|
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيّ ِ–
رضي الله عنه قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ , يُخَوِّفُ اللَّهُ
بِهِمَا عِبَادَهُ , وَإِنَّهُمَا لا يَنْكسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ . فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى
يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ .
فيه مسائل :
1= من روايات الحديث :
" إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ
، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا
فَقُومُوا فَصَلُّوا " رواه البخاري .
" إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ
بِهِمَا عِبَادَهُ وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ
حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ " رواه مسلم .
2= لا تنافي بين كون الكسوف والخسوف من آيات الله يُخوّف الله بهما عباده ،
وبين معرفة كيفية وقوع الكسوف والخسوف .
وذلك أن الله تبارك وتعالى يُجري الآيات في وقت دون وقت ، كما يُمكن معرفة وقت
حدوث الكوارث ، كالزلازل وغيرها ، والذي أجراها هو الله عزّ وجلّ ، ولا تعارض
بين كونها آيات كونية ، وبين كونها لِتخويف العباد .
وقد سُئِلَ شَيْخُ الِْسْلامِ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ : فِي أَنَّ
الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يَخْسِفُ الْقَمَرُ ، وَفِي التَّاسِعِ
وَالْعِشْرِينَ تَكْسِفُ الشَّمْسُ فَهَلْ يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ ؟
فأجاب رحمه الله :
الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ لَهُمَا أَوْقَاتٌ مُقَدَّرَةٌ كَمَا لِطُلُوعِ
الْهِلالِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ ، وَذَلِكَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ
جَرَيَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ...
وَكَمَا أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
الْهِلَالَ لَا يَسْتَهِلُّ إلاّ لَيْلَةَ ثَلاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ
لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلاثِينَ ، وَأَنَّ الشَّهْرَ لا يَكُونُ إلاّ ثَلاثِينَ
أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ غالط . فَكَذَلِكَ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ
أَنَّ الشَّمْسَ لا تَكْسِفُ إلاّ وَقْتَ الاسْتِسْرَارِ ، وَأَنَّ الْقَمَرَ
لا يَخْسِفُ إلاّ وَقْتَ الإِبْدَارِ ، وَوَقْتُ إبْدَارِهِ هِيَ اللَّيَالِي
الْبِيضُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِهَا : لَيْلَةُ الثَّالِثَ
عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ . فَالْقَمَرُ لا يَخْسِفُ
إلاّ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي ، وَالْهِلالُ يَسْتَسِرُّ آخِرَ الشَّهْرِ :
إمَّا لَيْلَةً وَإِمَّا لَيْلَتَيْنِ . كَمَا يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلاثِينَ وَالشَّمْسُ لا تَكْسِفُ إلاّ وَقْتَ اسْتِسْرَارِهِ ،
وَلِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيَالِي مُعْتَادَةٌ مَنْ عَرَفَهَا عَرَفَ
الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ . كَمَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ كَمْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ
يَعْلَمُ أَنَّ الْهِلالَ يَطْلُعُ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلانِيَّةِ أَوْ
الَّتِي قَبْلَهَا . لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْعَادَةِ فِي الْهِلالِ عِلْمٌ
عَامٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعَادَةِ
فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ حِسَابَ
جَرَيَانِهِمَا وَلَيْسَ خَبَرُ الْحَاسِبِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ عِلْمِ
الْغَيْبِ . اهـ .
3= سبب قوله عليه الصلاة والسلام : " وَإِنَّهُمَا لا يَنْكسِفَانِ لِمَوْتِ
أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ " قول بعض الناس : كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ
إِبْرَاهِيمَ . لِوقوع المصادفة بين موت إبراهيم عليه السلام وبين وقوع الكسوف
.
ففي حديث الْمُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَال : كَسَفَتْ الشَّمْسُ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ
إِبْرَاهِيمُ ، فَقَال النَّاسُ : كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ ،
فَقَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا
رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ .
وفي حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَال : انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ
ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّاسُ :
إِنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ ... – وفيه – : فَانْصَرَفَ حِينَ
انْصَرَفَ وَقَدْ آضَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لا
يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ . رواه مسلم .
قال القاضي عياض : وقوله (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) : خصّهما بهذا ،
وكل شيء له آية لمعان كثيرة ، منها نفى ما كان تعتقده الجاهلية فيهما ، ويقوله
أهل الفضاء والنجوم من دليلهما على ما يحدث في العالم . اهـ .
4= لا تعارُض بين قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يَنْكسِفَانِ لِمَوْتِ
أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ " وبين ما في صحيح مسلم من حديث جَابِرٍ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ،
فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ
تَدْفِنَ الرَّاكِبَ ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ ، فَلَمَّا
قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ
مَاتَ .
وذلك لأن الرياح منها ما هو عقوبة ، ولذلك قال السيوطي : " لِمَوتِ مُنَافِق ،
أي : عقوبة وعلامة " .
فَكون الريح الشديدة تهبّ لِموت مُنافق ، فتكون عقوبة ، مثلها مثل سائر الآيات
التي يُرسلها الله تخويفا ، بِخلاف الكسوف الذي يُحدِثه الله علامة وذِكرى
للناس من أجل تخويفهم ، وليس عقوبة محضة .
