يَتصوّر بعض الناس أن مُصطَلَح الأخلاق مُرادِف للأدب ، أو يُعنى به : دَمَاثَة
الْخُلُق والسماحة والتواضع ، بينما الإسلام هو دِين الأخلاق ، والأخلاق أعمّ
مِن ذلك .
وقد لَخّص النبي صلى الله عليه وسلم دَعْوَته بِأنها لإتْمَام مَكَارِم الأخلاق
؛ فقال : إنما بُعثت لأُتَمِّم مَكَارم الأخلاق . رواه البيهقي .
وفي رواية : لأُتَمِّم صَالِح الأخلاق . رواه الإمام أحمد والبخاري في " الأدب
المفْرَد " . وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
فهذه أخلاق الإسلام التي جاءت مع بِعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وظَهَرت
حتى وهو صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ في دعوته .
ولَمّا سألَ هِرَقْلُ أبا سُفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بِمَ
يَأْمُرُكُم ؟ قال أبو سفيان : يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ
وَالصِّلَةِ وَالعَفَافِ . رواه البخاري ومسلم .
وجاءت النصوص الكثيرة التي تدلّ على حُسن الْخُلُق .
ومِن فَضْل حُسْنِ الْخُلُق :
1 - أنه خَيرُ الأُعطِياتِ
سُئلَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم : ما خَيْرُ ما أُعطِيَ الناسُ ؟ فقال :
خُلُقٌ حَسَنٌ .
رواه الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ .
وسُئلَ عليه الصلاة والسلام : مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ ؟ فقَال :
تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في "
الأدبِ المفْرَدِ " والترمذيُّ ، وحسَّنَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
2 - ويَكفي في فضلِ حُسنِ الْخُلُق : أنه يَرفَع صاحِبَه إلى الدّرَجات العُلى
.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ . رواه
الإمام أحمد وأبو داود ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
3 - وبِحُسْنِ الْخُلُق تَثْقل الموازين .
قال عليه الصلاة والسلام : مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ
حُسْنِ الْخُلُقِ . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
ويَكْفِي في فضلِ حُسْنِ الْخُلُقِ :
4 - أن صاحِبَ الْخُلُق الْحَسَن مِن أحبّ الناس إلى الله وإلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وإلى عِبادِ الله
قال الله تبارك وتعالى : (إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) .
قَرَأَ الْحَسَن يَوْمًا هَذِهِ الآيَةَ ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَال : إِنَّ اللهَ
عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لَكُمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي آيَةٍ
وَاحِدَةٍ ؛ فَوَ اللهِ مَا تَرَكَ الْعَدْلُ وَالإِحْسَانُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ
شَيْئًا إِلاّ جَمَعَهُ، وَلا تَرَكَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ
مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيْئًا إِلاَّ جَمَعَهُ . رواه البيهقي في " شُعب
الإيمان " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا . رواه
الطبراني ، وصححه الألباني .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْس : إنّ
فِيك لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ . رواه
مسلم .
وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ ...
6 – أن حُسْن الْخُلُق ذَهَبَ بِخَيْريّ الدنيا والآخِرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَنَا
زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ
مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ
كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ . رواه
أبو داود ، وَحسّنه الألباني والأرنؤوط .
قال ابن الأثير : " فِي رَبَضِ الجنَّة " هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ : مَا حَوْلها
خَارِجًا عَنْهَا ، تَشْبيها بالأبْنِيَة الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ المُدُن
وَتَحْتَ القِلاَع . اهـ .
فَجَمَع هذا الحديث خَير الآخِرَة ، وهو منازِل الجنة ، بل ضَمَان الجنة لِمَن
حَسُن خُلُقُه :
بَيْت حول الجنة لِمَن تَرَك الْمِرَاء - وهو الْجِدَال – وإن كان على حَقّ .
وبيت فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا .
وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ .
مع ما تقدَّم مِن نِدَائه على رُؤوس الأشهاد ، إذا كَظَمَ غيظَه ، وهو قادِر
على إنفاذِه .
