|
في حديثِ جريرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه ذَكَر أنَّ النبيَّ صلى الله
عليه وسلم حثَّ على الصدقَةِ قال : فجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ
بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ . قَالَ
:
ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ
وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم : مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا
وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أُجُورِهِمْ شَىْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً
كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ . رواه مسلم
.
قال الإمامُ الشاطبيُّ في الأجوبةِ عمّا يَستَدِلُّ بِهِ الْمُبْتَدِعَة في
هذا الحديثِ :
أَمَّا الْوَجْهُ الأَوَّلُ
; فَإِنّ قَوْلَه صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً "
الْحَدِيثَ . فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الاخْتِرَاعَ أَلْبَتَّةَ ..
ولَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الاسْتِنَانَ بِمَعْنَى الاخْتِرَاعِ ،
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ ..
فتأمّلُوا أين قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَن سُنّ سُنّةً
حَسَنةً " وَ" مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً " ؟
تَجِدُوا ذلك فيمن عَمِلَ بِمُقْتَضَى المذكورِ على أبْلَغِ ما يَقْدِرُ
عليه حتى بِتِلكَ الصُّرَّةِ ، فانْفَتحَ بسببِه بابُ الصَّدقَةِ على
الوجهِ الأبْلَغِ ، فَسُرَّ بذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى قال :
" مَن سَنَّ في الإسلامِ سنةً حسنةً .. " الحديثَ ، فَدَلّ على أنَّ
السُّنَّةَ ها هنا مثلُ ما فعلَ ذلك الصحابيُّ ، وهو العملُ بما ثَبَتَ
كَونُه سُنّةً ... ووجه ذلك في الحديثِ الأولِ ظاهرٌ لأنه صلى الله عليه
وسلم لِمَا مَضَى على الصَّدَقةِ أوّلاً ثم جاء ذلك الأنصاريُّ بما جاء به
، فانْثَالَ بَعده العطاءُ إلى الكفايةِ ، فكأنها كانت سُنّةً أيْقَظَها
رضي الله تعالى عنه بِفِعْلِه . فليس معناه مَن اخْتَرَعَ سُنّةً
وابْتَدَعها ولم تكُنْ ثَابِتةً
.
والوجهُ الثاني مِن وَجْهَي الجوابِ :
أنَّ قولَه
: "
مَن سَنَّ سُنّةً حَسنةً ... ومَن سَنّ سُنّةً سيئةً " لا يُمْكِنُ حَمْلُه
على الاختراعِ مِن أصلٍ ؛ لأنَّ كونَها حَسَنةً أو سيئةً لا يُعْرَفُ إلاّ
مِن جِهةِ الشَّرْعِ ، لأنَّ التّحْسِينَ والتّقْبِيحَ مُخْتَصٌّ
بِالشَّرْعِ ، لا مَدْخَلَ للعَقْلِ فيه ، وهو مذهبُ جماعةِ أهلِ السنة
.
وإنما يقولُ به الْمُبْتَدِعَةُ ، أعْنِي : التحسينَ والتقبيحَ بالعَقْلِ ،
فَلَزِم أنْ تكونَ السُّنَّةُ في الحديثِ إما حَسَنةً في الشَّرْع ، وإما
قَبيحةً بِالشَّرْعِ . فلا يَصْدُقُ إلاّ على مثلِ الصّدَقةِ المذكورةِ وما
أشبهها مِن السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ
.
وتَبْقى السُّنَّةُ السيئةُ مُنَزّلةٌ على المعاصي التي ثَبَتُ بالشرعِ
كَونُها مَعاصيَ ، كَالْقَتْلِ الْمُنَبَّه عليه في حديثِ ابنِ آدمَ ، حيث
قال عليه السلام
: "
لأنه أوّلُ مَنَ سَنَّ القَتْلَ "، وعلى البِدَعِ لأنه قد ثَبَتَ ذَمُّها
والنهيُ عنها بِالشَّرْعِ، كما تقدم
وأما قولُه : " مَن ابتدعَ بدعةَ ضَلالةٍ " فهو على ظاهرِه ، لأن سَببَ
الحديثِ لم يُقَيِّدْه بِشيءٍ ، فلا بُدَّ مِن حَمْلِه على ظاهرِ اللفظِ
.
ويَصِحُّ أنْ يُحْمَلَ على نحو ذلك قولُه : " ومَن سَنَّ سُنةً سيئةً " ،
أي : مَن اخْتَرَعَها
، وشَمِلَ ما كان منها مُخْتَرَعًا ابتداءً مِن المعاصي ، كَالْقَتْلِ مِن
أحَدِ ابْنَيّ آدَمَ ، وما كان مُخْتَرَعًا بِحُكْمِ الْحَالِ ، إذ كانتْ
قَبْلُ مُهْمَلَةً مُتَنَاسَاةً ، فأثَارَها عَمَلُ هذا العَامِلِ
.
فقد عاد الحديثُ - والحمدُ للهِ - حُجّةً على أهلِ البِدَعِ مِن جِهةِ
لَفْظِه ، وشَرْحِ الأحاديثِ الأُخَرِ له . اهـ .
وممّا يدلُّ على أنَّ المقصودَ إحياءُ السُّنَنِ ، وليس اختِراعٌ وإحداثٌ
في دِينِ الله :
ما جاء في حديثِ حذيفةَ رضي الله عنه قَال : سَأَلَ رَجُلٌ
()
عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ، ثُمَّ
إِنَّ رَجُلا أَعْطَاهُ فَأَعْطَى الْقَوْمُ، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم : مَنْ سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ
وَمِنْ أُجُورِ مَنْ يَتَّبِعُهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْئًا ، وَمَنْ سَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ
وَمِنْ أَوْزَارِ مَنْ يَتَّبِعُهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ
شَيْئًا . رواه الإمام أحمد ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
وما جاء في حديثِ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
، قَال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَحَثَّ
عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَجُل : عِنْدِي كَذَا وَكَذَا . قَال : فَمَا بَقِيَ
فِي الْمَجْلِسِ رَجُلٌ إِلاّ قَدْ تَصَدَّقَ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ
بِهِ ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ كَامِلا ، وَمِنْ أُجُورِ مَنْ اسْتَنَّ بِهِ
لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ
بِهِ ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ كَامِلا ، وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِي اسْتَنَّ
بِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا. رواه الإمام أحمد وابن ماجه
، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
والله تعالى أعلم .
([1])
أي : أنه يسأل الناس ليُعطُوه . مِن المسألة .