وفي روايةٍ في الصحيحين مِن حديثِ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال
: بَيْنَا
نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا،
أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، فَقَال :
يَا رَسُولَ اللهِ ، اعْدِلْ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ
لَمْ أَعْدِلْ . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : يَا
رَسُولَ اللهِ ، ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم : دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ
صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ .
قولُه : " قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ "
قال القسطلاّنيُّ : بِالضمِّ والفَتْحِ على المتكلِّمِ والمخاطَبِ ، والفَتحُ
أشْهَرُ وأوْجَهُ .
قال التوربشتيُّ : هو على ضميرِ المخاطَبِ لا على ضميرِ المتكلِّمِ ، وإنما
رَدَّ الخيبةَ والخسرانَ إلى المخاطَبِ على تقديرِ عدمِ العدلِ منه ؛ لأنَّ
اللهَ تعالى بَعَثَه رَحْمَةً للعالمين ، وليقومَ بالعدلِ فيهم ، فإذا قُدِّرَ
أنَّه لم يعدِلْ فقد خابَ المعتَرِفُ بأنه مبعوثٌ إليهم وَخَسِرَ ؛ لأنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ الخائنين ، فضلاً أن يُرْسِلَهم إلى عبادِه . وقال الكِرمانيُّ : أي
خِبتَ وخَسِرتَ لِكَونِك تابعًا ومُقْتَدِيًا بِمَن لا يَعدِلُ . اهـ .
ويُقال : لِكُلٍّ وارِثٍ !
وهذا صحيحٌ في المبادئِ أيضا ؛ فإنَّ لِهذا الْمُعتَرِضِ على الشَّرْعِ :
وَرَثَةً وأتْبَاعا ، ولذلك قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
الرَّجُلِ الْمُعتَرِضِ على القِسْمَةِ النّبَوِيَّة : إِنَّ
مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا ، قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ
حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ
الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ
الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ .
قال الخطّابيُّ : يريدُ أنه يَخْرُجُ مِن نَسْلِه الذي هو أصْلُهم أو يَخْرُجُ
مِن أصحابِه وأتْباعِه الذين يَقتَدُون به ويَبْنُون رأيَهم ومَذْهَبَهم على
أصْلِ قَولِه . اهـ .
فليستِ العِبرَةُ أن يَكونَ الإنسانُ مُتفيهِقًا مُتكلَّمًا حَسَنَ البيَانِ ،
وإنما العِبرَةُ بِموافقَةِ الحقِ ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سَيَخْرُجُ
فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ ،
يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ . رواه
البخاري ومسلم .
قال النوويُّ : قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : "
أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ " مَعْنَاهُ
صِغَارُ الأَسْنَانِ صِغَارُ الْعُقُولِ !
وقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : "
يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ " مَعْنَاهُ
فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ ، كَقَوْلِهِمْ لا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَنَظَائِرِهِ
مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ .
وثَمّةُ مقولةٍ اشتَهَرتْ وانتْشَرَتْ بين الناسِ ، وتَلَقّفَها كثيرٌ مِن
الناسِ دون معرفةٍ ولا رويّةٍ بِتلك المقَالةِ ، ولا بِآثارِها ، ولا ما
يترتّبُ عليها .
مَقولَةٌ رَوَّجَتْ لها بعضُ وسائلِ الإعلامِ ، وسَرَتْ على أسِنَّةِ
الألسِنَةِ ، وراَجَتْ في مَواقعِ التّواصُلِ وعَبْرَ بعضِ البرامِج !
ألاَ وهي قَولُهم : لا أحدَ فوقَ النّقْد !
وهذا خطأٌ فادِحٌ فاحِشٌ ..
فإنَّ الذاتَ الإلهيةَ فوقَ النقدِ ، ورسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فوقَ
النقد ، وما جاء في الكتابِ والسُّنّةِ فوقَ النقد ، وأصحابَ النبيِّ صلى الله
عليه وسلم فوقَ النقد ، وما أجْمَعَتْ عليه الأُمّةُ فوق النقد .
فمُخالفةُ الإجماع خُرُوجٌ عن سَبيل المؤمِنين
قال الله عزّ وجَلّ : (وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا)
قال السّمَرْقَنْدِيّ في " تفسيره " : وفي الآية دليلٌ إن الإجماعَ حُجّة ؛ لأن
مَن خَالَفَ الإجماع فقد خَالَفَ سَبيل المؤمنين . اهـ .
وما تَلَقَّتْه الأمّةُ بِالقَبُولِ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ ،
فمن هو الذي سيجعَلُ عقلَه حَاكِمًا على عُقولِ علماءِ أُمّةِ محمدٍ صلى الله
عليه وسلم ؟!