5= زَعم بعض أهل العلم أن ذلك كان بسبب وقوع الكسوف كان في عاشر الشَّهر ، وقيل
: في رَابِعِه ، وقيل : في رابع عَشَره . قال العيني : ولا يصح شيء منها .
وقال ابن تيمية :
وَالْهِلالُ يَسْتَسِرُّ آخِرَ الشَّهْرِ : إمَّا لَيْلَةً وَإِمَّا
لَيْلَتَيْنِ . كَمَا يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلاثِينَ
وَالشَّمْسُ لا تَكْسِفُ إلاَّ وَقْتَ اسْتِسْرَارِهِ .
وقال : وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الشَّمْسَ تَكْسِفُ فِي غَيْرِ
وَقْتِ الاسْتِسْرَارِ فَقَدْ غَلِطَ وَقَالَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ .
وَمَا يُرْوَى عَنْ الواقدي مِنْ ذِكْرِهِ : أَنَّ إبْرَاهِيمَ ابْنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ
الشَّهْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الْكُسُوفِ : غَلَطٌ . والواقدي لا يُحْتَجُّ
بِمَسَانِيدِهِ فَكَيْفَ بِمَا أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ إلَى
أَحَدٍ ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَطَأٌ ، فَأَمَّا هَذَا
فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ . وَمَنْ جَوَّزَ هَذَا فَقَدْ قَفَا مَا لَيْسَ
لَهُ بِهِ عِلْمٌ ، وَمَنْ حَاجَّ فِي ذَلِكَ فَقَدْ حَاجَّ فِي مَا لَيْسَ
لَهُ بِهِ عِلْمٌ . اهـ .
6= كانت موعظته صلى الله عليه وسلم أطول من ذلك ، وسيأتي في حديث عائشة رضي
الله عنها مزيد بيان .
7= هذه موعظة وليست خُطبة ، وقد يُعبّر عن الموعظة بالخطبة ، وسيأتي في حديث
عائشة رضي الله عنها : " فَخَطَبَ النَّاسَ" ، ويأتي الكلام عنها هناك .
8= مشروعية تصحيح المفاهيم ، وتوعية الناس ، وتعليم الجاهل ، ومشروعية الموعظة
إذا ظَهر مثل هذا في الناس .
9= التحذير من الغلو في الصالحين ، وقد ذَكَر بعض المؤرِّخين أن حُمرة الشفق
حدثت بسبب مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ! وهذا غير صحيح ، وهو غُلوّ
مرفوض .
10= " يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ " رغّب الله عباده فيما عنده من
النعيم ، وخوّفهم من عذابه المقيم ، وذلك ليكون الناس بين رغبة ورهبة ، بين خوف
ورجاء .
11= " فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا " تعليق الْحُكم بِالعِلّة ، وهي
رؤية الكسوف دون العِلْم به .
12= " فَصَلُّوا " تقدّم حُكم صلاة الكسوف .
13= " وَادْعُوا " الدعاء من أسباب رفع البلاء ، وفي الحديث : الدعاء ينفع مما
نـزل ومما لم ينـزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء . رواه الترمذي والحاكم وصححه .
وله شاهد من حديث معاذ رواه أحمد . وله شاهد ثان من حديث عائشة : رواه الحاكم
والطبراني في الأوسط .
وذلك لأنه " لَيْسَ شَيْءٌ أَكْـرَمَ على اللّهِ سُبْحَانَهُ مِِـنَ الدّعَاءِ
" كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ؛ رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب
المفرد
ولأنه " لاَ يَرُدّ القَضَاءَ إِلاّ الدّعَاءُ ، وَلاَ يَزِيدُ في العُمُرِ
إِلاّ البِرّ " كما في حديث ثوبان رضي الله عنه ؛ رواه الإمام أحمد وابن ماجه
والحاكم وصححه ، وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه ، رواه الترمذي .
14= وكما يُدفَع البلاء بالدعاء فإنه يُدفع بالصدقة أيضا ، وسيأتي في حديث
عائشة رضي الله عنها : فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ
وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا .
ففي حديث أسماء رضي الله عنها قالت: أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة
عند الكسوف .
وفي حديث أبى موسى رضي الله عنه :
" فإذا رأيتم شيئا منها فافزعوا إلى ذِكر الله ودُعائه واستغفاره " .
قال الطحاوي : فأمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء عندها والاستغفار
كما أمَر بالصلاة ، فَدَلّ ذلك أنه لم يُرِد منهم عند الكسوف الصلاة خاصة ،
ولكن أُرِيد منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار
وغير ذلك . اهـ .
15= " حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ " مشروعية إطالة الصلاة حتى ينجلي الكسوف .
وفي حديث أَبِي بَكْرَةَ قَال : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلْنَا
فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ . فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ
لِمَوْتِ أَحَدٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى
يُكْشَفَ مَا بِكُمْ . رواه البخاري .
قال ابن رجب : صلاة الكسوف تُسْتَدَام حتى تَنْجَلِي الشمس .
والله أعلم .