|
ح 111
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ
يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ , فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَلْيَدْفَعْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ .
في الحديث مسائل :
1=
معنى " يستره " أي جَعَله سِترة بينه وبين الناس .
أي جَعَل في قِبلتِه ما يستره من الناس ، وما يَسمح بمرور الناس من أمام سترته
.
2=
حدّ السترة ارتفاعاً .
قدّرها العلماء بثلثي ذِراع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا قام أحدكم يصلي ،
فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرّحل ، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة
الرحل ، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود . رواه مسلم .
قال النووي : وفي هذا الحديث الندب إلى السترة بين يدي المصلى ، وبيان أن أقل
السترة مؤخرة الرحل ، وهي قدر عظم الذراع ، وهو نحو ثلثي ذراع ، ويحصل بأي شيء
أقامه بين يديه هكذا . اهـ .
3=
حدّها عرضا .
لا يُشترط لها عرض ، بل لو وَضَع سهما كفى وسَتر عن الناس .
وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد أمَرَ بالحربة ، فتُوضع بين
يديه .
4=
حُكم الخط في السترة :
لا يُجزئ الخط في السترة .
والحديث الوارد فيه رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، وهو حديث ضعيف .
قال النووي : واستدل القاضي عياض رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أن الخط بين
يدي المصلى لا يكفي . قال : وإن كان قد جاء به حديث وأخذ به أحمد بن حنبل رحمه
الله تعالى ، فهو ضعيف ... ولم يَرَ مالك رحمه الله تعالى ولا عامة الفقهاء
الخط . اهـ .
وقال : وحديث الخط رواه أبو داود ، وفيه ضعف واضطراب .
5=
لا يضرّ المصلي ما مرّ بعد السترة
ففي حديث أبي جحيفة رضي الله عنه : ثم رأيت بلالا أخذ عَنَزَة فركزها ، وخرج
النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمِّراً ، فصلى إلى العنزة بالناس
ركعتين ، ورأيت الناس والدواب يَمُرّون من بين يدي العنزة . رواه البخاري ومسلم
.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما : كان إذا خرج يوم العيد أمَرَ بالحربة ،
فتُوضع بين يديه ، فيُصلي إليها والناس وراءه ، وكان يفعل ذلك في السفر ، فمن
ثمّ اتخذها الأمراء . رواه البخاري ومسلم .
6=
لو صلى إلى جدار قصير – كالذي يكون في المساجد يُتكأ عليه – وجَعَل الجدار سترة
له ، فَمَرَ من فوق صبي . هل يُعتبر من المرور بين يديه ؟ وهل يمنعه من المرور
؟
سألت شيخنا الشيخ عبد الكريم الخضير – فيما مضى – فأجاب بأنه لا يَقطع الصلاة .
وإذا كان يُشوّش عليه فله أن يمنعه .
7=
لم يُفرَّق بين مكان وآخر ، ولا بين زمان وآخر ، لا في النهي عن المرور وتغليظ
النهي والتشديد فيه ، ولا في مُدافعة المارّ .
وقد فرّق بعض العلماء بين الحرم وغيره ، فقال بعض العلماء بأنه يُعفى عن المرور
بين يدي المصلّي في الحرم .
والصحيح أنه لا يُفرّق إلا بدليل يُخصص هذا العموم .
ولذلك قال الإمام البخاري : باب يَردّ المصلي من مرّ بين يديه . وَرَدّ ابن عمر
في التشهد وفي الكعبة ، وقال : إن أبى إلا أن تُقاتله فقاتِله .
وسبب إيراد أبي سعيد واستدلاله به يدلّ على أنه لا فرق بين الحرم وبين غيره في
مُدافعة المار ومَنْعِه .
فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي صالح السمان قال : رأيت أبا سعيد الخدري في
يوم جمعة يُصلي إلى شيء يستره من الناس ، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز
بين يديه ، فدفع أبو سعيد في صدره ، فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه ،
فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشدّ من الأولى ، فنال من أبي سعيد ! ثم دخل على
مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان ، فقال :
ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد ؟ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا
صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه ، فإن
أبى فليقاتله فإنما هو شيطان .
