وفي مواعِظ النبي صلى الله عليه وسلم : الحثّ على الإقبالِ على العَمَل ؛ كأنه
عَمَل مُودِّع
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال : عِظْنِي وَأَوْجِزْ
، فقال : إذا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ . رواه الإمام أحمد
وابن ماجه ، وحسّنه الألباني .
إيّاكَ والاغتِرارَ :
ففي حديثِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أنه تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ
الوُضُوءَ ، ثُمَّ قَال : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ
وَهُوَ فِي هَذَا المَجْلِسِ ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ : مَنْ
تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الوُضُوءِ ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ فَرَكَعَ
رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ . قال
: وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَغْتَرُّوا . رواه البخاري ومسلم
.
قال ابنُ بَطّالٍ : نَهَى اللهُ عبادَه عنِ الاغترارِ بالحياةِ الدنيا
وزُخرُفِها الفَانِي ، وعنِ الاغترارِ بالشيطانِ ، وبيّنَ لنا تعالى عَدَاوتَه
لَنَا لئلا نَلتَفِتَ إلى تَسْويلِه وتَزيِينِه لَنَا الشّهواتِ الْمُرْدِيَة ،
وحَذّرَنا تعالى طاعتَه ، وأخْبَر أنَّ أتْبَاعَه وحِزْبَه مِن أصحابِ السعيرِ
، والسعيرُ : النارُ .
فَحَقٌّ على المؤمِنِ العاقِلِ أنْ يَحْذَرَ ما حَذَّرَه مِنه رَبُّه عَزّ
وَجَلّ ونَبِيُّه صلى الله عليه وسلم ، وأنْ يكونَ مُشْفِقًا خَائفًا وَجِلاً ،
وإنْ واقَعَ ذَنبًا أسْرَعَ النّدَمَ عليه والتوبَةَ منه ، وعَزَمَ ألاّ يَعودَ
إليه ، وإذا أتَى حَسَنَةً استَقَلّها واستَصْغَرَ عَمَلَه ، ولم يُدِلَّ بها .
ألاَ ترى قولَ عثمانَ : مَن أتى المسجدَ فَرَكَع ركعتين ثم جَلَسَ ، غُفِرَ له
ما تَقَدّمَ مِن ذَنْبِه . وهذا لا يكونُ إلاّ مِنْ قَولِ النبيِّ صلى الله
عليه وسلم ثم أتْبَعَ ذلك بِقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : لا تَغْتَرّوا .
فَفَهِمَ عثمانُ رضى الله عنه مِن ذلك : أنَّ المؤمِنَ يَنْبَغِي له ألاّ
يَتَّكِلَ على عَمَلِه، ويَستَشْعِرَ الحذَرَ والإشفاقَ بَتَجَنّبِ الاغْتِرارِ
. وقد قال غيرُ مجاهدٍ في تفسيرِ الغَرورِ قال : هو أن يَغتَرَّ باللهِ
فيَعمَلَ المعصيةَ ويَتمَنّى الْمَغْفِرَة . اهـ .
وقال ابنُ حَجَرٍ : لا تَغتَرُّوا ، أي : فتَسْتَكْثِروا مِن الأعمالِ السيئةِ
بِنَاءً على أنَّ الصلاةَ تُكَفِّرُها ؛ فإنَّ الصلاةَ التي تُكَفَّرُ بها
الخطايا هي التي يَقْبَلُها اللهُ ، وأنَّى للعبدِ بِالاطلاعِ على ذلك . اهـ .
وعلى الإنسانِ أنْ لا يأمَنَ مِنْ مكْرِ اللهِ ، فإنَّ تَمْكينَ الإنسانِ مِن
الكَسْبِ الْحَرامِ ومِنَ المعصيةِ : مَكْرٌ به واستدراجٌ له .
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ
مِنَ الدُّنْيَا عَلى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ،
ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا
بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) . رواه الإمامُ
أحمدُ ، وصححه الألبانيُّ وحسّنه والأرنؤوط .
وَقَالَ قَتَادَةُ : بَغَتَ القَومَ أمرُ اللَّهِ ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ
قَوْمًا قَطُّ إِلاَّ عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ ؛ فَلا
تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ ، إِنَّهُ لا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ
الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .
وقَالَ عُمَرُ بنُ ذَرٍّ : يَا عِبَادَ اللَّهِ لا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ : (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) .
رواه ابنُ أبي الدنيا في " العقوبات " .
والإمامُ مسلمٌ لَمّا رَوى حديثَ عُِتبانَ بنِ مَالكٍ ، وفيه قوله صلى الله
عليه وسلم : فإنَّ اللهَ قد حَرَّمَ على النارِ مَن قال : لا إلهَ إلا اللهُ
يَبتغِي بِذلكَ وَجْهَ اللهِ . أعقبَه - رحمَه اللهُ - بقولِ الإمامِ
الزُّهريِّ : ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ نَرَى أَنَّ
الأَمْرَ انْتَهَى إِلَيْهَا ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَغْتَرَّ فَلا
يَغْتَرَّ .