وأمّا في الدّنيا ؛ فإن الْخُلُق الْحَسَن قَرِين الدِّين ، كما في قوله عليه
الصلاة والسلام : إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ
فَزَوِّجُوهُ ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ
عَرِيضٌ . رواه الترمذي ، وحسّنه الألباني .
7 - وحُسْن الْخُلُق تُنال به الْخَيْريّة في الدينا والآخِرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن
شَرَّ الناسِ مَنْ تَرَكَه الناسُ - أو وَدَعَه الناسُ - اتّقاءَ فُحْشِه . رواه
البخاري ومسلم .
ومَفهُومه : أن خِيَار الناس مَن ألِفَه الناس ، كما في قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم : الْمُؤْمِنُ
مَأْلَفٌ ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ . رواه
الإمام أحمد ، وَصحّحه الألباني وحسّنه الأرنؤوط .
وسبق : " وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ
خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا . رواه
البخاريُّ ومسلمٌ .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكْمَلُ
الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا : الْمُوَطَّئُونَ
أَكْنَافًا ، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا
يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ . رواه الطبراني في " الصغير " ،
وحسّنه الألباني .
8- وأن صاحِب الْخُلُق الْحَسَن تُصيبه دَعوة النبي صلى الله عليه وسلم .
بوّب الإمام البخاري : بَابُ
السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاء وَالبَيْع ، وَمَن طَلَبَ حَقًّا
فَلْيَطْلُبْهُ في عَفَاف .
ثم رَوَى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم قال : رَحِمَ
اللَّهُ رَجُلا سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى .
قال ابن بطّال : فيه : الْحَضّ على السّماحة وحُسن المعاملة ، واستعمال معالي
الأخلاق ومَكارِمها ، وتَرْك الْمُشَاحّة ، والرّقّة في البَيْع ، وذلك سبب إلى
وُجود البَرَكة فيه ؛ لأن النبي عليه السلام لا يَحُضّ أمّته إلاّ على ما فيه
النّفْع لهم في الدنيا والآخرة .
فأما فَضْل ذلك في الآخرة ؛ فقد دَعَا عليه الصلاة والسلام بِالرّحْمَة لِمَن
فَعَل ذلك، فمَن أحبّ أن تَنَاله بَرَكة دَعْوة النبي عليه الصلاة والسلام
فَلْيَقْتَد بهذا الحديث ، ويَعْمَل به . اهـ .
9 - وحُسنُ الْخُلُقِ مِمّا يُعمِّرُ الدّيَارَ ، ويَزيدُ في الأعمارِ .
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّهُ
مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ ، وَحُسْنُ
الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ . رواه
الإمامُ أحمدُ ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
10 – أنه يُباعِد مِن غَضَب الله
وفي مُسند الإمام أحمد أن عَبْدَ
اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَال : لا تَغْضَبْ .
ولَمّا وَصَفَ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم ومَدَحَه: مَدَحه بِِحُسنِ
الْخُلُقِ ، فقال : (وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ،
فلم يَمْدَحْه بِحسَبٍ ولا نسَبٍ ، وإنما مَدَحَه بِما هو مُكتَسَبٌ !
لم يَمْدَحْه بِجَمالِه ، وكان أحسنُ الناسِ وَجْهًا .
قال عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ
كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا .
رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
وفي روايةٍ لمسلمٍ : وَقَال : قَال
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ
أَخْلاقًا .
قال ابنُ حَجَرٍ : حُسنُ الْخُلُقِ : اختيارُ الفضائلِ ، وتَرْكُ الرّذائلِ .
اهـ .
وقد عَرّفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ الشّديدَ القويَّ بأنه الذي
يَملِكُ نفسَه عند الغضبِ ، فقالَ : لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ،
إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ . رواه
البخاريُّ ومسلمٌ .
قال ابن عبد البر : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فِي
صَرْفِهَا عَنْ هَوَاهَا أَشَدُّ مُحَاوَلَةً وَأَصْعَبُ مَرَامًا وَأَفْضَلُ
مِنْ مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ لِلَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ مِنَ
الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ لِلَّذِي يَغْلِبُ النَّاسَ وَيَصْرَعُهُمْ
. اهـ .
وفي مُسند الإمام أحمد أن عَبْدَ
اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَال : لا تَغْضَبْ .
