|
عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
يَوْمَ النَّحْرِ ، ثُمَّ خَطَبَ ، ثُمَّ ذَبَحَ وَقَالَ : مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ
أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا , وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ
فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ .
فيه مسائل :
1= قوله رضي الله عنه : " صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ " ليس معنى ذلك
أنه كان في الحجّ ، وقد سبق بيان أن الحجاج لا يُخاطَبون بِصلاة العيد ، كما
أنه عليه الصلاة والسلام لم يُصَلّ صلاة العيد في حجته ، وإن كان خَطَب يوم
النحر ، على ما يأتي بيانه في كتاب الحج إن شاء الله .
وسبقت الإشارة إلى ذلك في الحديث السابق ، وفي رواية لمسلم : شَهِدْتُ
الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فهذا صريح
في أنه كان في يوم العيد .
2= قوله : " ثم خَطَب " دالّ على ما سبق تقريره من أنّ صلاة العيد قبل الخطبة .
3= ليس فيه دليل على كون الذبح يجب بعد الخطبة ، وإنما فيه أنه يجب أن يكون بعد
الصلاة .
ولا يُمكن الاستدلال بكونه عليه الصلاة والسلام بقي يخطب الناس ؛ لأنه أذِن
لِمن أراد أن ينصرف بالانصراف ، وهذا سبقت الإشارة إليه في حديث البراء رضي
الله عنه .
4= في رواية لمسلم : شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعْدُ أَنْ صَلَّى وَفَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ سَلَّمَ
فَإِذَا هُوَ يَرَى لَحْمَ أَضَاحِيَّ قَدْ ذُبِحَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ
صَلاتِهِ ، فَقَالَ : مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ -
أَوْ نُصَلِّيَ - فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى ، وَمَنْ كَانَ لَمْ
يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ .
فهذا صريح في سبب قوله عليه الصلاة والسلام لذلك .
5= مشروعية تنبيه الناس وتعليمهم في حال وقوع مخالفة للشرع ، وأن ذلك من
مسؤولية الإمام ، ويتأكّد الأمر إذا كان في مثل يوم العيد ، الذي يتأكّد فيه
تعليم الناس أحكام الأضاحي خاصة ، وأحكام الدِّين عامة .
6= حُكم الأضحية ؛ اخْتُلِف في حكم الأضحية .
قال الخرقي :
وَالأُضْحِيَّةُ سُنَّة ، لا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا
.
قال ابن قدامة :
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الأُضْحِيَّةَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً غَيْرَ
وَاجِبَةٍ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِلالٍ وَأَبِي
مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَبِهِ قَالَ سُوَيْد بْنُ
غَفَلَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ وَعَطَاءٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ
وَأَبُو حَنِيفَةَ : هِيَ وَاجِبَةٌ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ كَانَ لَهُ
سَعَةٌ ، وَلَمْ يُضَحِّ ، فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا . اهـ .
ورجّح شيخ الإسلام ابن تيمية وُجوب الأضحية على المستطيع ، وقال :
وَقَدْ جَاءَتْ الأَحَادِيثُ بِالأَمْرِ بِهَا . وَقَدْ خرج وُجُوبُهَا قَوْلا
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ، أَوْ ظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ .
ونفاة الْوُجُوبِ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ الْعَشْرُ
فَلا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلا مِنْ أَظْفَارِهِ . قَالُوا : وَالْوَاجِبُ
لا يُعَلَّقُ بِالإِرَادَةِ . وَهَذَا كَلامٌ مُجْمَلٌ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ لا
يُوكِلُ إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ ، فَيُقَالُ : إنْ شِئْت فَافْعَلْهُ ؛ بَلْ
قَدْ يُعَلَّقُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْطِ لِبَيَانِ حُكْمٍ مِنْ الأَحْكَامِ .
كَقَوْلِهِ : ( إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) ، وَقَدْ قَدَّرُوا
فِيهِ : إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ ، وَقَدَّرُوا : إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ
فَاسْتَعِذْ ، وَالطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلاةِ
وَاجِبَةٌ ، وَقَدْ قَالَ : ( إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) ، وَمَشِيئَةُ الاسْتِقَامَةِ
وَاجِبَةٌ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ ،
وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ فَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ .
كَمَا قَالَ : " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ
الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ " ، وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ
. فَقَوْلُهُ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ " كَقَوْلِهِ : " مَنْ أَرَادَ
الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " ، وَوُجُوبُهَا حِينَئِذٍ مَشْرُوطٌ بِأَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهَا فَاضِلا عَنْ حَوَائِجِهِ الأَصْلِيَّةِ . كَصَدَقَةِ
الْفِطْرِ . اهـ .
ومِن أظهر أدلّة الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام : مَن وَجَد سَعَة فلم
يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنّ مُصْلاَّنا . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه
.
قَالَ ابن الجوزي فِي " التَّنْقِيحِ " : حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ رِجَالُهُ
كُلُّهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إلاَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ
الْقِتْبَانِيَّ، فَإِنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِم . نقله الزيلعي .
