|
128 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ رَفْعَ
الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ , حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا
سَمِعْتُهُ .
وَفِي لَفْظٍ : مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إلاّ بِالتَّكْبِيرِ.
في الحديث مسائل :
1= بابُ الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلاةِ
لما فرغ المصنف رحمه الله من صفة الصلاة والدعاء فيها ، وصفة صلاة الوتر ذَكَر
الذِّكر عقب الصلاة ، لا لأن الذكر عقب النافلة ، ولكن لنُزول رتبته في الأهمية
عن رتبة الوتر .
2= حُكم رفع الصوت بالذِّكْر بعد الصلاة المكتوبة :
نَقَلَ ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم مُتَّفِقُون على عدم
استحباب رفع الصوت بالذِّكْر والتكبير ، وحَمَل الشافعي رحمه الله تعالى هذا
الحديث على أنه جَهَرَ وَقْتا يسيرًا حتى يعلمهم صِفَة الذِّكر لا أنهم جَهروا
دائما . قال : فأخْتَار للإمام والمأموم أن يَذكر الله تعالى بعد الفراغ من
الصلاة ويُخفِيان ذلك إلاَّ أن يكون إمَامًا يُريد أن يُتَعَلَّم منه فيجهر حتى
يَعلم أنه قد تُعلِّم منه ثم يُسِرّ ، وحَمَلَ الحديث على هذا . نقله النووي
3 = كَرَاهة رَفع الصَّوت بالذِّكْر ، خاصة إذا كان فيه تشويش على المصلِّين .
قال القرطبي : وروي عن قيس بن عباد أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يَكْرَهون رَفْع الصوت عند الذِّكْر . وممن رُوي عنه كراهة رفع الصوت
عند قراءة القرآن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن
سيرين والنخعي وغيرهم ، وكَرِهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل ، كلهم كَرِهَ رَفع
الصوت بالقرآن والتطريب فيه . اهـ .
وذلك لِمَا في رَفْع الصَّوت بالذِّكْر والقرآن مِن التَّشويش على مَن يُصلِّي
وعلى مَن يذكُر الله ، ولذا لَمَّا سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
يَرْفَعُون أصْواتَهم بالقراءة قال : ألا إنَّ كُلّكم يُنَاجِي رَبَّـه ، فلا
يؤذي بعضكم بعضا ، ولا يَرفعن بعضكم على بعض في القراءة . رواه عبد الرزاق ومِن
طريقه النسائي في الكبرى .
4 = قوله : " كُنْتُ أعْلَم إذا انصرفوا " :
قال القاضي عياض : الظاهر أنه لم يكن يَحْضُر الجماعة ، لأنه كان صغيرا ممن لا
يُواظب على ذلك ، ولا يُلْزَم به ، فكان يَعرف انقضاء الصلاة بما ذَكَر . وقال
غيره : يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم ،
وإنما كان يعرفه بالتكبير .
وقال النووي : قوله : " كنت أعلم إذا انصرفوا " ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة
في الجماعة في بعض الأوقات لِصِغَرِه . اهـ .
أقول : وليس في هذا دليل على تَرْك الصغير للصَّلاة ، إذ قد يُؤمَر بالصَّلاة
ولا يُؤمَر بِحضُور الْجَمَاعة ، وبينهما فَرْق .
5= كيف يُعرف انقضاء الصلاة بالتكبير والصلاة إنما تنقضي بالتسليم ؟
قال ابن دقيق العيد : فَلَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ
لَعَلِمَ انْقِضَاءَ الصَّلاةِ بِسَمَاعِ التَّسْلِيمِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ
مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسْمِعٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ يُبَلِّغُ
التَّسْلِيمَ بِجَهَارَةِ صَوْتِهِ .
وقال ابن حجر : المراد أن رفع الصوت بالذِّكْر ، أي بالتكبير ، وكأنهم كانوا
يبدءون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد .
وحَمَله بعض العلماء على التكبير في أيام التشريق ، لأنه يكون أدبار الصلوات في
تلك الأيام .
6 = وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَوْقِفِ . قاله ابن
دقيق العيد . أي في الوُقُوف في الصَّفّ .
وبهذا يقول الفقهاء .
وفي هذه مسألة تقدّم الصبيان في الصف قال ابن عبد البر :
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أبصر صَبِيًّا في الصف
أخرجه .
وعن زِرّ بِن حُبيش وأبي وائل مثل ذلك .
قال : وهذا يحتمل أن يكون ذلك الصبي من لا يؤمن لعبة وعبثه ، أو يكون كثرة
التقدم له في الصف مع الشيوخ ...
وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى كراهة ذلك .
قال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يَكْره أن يقوم مع الناس في المسجد إلاَّ مَن
قد احتلم أو أنْبَت أو بلغ خمس عشرة سنة، فَذَكَرْتُ له حديث أنس واليتيم ،
فقال : ذلك في التطوع . اهـ .
وقال الجد بن تيمية في " بلغة الساغب " : وموقف الصبيان خَلْف الرِّجَال .
7= قال تعالى : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ)
دلّ هذا على أن رَفْع الصَّوت بالذِّكر ممنوع . قاله القرطبي .
8= قوله : " حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ "
فيه دليل على أن الأذكار بعد الانتهاء من الفريضة ، وليس بعد النافلة .
9= فيه دليل على أن الدعاء عقب الصلوات لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ،
ولا من فِعل أصحابه .
وأن هديه صلى الله عليه وسلم الذِّكْر في أدبار الصلوات المكتوبة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لم يكن بعد الصلوات يَجتمِع هُو وهُم
على دُعاء ورَفع أيدٍ ونحو ذلك ، إذ لو فَعَل ذلك لَنَقَلُوه .
وقال أيضا : دعاء الإمام والمأمومين جَميعًا فهذا لا ريب أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يفعله في أعقاب المكتوبات ، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه ،
إذ لو فَعَلَ ذلك لنقله عنه أصحابه ثم التابعون ثم العلماء ، كما نَقَلُوا ما
هو دون ذلك . اهـ .
وَمن تَرَك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع وعمِد إلى الدعاء ، فقد
ترك السنة إلى البِدعة !
والله تعالى أعلم .