ومِن محاسِن الأخلاق ، وأجلِّ أخلاق الكِرام : عدم الانتقام ، وعدم التَّشَفِّي
، وكَظْم الغيظ .
قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا
، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلاّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ
اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا . رواه البخاري ومسلم .
ولِفَضْل الصّفْح والعفو ، وكَظْم الغيظ ، وعدم الانتقام : يُنادَى صاِحِب هذا
الْخُلُق على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ، ويُشَاد به .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ
كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ
الْحُورِ شَاءَ . رواه
الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حَسَن ،
وحسّنه الحافظ العراقي . وحسّنه الألباني والأرنؤوط .
وقد أمَر الله بِالصَّفْحِ الْجَمِيل ،
فقال عزّ وجَلّ : (فَاصْفَحِ
الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
قال الراغبُ : والصَّفْحُ : تركُ التّثْرِيبِ ، وهو أبْلَغُ مِنَ العفوِ ،
ولذلك قالَ : (فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) ،
وقد يعفو الإنسانُ ولا يَصْفَحُ . قال تعالى : (فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) ..
وصَفَحْتُ عنه : أوْلَيْتُه مِنّي صَفْحَةً جَمْيلةً مُعْرِضًا عن ذَنْبِه ،
أوْ لَقِيتُ صَفْحَتَهُ مُتَجَافِيًا عنه ، أو تَجَاوَزْتُ الصَّفْحَةَ التي
أثْبَتُّ فيها ذَنْبَه مِن الكتابِ إلى غيرِها ، مِن قَولِك : تَصَفَّحْتُ
الكتابَ . اهـ . (المفردات في غريب القرآن)
والرِّفْقُ بالْخَلْقِ مِن مَحاسِنِ الأخلاقِ
والرِّفْقُ يُحبُّه اللهُ تَبارَك وتَعالى ورَسولُه صلى الله عليه وسلم .
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ
اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي
عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ. رواه
البخاري ومسلم.
وفي رواية البخاريِّ : إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ
كُلِّهِ .
وقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ
يُحْرَمِ الرِّفْقَ ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ . رواه
مسلم .
ومِن أجلِّ الأخلاقِ : تَرْكُ شُؤونِ الْخَلْقِ الخاصَّةِ بِهِم
قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مِنْ
حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ . رواه
الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ ، وحسّنَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
وما أكثرُ ما يخوضُ الناسُ في أمورِ غيرِهم مما لا تَعْنِيهم لا مِن قريبٍ ولا
مِن بعيدٍ ، وإنما هو الخوضُ فيمَا لا يَعنِيهم .
روى الطبرانيُّ في الأوسطِ أنَّ
النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَ كعبَ بنَ عُجْرَةَ رضي الله عنه فقال : ما
فَعلَ كَعبٌ ؟ قالوا : مَريضٌ ، فَخَرجَ يمشي حتى دَخَلَ عليه ، فقال له :
أبْشِرْ يا كَعبُ . فقالتْ أمُّهُ : هنيئا لك الجنةُ يا كَعبُ . فقال النبيُّ
صلى الله عليه وسلم : مَن هذه المتألِّيَةُ على اللهِ ؟ قال : هي أمي يا رسولَ
الله . قال : ما يُدريكِ يا أمَّ كعبٍ ؟ لعلَّ كَعْبًا قال ما لا يَنْفَعُهُ ،
أو مَنَعَ ما لا يُغْنيه . وصححه
الألبانيُّ .
وفَرْق بين شؤون الْخَلْق الخاصّة ، وبين ما يَقَع منهم مِن مُنكرات يَجب
إنكارها .
ومِن الحكمةِ : تَركُ الإنسانِ ما لا يَعنيه .
قيل لِلُقْمانَ الحكيمِ : ما بَلَغَ بك ما نَرى ؟ قال : صِدْقُ الحديثِ ،
وأداءُ الأمانةِ ، وتَرْكُ ما لا يَعْنِيني .
وقال رجلٌ للأحنفِ بنِ قيسٍ : بِمَ سُدتَ ؟ - وأرادَ أن يَعِيبَه - قال الأحنفُ
: بِتَرْكِي ما لا يَعنيني كَمَا عَنَاكَ مِنْ أمْرِي ما لا يَعنِيك !