ومِن هَوانِ الإنسانِ على اللهِ : أن يُمكّنَ مِن المعصيةِ ، ولا يُمنَعَ مِنها
، ولا يُحجَزَ عنها .
قال الحسنُ البصريُّ في أهْلِ الْمَعَاصِي : هَانُوا عليه فَعَصَوه ، ولو
عَزُّوا عليه لَعَصَمَهم .
وتذَكَّرْ أن التمكينَ مِن المعاصي خُذْلانٌ
قال ابنُ القيمِّ : وقد أجمعَ العَارِفُونَ على أن كلَّ خيرٍ فأَصْلُه
بِتَوفيقِ الله للعبدِ ، وكُلَّ شرٍّ فأَصْلُه خُذلانُه لِعبدِه .
وأجْمَعوا أنَّ التوفيقَ أنْ لا يَكِلَكَ اللهُ إلى نفسِك ، وأنَّ الخذلانَ أنْ
يُخَلِّي بَينك وبينَ نفسِك .
فإذا كان كلُّ خيرٍ أَصْلَه التوفيقُ ، وهو بِيَدِ الله لا بِيَدِ العبدِ ؛
فمِفْتَاحُه الدعاءُ والافتقارُ، وصِدقُ اللّجَأِ والرغبةِ والرهبةِ إليه .
فمتى أعْطَى العبدَ هذا المفتاحَ فقدْ أرادَ أنْ يَفتحَ له . ومتى أضَلَّه عنِ
المفتاحِ بَقِيَ بابُ الخيرِ مُرْتَجًا دُونه . اهـ .
وأعظَمُ العقوبة : أن يُعاقَبَ الإنسانُ ، وهو لا يَشعُر ، أو يَعيش وهو
بِاللهِ مُغْتَرّ .
قال ابنُ الجوزيِّ :
اعْلَمْ أنه مِن أعظمِ الْمِحَنِ : الاغترارُ بالسلامةِ بعد الذَّنْبِ ، فإنَّ
العقوبةَ تتأخّرُ .
ومِنْ أعظمِ العقوبةِ ألاّ يُحِسَّ الإنسانُ بها ، وأنْ تكونَ في سَلْبِ
الدِّينِ ، وطَمْسِ القلوبِ ، وسُوءِ الاختيارِ للنَّفْسِ ، فيكونَ مِن آثارِها
: سَلامَةُ البَدَنِ ، وبُلوغُ الأغراضِ .
قال بعضُ الْمُعْتَبِرِين : أطْلَقْتُ نَظَري فيما لا يَحلُّ لي ، ثم كنتُ
أنتظِرُ العقوبةَ ، فأُلْجِئتُ إلى سَفَرٍ طَويلٍ ، لا نِيّةَ لي فيه ،
فَلَقِيتُ الْمَشَاقَّ ، ثم أعْقَبَ ذلك: مَوْتُ أعزِّ الْخَلْقِ عندي، وذهابُ
أشياءَ كان لها وَقْعٌ عظيمٌ عندي ، ثم تَلافَيْتُ أمْري بالتوبةِ ، فَصَلُحَ
حَالي .
ثم عادَ الْهَوى ! فَحَمَلَني على إطلاقِ بَصَرِي مَرّةً أخرى ، فَطُمِسَ
قَلْبي ، وعُدِمْتْ رِقّتُه ، واسْتُلِبَ مِنّي ما هو أكثرُ مِنْ فَقْدِ
الأوّلِ ، ووَقَعَ لي تعويضٌ عنِ المفقودِ بما كان فَقْدُه أصْلَحَ .
فلما تأمّلْتُ ما عُوِّضْتُ وما سُلِبَ مِنّي ، صِحْتُ مِن ألَمِ تلك
السِّيَاطِ ، فها أنا أُنَادِي مِن على السَّاحِلِ : إخواني ! احذرُوا لْجُةَ
هذا البَحْرِ، ولا تَغْتَرّوا بِسُكُونِه، وعَليكم بِالسَّاحِلِ ، ولازِمُوا
حِصْنَ التقوى ، فالعقوبةُ مُرَّة .
وقال رحمَه اللهُ :
قال أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجَلاءِ : كُنْتُ وَاقِفًا أَنْظُرُ إِلى غُلامٍ
نَصْرَانِيٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ ، فَمَرَّ بِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَلْخِيُّ ، فَقَالَ : إِيشِ وُقُوفُكَ ؟ فَقلت : يَا عَمُّ ! مَا تَرَى
هَذِهِ الصُّورَةَ ، تُعَذَّبُ بِالنَّارِ ؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ
كَتِفَيَّ ، وَقَالَ : لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ .
قَالَ ابْنُ الْجَلاءِ : فَوَجَدْتُ غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ،
أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ .
(ذمّ الهوى) .
قِفْ مع نَفْسِك وحَاسِبْها قبلَ أنْ تُحاسَبَ :
إذا رأيتَ في نفسِك خِفّةً على اللهوِ والمعصيةِ ، وتَثاقُلا عنِ الطاعةِ ؛
فابكِ نَدَمًا ، واستَعْتِب ربَّك قبل النَّدَمِ والْحَسَراتِ ، فإنه سيُقالُ
لأقْوامٍ : (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى
لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) .
