شرح عمدة الأحكام ح 31
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق
المدينة وهو جنب ، قال : فانخنست منه ، فذهبت فاغتسلت ، ثم جاء فقال :
أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال : كنت
جنباً ، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة . فقال : سبحان الله ! إن المؤمن
لا ينجس .
فيه مسائل :
1 = روايات الحديث :
في رواية للبخاري قال أبو هريرة رضي
الله عنه : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب ، فأخذ بيدي ، فمشيت
معه حتى قعد ، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت ، ثم جئت وهو قاعد ، فقال : أين
كنت يا أبا هـر ؟ فقلت له ، فقال : سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس .
وفي رواية لمسلم عن حميد الطويل عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه لقيه النبي صلى
الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب ، فانسلّ فذهب فاغتسل ،
فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما جاءه قال : أين كنت يا أبا هريرة ؟
قال : يا رسول الله لقيتني وأنا جنب ، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل . فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله إن المؤمن لا ينجس .
وفي رواية لمسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقيه وهو جنب ، فَحَادَ عنه فاغتسل ، ثم جاء فقال : كنتُ جنبا . قال : إن
المسلم لا ينجس .
2 = قوله :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في
بعض طريق المدينة وهو جنب .
الضمير في : وهو جُنُب عائد على أبي هريرة رضي الله عنه ، بدليل أنه قال :
فذهبت فاغتسلت .
3 = قوله :
فانخنستُ ، و " فانسللتُ "
الانخناس هو الانقباض والتأخّر ، ومنه قول ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان
جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
ومنه سُمّي الشيطان بـ " الخـنّـاس "
والانسلال هو الذهاب خفية .
وهذا إنما فعله أبو هريرة رضي الله عنه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم ،
وكراهة أن يُجالسه وهو جُنُب .
وهذا من كمال احترامهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتقديره .
4 = الاغتسال تقدم تعريفه .
5 = قوله صلى الله عليه وسلم :
يا أبا هريرة ، وفي رواية : يا أبا هـر .
قال الإمام البخاري في كتاب الأدب : باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا ،
وقال أبو حازم عن أبي هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هر .
وهذا يُسمى ترخيم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها :
يا عائش .
وهذا من تلطفه صلى الله عليه وسلم ، سواء مع أهله أو مع أصحابه .
6 = سؤال النبي صلى الله عليه وسلم
لصاحبه : أين كنت يا أبا هريرة ؟
فيه دليل على السؤال والاستفصال قبل
المعاتبة .
ولهذا نظائر كثيرة ، ذكرتها هنا :
http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/2.htm
7 = قوله عليه الصلاة والسلام : سبحان
الله !
سبحان الله : تُقال للتعجّب ، وتُقال
للإنكار .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تعجب من شيء قال : سبحان الله .
والتسبيح والتكبير مشروع عند التعجب .
ولذا لما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سبحان الله ! ماذا أنزل من
الخزائن ، وماذا أنزل من الفتن . رواه البخاري .
ولما سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم : طلقت نساءك ؟ قال : لا . قال عمر :
قلت : الله أكبر . رواه البخاري ومسلم .
ولما مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم رجلان ، والنبي صلى الله عليه وسلم معه
امرأة قال لهما : على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيي . قالا : سبحان الله !
يا رسول الله .. الحديث . متفق عليه .
وأما الإنكار ، فكما هنا ، ويُحتمل أن يكون للتعجب .
ومثله لما جاءت المرأة تسأل عن كيفية التّطهّر من الحيض فأخبرها ، ثم قالت :
كيف أتطهر ؟ قال : تطهري بها . قالت : كيف ؟ قال : سبحان الله ! تطهري . قالت
عائشة رضي الله عنها : فاجتبذتها إليّ . رواه البخاري ومسلم .
8 = قوله : إن المؤمن لا ينجس .
هذا أمر مؤكد بـ " إن "
وهو يدلّ على أن المسلم لا ينجس نجاسة معنوية ، بخلاف الكافر الذي نجاسته
نجاسة معنوية .
قال الله تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ
عَامِهِمْ هَـذَا )
وأما المسلم فإنه لا ينجس حياً ولا ميتاً .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا . رواه البخاري
تعليقاً.
وعليه فَعَرق الجُنُب طاهر .
والمقصود به هنا : طهارة العين بالنسبة للمسلم .
لا أنه لا يتنجس لو تلبس بالنجاسة أو أصابته .
9 = في الحديث
جواز خروج الجُنب لبعض حاجته دون أن يغتسل ، ما لم يحضره وقت صلاة .
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على أبي هريرة رضي الله عنه أن
يخرج من بيته دون اغتسال ، أو أن يلقاه في بعض طُرُق المدينة .
ولذا عقد الإمام البخاري رحمه الله باباً في الصحيح فقال : باب الجنب يخرج
ويمشي في السوق وغيره وقال عطاء يحتجم الجنب ويقلم أظفاره ويحلق رأسه وإن لم
يتوضأ .
ثم ساق بإسناده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف
على نسائه في الليلة الواحدة ، وله يومئذ تسع نسوة . وهذا يعني أنه يخرج من
بيت إلى بيت دون غُسل .
ثم ساق الإمام البخاري حديث الباب .
والله تعالى أعلى وأعلم .