وذَكَرَ مُصعبٌ الزبيريُّ عن مالِكٍ قال : اخْتَلَفْتُ إلى جعفرَ بنِ محمدٍ
زمانا ، فما كنتُ أرَاه إلاَّ على ثلاثِ خصالٍ : إما مُصَلٍّ ، وإما صائم ،
وإمّا يَقرأ القرآنَ ، وما رأيتُه يُحَدِّثُ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
إلاَّ على طهارةٍ ، وكان لا يتكلَّمُ فيما لا يَعنِيه ، وكان مِن العلماءِ
العُبّادِ الزهّادِ الذين يَخْشَون الله . اهـ .
وحُسْن الْخُلُق سبب حُسْن الْخَاتِمة
دَخَلَ زيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَلى ابْنِ أَبِي دُجَانَةَ رضي الله عنه وَهُوَ
مَرِيضٌ ، وَكَانَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ ، فَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ يَتَهَلَّلُ
وَجْهُكَ ؟ قَال : مَا مِنْ عَمَلِ شَيْءٍ أَوْثَقَ عِنْدِي مِنَ اثْنَيْنِ :
أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ لا أَتَكَلَّمُ بِمَا لا يَعْنِينِي ، وَأَمَّا
الأُخْرَى : فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا . رواه ابن وَهْب في "
الجامع " .
وكَمَا تُحِبُّ أنْ يَكونَ اللهُ لك ؛ كُنْ لِخَلْقِه ، خاصّةً الضعفاءَ منهم
قال ابنُ القيمِّ : وهو سبحانه وتعالى رَحِيمٌ يُحبُّ الرُّحَماءَ ، وإنما
يَرْحَمُ مِنْ عبادِه الرحماءَ ، وهو سِتِّيرٌ يُحِبُّ مَن يَسترُ على عبادِه ،
وعَفوٌّ يُحِبُّ مَن يعفو عنهم ، وغفورٌ يُحِبَّ مَن يَغفرُ لهم ، ولطيفٌ
يُحِبُّ اللطيفَ من عبادِه، ويُبغِضُ الفظَّ الغليظَ القاسِيَ الجعْظَرِيَّ
الجوَّاظَ ، ورفيقٌ يُحِبُّ الرفقَ ، وحليمٌ يُحِبُّ الْحِلمَ ، وبَرٌّ يُحِبُّ
البِرَّ وأهْلَه ، وعَدْلٌ يُحِبُّ العدلَ ، وقابِلُ المعاذيرِ يُحِبُّ مَن
يَقبلُ معاذيرَ عبادِه، ويجازي عبدَه بحسَبِ هذه الصفاتِ فيه وجودا وعَدَما ،
فمَنْ عَفا عَفا عنه ، ومَن غَفَرَ غَفَرَ له ، ومَن سامَحَ سامَحَه ، ومَنْ
حَاقَقَ حَاقَقَه ، ومَنْ رَفَقَ بعبادِه رَفَقَ به ، ومَن رَحِمَ خَلْقَه
رَحِمَه ، ومَنْ أحْسَنَ إليهم أحسَنَ إليه ، ومَن جَادَ عليهم جَادَ عليه ،
ومَن نَفَعَهم نَفَعَه ، ومَن سَتَرَهم سَترَه ، ومَنْ صَفَحَ عنهم صَفَحَ عنه
، ومَن تَتَبَّعَ عورتَهم تَتَبَّعَ عورتَه ، ومَن هَتَكَهم هَتَكَه وفَضَحَه ،
ومَن مَنعهم خَيرَه مَنَعَه خيرَه ، ومَن شاقَّ شاقَّ اللهُ تعالى به ، ومَنْ
مَكَرَ مَكَرَ بِه ، ومَنْ خَادَعَ خَادَعَه . ومَن عامَلَ خَلْقَه بِصِفَةٍ
عامَلَه اللهُ تعالى بِتلك الصِّفَةِ بِعَيْنِها في الدنيا والآخرةِ .