قال الحسنُ : اعلمْ أنك لنْ تُحِبَّ اللهَ حتى تُحِبَّ طاعَتَه .
وسُئلَ ذو النون : متى أُحِبُّ رَبّي ؟
فقال : إذا كانَ ما يُبغِضُه عندَك أمَرَّ مِنَ الصَّبِر .
لَمّا عَرَفَ السَّلَفُ حقيقةَ الدنيا اجْتَهَدوا في الطاعاتِ اجتهادًا لا
نَظِيرَ له .
قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ : لَوْ قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعَمَلِ شَيْئًا. رواه
أبو نُعيم في " حلية الأولياء " .
وكان مِنهم مَن يُصلّي في اليومِ والليلةِ ألفَ ركعةٍ ، ومنهم مَن يُصلّي دون
ذلك .
وقد يستغربُ البعضُ هذا العددَ ، أو يحسِبُه بِعمليةٍ حسابيةٍ بَحتَةٍ !
وهذا غيرُ صحيحٍ في العباداتِ ؛ فقد يُوفّقُ بعضُ الناسِ للعَمَلِ الصالحِ ،
ويُبارَكُ له فيه ، ويُكرَمُ بِعمَلِ العملِ الكثيرِ في الزمنِ القليلِ .
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : خُفِّف على داودَ عليه السلام القرآنُ ،
فكانَ يأمُرُ بِدَوابِّه فتُسْرَجُ ، فيقرأُ القرآنَ قبل أنْ تُسْرَجَ دَوابُّه
. رواه البخاريُّ .
قال ابنُ حَجَرٍ : وفي الحديثِ : أن البَرَكةَ قد تَقَعُ في الزّمَنِ اليسيرِ
حتى يَقعَ فيه العملُ الكثيرُ . قال النوويُّ : أكثرُ ما بَلَغَنا مِن ذلك مَن
كان يقرأُ أربعَ ختماتٍ بالليلِ وأربعا بالنهارِ . اهـ .
والمرادُ بِالقُرآنِ : القراءةُ ، كما في الروايةِ الثانيةِ للبخاريِّ .
وقال ابنُ بطّالٍ : وقد رُوي عن جماعةٍ مِن السَّلَفِ أنهم كانوا يَختِمُونَ
القرآنَ في رَكعةٍ ، وهذا لا يُمكِنُ إلاّ بِالْهَذِّ ، والْحُجةُ لِهَذا
القَولِ حديثُ أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خُفِّفَ
على داودَ عليه السلام القرآنُ ، فكان يأمُرُ بِدَوابِّه فتُسْرَجُ ، فيقرأُ
القرآنَ قبل أن تُسْرَجَ دَوابُّه " ، وهذا لا يَتمُّ إلاّ بِالْهَذّ وسُرْعةِ
القراءةِ . والمرادُ بِالقرآنِ في هذا الحديثِ الزّبُورُ . اهـ . ويُنظَرُ
فَتْحُ الباري لابنِ حَجَرَ في الخلافِ في المرادِ بِالقُرآنِ .
ونَقْلُ مِثلِ هذه الآثارِ فيه شَدٌّ للعَزائمِ ، فإنَّ السَّلَفَ كانوا
يَنْظرون في الطاعاتِ إلى مَن هُو فَوقَهم .
كان الربيعُ بنُ خثيمٍ يَبكِي حتى يَبلَّ لِحْيتَه مِن دُمُوعِهِ ، فيقولُ :
أدْرَكْنا قومًا كُنّا في جنوبِهم لُصُوصًا . رواه الإمامُ أحمدُ في " الزُّهدِ
" .
وقال محمدُ بنُ إسحاقَ : قَدِم علينا عبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ حاجًّا ،
فاعْتَلَّتْ إحدى قَدَمَيه ، فقامَ يُصلي حتى أصبحَ على قَدَمٍ . رواه
البيهقيُّ في " شُعبِ الإيمانِ " ومِن طريقِه : ابنُ عساكِرَ في " تاريخِ دمشقَ
" .
يومُ القيامة : يُسمّى يَومُ الْحَسْرَةِ والنّدَامَة
قال أبو بكرٍ الطرطوشيُّ: كلما ازدادَ الخيرُ كثرةً كان الخارِجُ منه أشدَّ
حسرةٍ .
وقال ابنُ القيمِ : وأعْظَمُ النَّقْصِ وأشدُّ الْحَسْرَةِ : نقصُ الْقَادِرِ
على التَّمامِ وحسرتُه على تَفْوِيتِه ... وَصدَقَ الْقَائِلُ :
وَلم أرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبا ... كَنَقصِ القادِرين على التَّمامِ
فَثَبتَ أنه لا شَيْءَ أقبحُ بالإنسانِ مِن أنْ يكونَ غافِلا عَن الْفَضَائِلِ
الدِّينِيَّةِ والعلومِ النافعةِ والأعمالِ الصَّالِحَة . اهـ . (مفتاح دار
السعادة)