ .
وقال : والأصل أنَّ كل ما ثَبَت لِوَاحِد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ثَبَت لغيره حتى يَتَّضِح التَّخْصِيص . اهـ .
13 = اخْتُلِف في ثُبُوت لَفْظَة : " وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ " أما لفظة "
وَلا تُخَمِّرُوا رَأسَه " فهي ثابتة مُتَّفَق عليها .
قال ابن حجر عن لفظة " وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ " : اخْتُلِف في ثُبُوتِهَا
... وتَرَدَّد ابن المنذر في صِحَّتِه ، وقال البيهقي : ذِكْر الوَجْه غَرِيب ،
وهو وَهْـم من بعض رواته . وفي كل ذلك نَظَر ، فإنْ الحديث ظَاهِرُه الصِّحَّة
، ولَفْظُه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس ، فَذَكَر الحديث . قال منصور : ولا تُغَطُّوا وَجْهه ، وقال
أبو الزبير : ولا تَكْشِفُوا وَجْهَه . وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار
عن سعيد بن جبير بِلَفْظ : ولا تُخَمِّرُوا وَجْهَه ولا رَأسَه . وأخرجه مسلم
أيضا مِن حديث شُعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بِلَفْظ : ولا يُمَسّ طِيبًا
خَارِج رَأسِه . قال شعبة ثم حدثني به بعد ذلك فقال : خَارِج رَأسِه وَوَجْهِه
. انتهى . وهذه الرواية تَتَعَلَّق بِالـتَّطَيُّب لا بِالْكَشْف
والـتَّغْطِيَة ، وشُعْبة أحْفَظ مِن كُلّ مَن رَوَى هذا الحديث ، فَلَعَلَّ
بَعْض رُوَاتِه انْتَقَل ذِهْنُه مِن الـتَّطَيُّب إلى الـتَّغْطِيَة . اهـ .
والذي عليه الأكثر في الرِّواية : ولا تُخَمِّرُوا رَأسَه .
فيجوز أن يُغطَى وَجْهه دُون رأسِه .
ويَنَبَنِي عليه جواز تغطية الْمُحْرِم وَجْهه حَال إحرامه .
رَوى ابن أبي شيبة من طريق أبي الزبير عن جابر قال: يُغطّي وجهه بثوبه إلى شعر
رأسه، وأشار أبو الزبير بثوبه حتى رأسه .
ورَوى مِن طريق منصور عن مجاهد ، قال : لا بأس إذا آذتك الريح وأنت مُحْرِم أن
ترفع ثوبك إلى وجهك ، ولا بأس للمرأة إذا آذتها الريح أن تسدل ثوبها على وجهها
.
وروى نحو هذا عن جَمْع من السَّلَف .
وفي المسالة خِلاف بين السَّلَف يُنظر في " الاستذكار" لابن عبد البر .
14 = الْمُحْرِم يُبَايِن الشَّهِيد بأنه يُغسَّل يُصَلَّى عليه .
ويشْتَرِكَان في التَّكْفِين في الثِّيَاب التي مَاتُوا فيها .
وليس في حديث الباب ما يَدُلّ على تَرْك الصَّلاة على الْمُحْرِم إذا مات . إذ
غاية ما فيه طَوي ذِكْر الصلاة عليه .
15 = قوله : " بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ , إذْ وَقَعَ عَنْ
رَاحِلَتِهِ " فيه جواز الوقوف على الدابة في العبادة .
وفي حديث أبي كاهل الأحمسي قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يخطب على ناقة
، وحبشي آخذ بخطام الناقة . رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، وحسنه
الألباني .
وفي حديث نُبيط بن شَريط : قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب على
جمل أحمر بِعَرَفة قبل الصلاة . . رواه النسائي ، وصححه الألباني .
وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال : خَطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
النحر على ناقة له ، قال: فجعل يتكلم هاهنا مَرّة ، وهاهنا مَرّة عند كل قوم ..
الحديث . رواه الإمام أحمد ، وصححه الأرنؤوط .
والله تعالى أعلم .