|
ح 54
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : ملأ الله
قبورهم وبيوتهم نارا ، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس .
وفي لفظ لمسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ثم صلاها بين المغرب
والعشاء .
ح 55
وله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا
، أو قال : حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا .
في الحديثين مسائل :
1 =
رواية مسلم الأولى التي أشار إليها المصنف هي عنده بلفظ : ثم صلاها بين
العشاءين ، بين المغرب والعشاء
وسيأتي ما فيها من فوائد .
2 =
الفرق بين الحديثين :
الحديث الأول فيه تعيين الغزوة التي حُبس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
أداء صلاة العصر في وقتها
والثاني : لفظه عام " حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
الحديث الأول فيه النص على أن هذا الشّغل أو الحبس عن صلاة العصر استمر إلى
غروب الشمس .
بينما الحديث الثاني على الشك " حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت " .
3 =
هل بين الحديثين تعـارض ؟
ليس بين الحديثين تعارض أو تناقض ، فالحديث الأول صريح في أن النبي صلى الله
عليه وسلم ومن معه لم يُصلُّوا العصر إلا بعد مغيب الشمس .
ويؤيده ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم
الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش قال : يا رسول الله ما كدت أصلي
العصر حتى كادت الشمس تغرب . قال النبي صلى الله عليه وسلم : والله ما صليتها !
فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم
صلى بعدها المغرب . [ وهذا الحديث سوف يُورده المصنف بعد خمسة أحاديث ، وكان
حقه التقديم ] وهو الحديث رقم 61
أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فهو محمول على ما قارَب مغيب الشمس ، وقد شكّ
فيه راويه ، والأول لم يشك فيه رواته .
وفي رواية ابن ماجه لحديث ابن مسعود ، قال : حبس المشركون النبي صلى الله عليه
وسلم عن صلاة العصر حتى غابت الشمس .
قال ابن دقيق العيد : وقوله : " حتى اصفرت الشمس " قد يتوهم منه مخالفة لما في
الحديث الأول من صلاتها بين المغرب والعشاء ، وليس كذلك ، بل الحبس انتهى إلى
هذا الوقت ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب ، كما في الحديث الأول ، وقد يكون ذلك
الاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها ، فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
مقتضٍ لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب .
وقال الحافظ العراقي : وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ
بِالْكُـلِّـيَّةِ .
4 =
هذا الحديث نصّ على أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى ، وقد ساق ابن الملقِّن
سبعة عشر قولاً في تعيين الصلاة الوسطى ، وهذا من أعجب ما رأيت من الخلاف !
فالحديث صريح في تعيين الصلاة الوسطى ، والصلوات خمس صلوات ، والأقوال في تعيين
الصلاة الوسطى تبلغ هذا العدد ! [ والأقوال مبسوطة في إحكام الأحكام لابن دقيق
العيد ، وفي طرح التثريب للعراقي ] .
ولذلك قال ابن دقيق العيد : العلماء اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى ، فذهب أبو
حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى إلى أنها العصر ، ودليلهما هذا الحديث مع غيره ،
وهو قوي في المقصود ، وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة . اهـ .
5 =
لماذا أخّـر الصلاة عن وقتها ولم يُصلِّ صلاة الخوف ؟
لأن صلاة الخوف لم تكن شُرِعت من قبل .
قال الإمام النووي :
قوله : " ثم صلاها بين العشاءين ، بين المغرب والعشاء " فيه بيان صحة إطلاق لفظ
العشاءين على المغرب والعشاء ، وقد أنكره بعضهم لأن المغرب لا يسمى عشاء ، وهذا
غلط لأن التثنية هنا للتغليب ، كالأبوين ، والقمرين ، والعمرين ، ونظائرها .
وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول
صلاة الخوف , قال العلماء : يُحتمل أنه أخّرها نسيانا لا عمدا ، وكان السبب في
النسيان الاشتغال بأمر العدو ، ويُحتمل أنه أخّرها عمدا للاشتغال بالعدو ، وكان
هذا عذرا في تأخير الصلاة قبل نزول صلاة الخوف ، وأما اليوم فلا يجوز تأخير
الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال ، بل يُصلي صلاة الخوف على حسب الحال . اهـ
.
6 =
قوله : ثم صلاها بين العشاءين ، بين المغرب والعشاء .
هل يدلّ على سقوط الترتيب ؟
جاء الخلاف بين العلماء هل رتّب الصلوات ، فبدأ بالعصر ثم المغرب ، أم أنه صلى
المغرب ثم صلى العصر ؟
من نظر إلى هذه الرواية قال : صلى المغرب ثم صلى العصر ، لقوله : " ثم صلاها
بين العشاءين " قال بعدم وجوب الترتيب .
قال الإمام العراقي : قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : " ثُمَّ صَلاهَا
بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ ؛ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا
يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ الْفَائِتَةِ بَلْ لَهُ تَقْدِيمُ
الْحَاضِرَةِ ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ
يُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، فَلَمْ يُوجِبْ
التَّرْتِيبَ لَكِنَّهُ جَعَلَهُ الأَفْضَلَ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ ، وَيُعَارِضُ هَذَا
الْحَدِيثَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ :
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بَعْدَ
مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ . وَهَذَا
صَرِيحٌ فِي مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ ،
وَلَعَلَّهُ أَرَادَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بَيْنَ وَقْتَيْ الْعِشَاءَيْنِ ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مُضَيَّقٌ فَبَيْنَ وَقْتِهَا وَوَقْتِ
الْعِشَاءِ حِينَئِذٍ زَمَنٌ صَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى
هَذَا الْجَوَابِ إخْرَاجُ الْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ الْقَوْلِ
بِتَضْيِيقِهِ . وَالْقَائِلُ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ قَدْ يُجِيبُ عَنْ
حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ مُحْتَمَلَةٌ فَمِنْ الْجَائِزِ
أَنْ يَكُونَ ضَاقَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَخَشَى فَوَاتَهَا لَوْ اشْتَغَلَ
بِالْعَصْرِ ، فَاحْتَاجَ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَبَدَأَ
بِالْمَغْرِبِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَهِيَ مَا إذَا ضَاقَ وَقْتُ
الْحَاضِرَةِ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى سُقُوطِ
التَّرْتِيبِ فِيهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ
مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ أَيْضًا ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ،
وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَبْدَأُ
بِصَاحِبَةِ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . اهـ .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلاةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَوْرًا مُرَتِّبًا ،
فَإِنْ نَسِيَ اَلتَّرْتِيبَ أَوْ جَهِلَهُ , أَوْ خَافَ فَوْتَ اَلصَّلاةِ ,
سَقَطَ اَلتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اَلْحَاضِرَةِ . اهـ .
7 =
وفي الحديث دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا . قاله ابن دقيق العيد .
والله تعالى أعلى وأعلم .