فالله تعالى لِعَبْدِه على حَسَبِ ما يكونُ العَبدُ لِخَلْقِه . اهـ . (الوابل
الصّيِّب)
وقال ابنُ رَجَبٍ : وفي الجملةِ : فكان خُلُقُه صلى الله عليه وسلم القرآنَ ؛
يَرْضَى لِرِضَاه ويَسْخَطُ لِسَخَطِهِ ، فأكْمَلُ الْخَلْقِ مَن حَقَّقَ
مُتَابَعَتَه وتَصديقَه قَولا وعَملا وحالاً ، وهُم الصّدِيقُون مِن أُمّتِه
الذين رأَسَهم : أبو بكر - خليفتُه بعده - وَهُم أعلى أهلِ الجنةِ دَرَجةً بَعد
النّبِيِّين . اهـ . (فتح الباري)
ومَع كمالِ خُلُقِه صلى الله عليه وسلم وحُسْنِ أدَبِه إلاّ أنه كان يسألُ
اللهَ أن يَهدِيَه لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ .
فقد كان مِنْ دُعائه : اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا
إِلاّ أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا
إِلاّ أَنْتَ . رواه مسلم .
ومِن دُعائه عليه الصلاةُ والسلام : اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ،
وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا .
رواه مسلم .
ومِن دُعائه عليه الصلاةُ والسلام : اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي ، فَأَحْسِنْ
خُلُقِي . رواه الإمام أحمد ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
ومِن دُعائه عليه الصلاةُ والسلام : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
مُنْكَرَاتِ الأَخْلاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ . رواه الترمذي ، وصححه
الألباني .
وكلّما زادَ الإيمان حسُنَت الأخلاق
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكْمَلُ
الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا .
رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكْمَلُ
الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا
، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لا يَأْلَفُ
وَلا يُؤْلَفُ .
رواه الطبراني في الأوسط ، وحسّنه الألباني .
والعكس : سوء الْخُلُق يدلّ على ضَعْف الإيمان ،
ولذا جاء في الحديث : وَالْخُلُقُ السُّوءُ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ
الْخَلُّ الْعَسَلَ . رواه الطبراني ، وصححه الألباني .
وسيّد الأخلاق ورأسها : الحياء ، فهو الْخُلُق الذي يَجمَع خِصال الخير .
قال الحسن البَصري : الحياء والتّكَرّم خَصْلتان مِن خِصال الخير ، لم يَكُونا
في عبدٍ إلاّ رَفَعه الله عزّ وجَلّ بهما . رواه ابن أبي الدنيا فِي " مكارم
الأخلاق " .
وعند ابن أبي الدنيا فِي " الصمت " وفي " ذم الكذب " : زَيْنُ الْمَرْأَةِ
الْحَيَاء ، وَزَيْنُ الْحَكِيم الصمت .
وليس بين الإنسان وبين الأخلاق الفاضلة : إلاّ أن يُعوّد نَفسَه على التّخَلّق
بأخلاق الكرام .
قال عليه الصلاة والسلام : إنما العِلْم بالتَّعَلُّم ، وإنما الْحِلْم
بالتَّحَلّم . مَن يَتَحَرّ الخير يُعْطَه ، ومَن يَتَّقّ الشَّرَّ يُوقَه .
رواه الطبراني في الأوسط ، وصححه الألباني .
قال أبو الوليد البَاجِي : قَالَ تَعَالَى: ({خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ
حُسْنِ الأَخْلاقِ مَا لا يَسْتَطِيعُ امْتِثَالَهُ إلاّ مَنْ وَفَّقَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَكَيْفَ سَائِرُ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ
وَسُنَّةُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام . اهـ .
وخُلاصَة الكلام : ما قاله الإمام الْهُمَام ، شيخ الإسلام : أبو العباس أحمد
بن عبد الحليم بن عبد السلام :
وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك
بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ
عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك مِنْ التَّعْلِيمِ
وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ
أَوْ عِرْضٍ . وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا
الْخُلُقُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه
وسلم فَهُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُطْلَقًا
. هَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ . اهـ .
وقوله : " وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ " أي : الذي يَجْمَع
الْخُلُق الْحَسَن في التعامل مع الناس .