وقال ابن حجر : أخرجه بن ماجه وأحمد ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في رفعه ووقفه ،
والموقوف أشبه بالصواب . قاله الطحاوي وغيره .
وقال الألباني : رواه الحاكم مرفوعا هكذا وصححه ، وموقوفا ولعله أشبه . اهـ .
ولو قيل بِوَقْفِه فهو قول صحابي لم يُعارِضه نصّ ولا عارَضه غيره ، فهو حّجة .
ولا يمكن أن يكون مثل هذا القول في حق أمر مسنون ، خاصة في يوم يأمر فيه النبي
صلى الله عليه وسلم بإخراج العواتق والْحيّض وذوات الخدور .
كما أن قوله عليه الصلاة والسلام : " فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا " دليل
قويّ على وُجوب الأضحية على المستطيع .
7= قوله عليه الصلاة والسلام : " فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ " أي : فليذبح
على اسْمِ الله .
أو : يذبح قائلا : باسم الله .
أو : مُتبرِّكًا باسْم الله .
والقول الأول والثاني أرجح ؛ لأن التسمية مطلوبة .
8= حُكم التسمية على الذبيحة :
هي سُنة عند الجمهور . نَقَله ابن الملقِّن .
وحُجّة الجمهور حديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : يا رسول الله إن قوما
يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا . فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : سَمُّوا الله عليه وكُلوه . رواه البخاري .
وفيه الشّكّ بِتَركِ التسمية ، أو احتمال تركها .
إلاّ أن جمهور أهل العلم فرّقوا بين نسيان التسيمة وبين تركها عمدًا ؛ فقالوا :
إن تركها نسيانا لا يضرّ ، وإن تركها عمدا لا تَحِلّ .
قال البخاري : بَاب التَّسْمِيَة عَلَى الذَّبِيحَة وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا
. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ نَسِيَ فَلا بَأْس ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ ) ، وَالنَّاسِي لا يُسَمَّى فَاسِقًا . اهـ .
قال ابن جرير : من حَرّم ذبيحة الناسي ، فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف
الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . اهـ .
وقال ابن عبد البر : وفيما وصفنا دليل على أن التسمية على الذبيحة سنة مسنونة
لا فريضة ، ولو كانت فرضا ما سقطت بالنسيان ؛ لأن النسيان لا يُسقط ما وَجب
عَمله من الفرائض ، إلاَّ أنها عندي من مؤكدات السنن ، وهي آكد من التسمية على
الوضوء وعلى الأكل . اهـ .
وفي حديث أنس رضي الله عنه في صِفة ذبح الأضاحي : وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا
بِيَدِهِ ، وَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ، قَال :
وَسَمَّى وَكَبَّرَ . رواه مسلم ، وفي رواية له : وَيَقُولُ : بِاسْمِ اللَّهِ
وَاللَّهُ أَكْبَرُ .
وقال ابن تيمية : و " التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ " مَشْرُوعَةٌ ؛ لَكِنْ
قِيلَ : هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : وَاجِبَةٌ
مَعَ الْعَمْدِ وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقِيلَ : تَجِبُ مُطْلَقًا ؛
فَلا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ بِدُونِهَا سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا
، كَالرِّوَايَةِ الأُخْرَى عَنْ أَحْمَد ، اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ
وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَهَذَا أَظْهَرُ
الأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ عَلَّقَ الْحَلَّ بِذِكْرِ
اسْمِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) ، قَوْلُهُ : ( فَكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) ، ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) ، ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : "
مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا " ، وَفِي
الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لَعَدِيٍّ : " إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ
وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَقَتَلَ فَكُلْ ، وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلابُ
آخَرَ فَلا تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ
عَلَى غَيْرِهِ " . اهـ .
وهذه الآيات والأحاديث منها ما هو خاصّ بالصيد ، ومنها ما هو خاصّ بالذبح ، ومن
هنا فرّق العلماء بين مسائل الذبح وبين مسائل الصيد .
وأما قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ) ، فقد قال ابن جرير : يعني بقوله جل ثناؤه : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون ، مما مات
فلم تذبحوه أنتم ، أو يذبحه موحِّدٌ يَدِين لله بشرائع شَرَعها له في كِتاب
مُنزل ؛ فإنه حرام عليكم . اهـ .
وأورد ابن كثير ثلاثة أقوال في المسألة ، وهي باختصار :
فمنهم من قال : لا تَحِلّ هذه الذبيحة بهذه الصِّفَة ، وسواء متروك التسمية
عمدًا أو سهوًا .
والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت
عمدًا أو نسيانًا لم تضر ، وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع
أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد ، نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ،
ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه، وحكي عن ابن عباس، وأبي هريرة،
وعطاء بن أبي رباح
المذهب الثالث في المسألة : أنه إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يَضُرّ ،
وإن تركها عمدًا لم تَحِلّ .
والله أعلم .