وهذا في يوم جُمعة وفي المسجد النبوي ، كما يُفهم من الروايات .
8= يبدأ بالأخفّ ، وهو الدّفع ، أي أن يردّه ، فيَضَع المصلي يدَه دون من يُريد
أن يمرّ .
فإن أصرّ فليُدافِعه ، وهذا عمل في الصلاة لمصلحة الصلاة .
فإن أبى وأصرّ فليُقاتِله .
9=
معنى المقاتَلة هنا :
قال القرطبي : أي بالإشارة ولطيف المنع . وقوله : " فليقاتله " أي يزيد في دفعه
الثاني أشد من الأول . قال : واجمعوا على أنه لا يلزمه أن يُقاتِله بالسلاح
لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة ، والاشتغال بها ، والخشوع فيها . نقله
ابن حجر في الفتح .
وقال النووي : قال القاضي عياض : وأجمعوا على أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ،
ولا ما يؤدي إلى هلاكه ، فإن دفعه بما يجوز فَهَلَك من ذلك ، فلا قَوَد عليه
باتفاق العلماء . وهل يجب ديته أم يكون هدرا ؟ فيه مذهبان للعلماء ، وهما قولان
في مذهب مالك رضي الله عنه . قال : واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يُفَرِّط في
صلاته بل احتاط وصلى إلى ستره ، أو في مكان يأمن المرور بين يديه . اهـ .
وَنَقَل ابن عبد البر في الاستذكار الخلاف في ذلك كله .
10=
هذا لا شك أنه يدل على عِظم حرمة المسلم ، وعِظم الصلاة وشأنها ، حتى إنه
ليُدافَع المار ويُقاتَل .
11=
قوله : " فإنما هو شيطان "
قال القاضي : قيل معناه إنما حمله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان . وقيل
: معناه يَفعل فِعل الشيطان ، لأن الشيطان بعيد من الخير وقبول السنة . وقيل :
المراد بالشيطان القرين كما جاء في الحديث الآخر: " فإن معه القرين " والله
أعلم . أفاده النووي .
والأقرب في هذه التأويلات أنه يَفعل فِعل الشيطان ، لأن الشيطان هو الذي يُحاول
قطع الصلاة ، ولأنه يمرّ بين الصفوف ، كما في الأحاديث الأخرى .
والحديث الآخر الذي أشار إليه هو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان أحدكم يصلي فلا يَدع أحداً يَمُرّ بين
يديه ، فإن أبي فليقاتله فإن معه القرين . رواه مسلم .
وتأويله قريب في أن المارّ معه قرين .
إلا أنه لو أراد ذلك لما عبّر بأداة الحصر " فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ " .
ويُمكن الجمع بين هذه الروايات أن المارّ يَفعل فِعل الشيطان ، فيُقال له :
شيطان ، كما يُقال لمن يفعل أفعال الجاهلية : جاهل . ويكون مع ذلك معه القرين .
12=
الصلاة إلى غير سُترة ، سيأتي حُكمها في الحديث الذي يليه .
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه : أربع من الجفاء – وذَكَر منها – أن يُصلِّي
إلى غير سترة .
13=
من صلى إلى سُترة فأراد أحد أن يمرّ بين يديه ، أي بينه وبين سترته ، ماذا يصنع
؟
إن وَضَع يَده ربما يمرّ ، خاصة مع الكثرة في مثل الحرم ، أو إذا كان المارّ
امرأة ، فإن المصلي يقع في حَرَج ، إن تَرَك المرأة تمرّ قَطَعتْ صلاته ، وإن
وَضَع يَده وقع في حرج آخر !
الجواب : يصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصنَع .
فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى جدار فاتخذه قبلة ، فجاءت بهمة تمرّ بين
يديه فما زال يُدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ، ومرّت من ورائه . رواه الإمام
أحمد وأبو داود وغيره .
ففي الأماكن المزدحمة ، كالحرمين والجوامع لا يُصلي المصلّي إلا إلى سُترة ،
فإذا أراد أحد أن يمر فليُدافِعه ، فإن أصرّ فليتقدّم إلى سُترته كما في الحديث
السابق .
والله تعالى أعلم .