لا يوجد دليل صحيح صريح في منع المُحدِث من قراءة القرآن ، ولا من مسّ المصحف
، سواء كان حدثا أصغر أم أكبر .
أما الاستدلال بعموم قوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون )
فليس بصواب – والله أعلم – ذلك أن الآية مرتبطة بما قبلها
قال الله تبارك وتعالى : ( إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا
المطهرون )
فالذي في الكتاب المكنون هو ما في اللوح المحفوظ ، وقد تكرر وصف القرآن بذلك
.
قال الله جل جلاله : ( بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ )
هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فإن المقصود بـ ( المطهّرون ) هم الملائكة .
وأما البشر فإنهم لا يُطلق عليهم ( مطهّرون ) لأنهم يتطهرون
ولذا قال الله عز وجل في شأن البشر ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )
وقال في أهل قباء : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا )
وقال في شأن النساء : ( فإذا تطهّرن )
فالناس يتطهّرون ، ولا يُوصفون بأنهم ( مُطهّرون )
قال ابن عباس : ( لا يمسه إلا المطهرون ) قال : الكتاب الذي في السماء .
وقال مرة : يعني الملائكة .
وكذا ورد عن ابن مسعود حيث قال : هو الذكر الذي في السماء لا يمسه إلا
الملائكة
قال قتادة : ( لا يمسه إلا المطهرون ) قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ،
فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس ، وقال : وهي في
قراءة ابن مسعود ( ما يمسه إلا المطهرون ) وقال أبو العالية ( لا يمسه إلا
المطهرون ) قال : ليس أنتم . أنتم أصحاب الذنوب .
قال الإمام مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية : ( لا يمسه إلا المطهرون ) إنما
هي بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى ؛ قول الله تبارك وتعالى : ( كلا إنها
تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ) .
إذاً سقط الاستدلال بالآية على منع المُحدث حدثا أصغر أو أكبر من مس المصحف.
وهنا مسألة ، وهي :
ينبغي التفريق بين مس المصحف ، وبين
قراءة القرآن .
وبقي الاستدلال ببعض الأحاديث التي استدل بها مَن منع الحائض أو الجُـنُـب من
قراءة القرآن ، أو منع غير المتوضئ من مسّ المصحف .
فقد استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ
القرآن ، ولا يحجزه - وربما قال - ولا يحجبه عن ذلك شيء ليس الجنابة . رواه
الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة والحاكم وقال : هذا حديث
صحيح الإسناد والشيخان لم يحتجا بعبد الله بن سلمة فمدار الحديث عليه ، وعبد
الله مطعون فيه .
ورواه ابن الجارود في المتقى ، وقال : قال يحيى : وكان شعبة يقول في هذا
الحديث : نعرف وننكر . يعني أن عبد الله بن سلمة كان كبر حيث أدركه عمرو .
وأطال الشيخ أبو إسحاق الحويني في تخريجه وذكر طُرقه ، وذلك في غوث المكدود
بتخريج منقى ابن الجارود ( ح 94 ) ، ورجّح ضعفه .
ومن قبله الشيخ الألباني – رحمه الله – فقد أطال في تخريجه والكلام عليه في
الإرواء ( ح 485 )
ثم إن هذا الحديث لو صـح فإنه لا يدل على المنع ؛ لأنه حكاية فعل ، وحكاية
الفعل المُجرّد لا يدل على المنع ولا يدل على الوجوب .
قال ابن حجر : قال ابن خزيمة : لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من
القراءة ؛ لأنه ليس فيه نهي ، وإنما هي حكاية فعل . انتهى .
ومع أنه حكاية فعل إلا أنه حديث ضعيف لا تقوم به حُجّـة .
ومما استدلوا به أيضا حديث علي رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم توضأ ، ثم قرأ شيئا من القرآن ، ثم قال : هكذا لمن ليس بجُـنب ،
فأما الجنب فلا ولا آية . رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والضياء في المختارة ،
وضعفه الشيخ الألباني في الإرواء . الموضع السابق .
إذا ليس هناك حديث صحيح صريح في منع المُحدِث من قراءة القرآن ، سواء كان
حدثا أكبر أو أصغر .
ثم إن البراءة الأصلية تقتضي عدم منع الجنب أو الحائض من مس المصحف أو من
قراءة القرآن ، إذ الأصل عدم التكليف .
وهذه المسألة مما تعمّ به البلوى ، أعني الجنابة والحيض ، ومع ذلك لم يرد
حديث واحد صحيح في منع الجنب أو الحائض في قراءة القرآن .
قال الإمام الشوكاني - رحمه الله - :
وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى
الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام ، فالكل إما
من التقوّل على الله تعالى بما لم يَـقـُـل ، أو من إبطـال مـا قـد شرعـه
لعباده بلا حُجـة .
ومذهب جماعة من السلف جواز قراءة
الجُنب للقرآن ، إذ أن الجنابة والحيض مما تعمّ به البلوى ، ومع ذلك لم يرِد
النهي عن القراءة في هذه الأحوال ، فعُلِم أنه مما عُفيَ عنه ، وبقي على أصله
من عدم تأثيم قارئ القرآن في هذه الأحوال .
ولذا بوّب البخاري - رحمه الله -
باباً في الصحيح فقال : تقضي الحائض
المناسك كلها إلا الطواف بالبيت . وقال إبراهيم : لا بأس أن تقرأ الآية ، ولم
يَــرَ ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا .
قال ابن حجر في توجيه التبويب : والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا لابن بطال
وغيره : إن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة رضي
الله عنها ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَستثن من جميع مناسك الحج إلا
الطواف ، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة ، وأعمال الحج مشتملة على ذكر
وتلبية ودعاء ، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك ، فكذلك الجنب لأن حدثها أغلظ
من حدثه .انتهى .
ولما سُئل سعيد بن جبير : يقرأ الحائض والجنب ؟ قال : الآية والآيتين .
وهذا الذي رجّحه الشيخ الألباني -
رحمه الله - ومن قبله الشوكاني .
بل إن الشيخ الألباني - رحمه الله -
يرى جواز قراءة الجنب للقرآن ، وأنه لا يوجد دليل صحيح يمنع الجنب من قراءة
القرآن ، وإن كان الأولى أن يُقرأ القرآن على طهارة كاملة .
وقد ناقش الشيخ الألباني - رحمه الله - هذه المسألة في تمام المنة . ص 107 -
118
ورجّح أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم : لا يمس
القرآن إلا طاهر .
أن المقصود بـ ( الطاهر ) المؤمن .
والمشرك نجس بنص القرآن ، والمؤمن طاهر بنص قوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن
لا ينجس . متفق عليه .
قال - رحمه الله - : والمراد عدم تمكين المشرك من مسِّـه .
ويُراجع قوله - رحمه الله – وتفصيله في المسألة في تمام المنة في التعليق على
فقه السنة
ثم إن النبي صلى الله عليه على آله وسلم ثبت عنه أنه كان لا ينام حتى يقرأ :
ألم تنزيل ، وتبارك الذي بيده الملك . رواه الإمام أحمد والترمذي .
ولم يُنقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه تركهما لأجل الجنابة ، أو أنه قرأ
بهما قبل أن ينام .
مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام ولا يمسّ ماء .
قالت عائشة – رضي الله عنها – عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه
والنسائي في الكبرى .
ولا شك أن قراءة القرآن على طهارة
كاملة أنه هو الأولى والأفضل ، لقوله – عليه الصلاة والسلام – : إني كرهت أن
أذكر الله عز وجل إلا على طهر - أو قال - على طهارة .
رواه الإمام أحمد وأبو داود .