وقد قَرَّر العلماءُ : أن ما تَلَقَّتْه الأمّةُ بِالقَبُولِ أقْوى مِن صِحّةِ
إسنادِه .
وقد تَلَقّتِ الأمّةُ أحاديثَ الصحيحينِ بالقَبُول .
قال الْحَافِظُ أَبِو نَصْرٍ الْوَايْلِيُّ السِّجْزِيُّ : أَجْمَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ - الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ رَجُلا لَوْ حَلَفَ
بِالطَّلاقِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَحَّ عَنْهُ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَهُ لا شَكَّ فِيه ، أَنَّهُ لا يَحْنَثُ وَالْمَرْأَةُ
بِحَالِهَا فِي حِبَالَتِهِ .
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ "
الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ قَوْلِهِ: " لَمْ نَجِدْ مِنَ
الأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ مَنْ
أَفْصَحَ لَنَا فِي جَمِيعِ مَا جَمَعَهُ بِالصِّحَّةِ إِلاّ هَذَيْنِ
الإِمَامَيْنِ " . (يعني : البخاريَّ ومُسلِما)
(معرفةُ أنواعِ علومِ الحديث ، لابنِ الصلاح)
وغيرُ أحاديثِ الصحيحينِ مِن أحاديث السُّنَنِ والمسانِيد وغيرِها مما صَحّحه
الأئمةُ ، وتَلَقّته الأمّةُ بالقَبُول ، فوقَ النّقْد . ورَادّ السُّنَّةِ
الصحيحة على خَطَر عَظيم
قال الإمامُ أحمد : مَن رَدَّ حَديثَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَهو
عَلى شَفَا هَلَكَة .
وقال أبو طاهر السِّلَفِيّ : وكُلُّ مَن ردَّ ما صَحَّ مِن قَولِ الرسولِ صلى
الله عليه وسلم ولم يَتَلَقَّهُ بِالقَبُول ضَلَّ وغَوَى ؛ إذْ كان عليه الصلاة
والسلام ما يَنْطِقُ عن الْهَوى ... وفي الكتابِ العزيزِ الذي عَجَزَ الفُصحاءُ
عن الإتيانِ بِمِثلِه ولو كان بعضُهم لِبعضٍ ظَهيرًا : (وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
اهـ .
وقال ابنُ رجبٍ رحمه الله : المسائلُ التي اجْتَمَعَتْ كلمةُ المسلمين عليها
مِن زَمَنِ الصحابة ، وقَلّ الْمُخَالِفُ فيها ونَدَرَ ... يجب على المؤمنِ
الأخذُ بما اتّفَقَ المسلمون على العَملِ بهِ ظاهرا ؛ فإنَّ هَذهِ الأمةَ لا
يَظهَرُ أهلُ باطِلها على أهلِ حقِّها ، كَما أنها لا تجتمِعُ على ضلالةٍ ،
كَما روي ذَلِكَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم . خرجه أبو داود وغيره .
فهذه المسائلُ قَد كُفِي المسلمُ أمْرَها ، ولم يَبقَ فيها إلاَّ اتِّباعُ ما
جَمَعَ عليهِ الخلفاءُ الراشدون أولِي العِلْمِ والعدلِ والكَمَالِ ، دونَ
الاشتغالِ فيها بالبحثِ والجدالِ، وكثرةِ القيلِ والقالِ؛ فإنَّ هَذا كلُّه لَم
يكُنْ يَخْفَى عَمَّن سَلَف ، ولا يَظُنُّ ذَلِكَ بهم سِوى أهلُ الجهلِ
والضلالِ . اهـ .
وأُمّةُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم لا تجتمعُ على ضلالةٍ ، لقولِه عليه الصلاة
والسلام : سَأَلْتُ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ ؛
فَأَعْطَانِيهَا .
رواه الإمامُ أحمدُ ، وصححه الألبانيُّ والأرنؤوط .
ومِن الْمُتقَرِّر عند العلماءِ كافّةً : أنَّ السُّنَّةَ لا تُعَارَضْ بِآراءِ
الرجالِ ، ولا تُضْرَبْ لها الأمثالُ ، ولا يُقالُ فيها بِمُجرَّدِ الرأي .
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه : إِنَّ أَصْحَابَ اَلرَّأْيِ أَعْدَاءَ
اَلسُّنَنِ أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَنْ
يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا: لا نَعْلَمُ،
فَعَارَضُوا اَلسُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ . (أصولُ السُّنةِ ، لابنِ أبي زَمَنِين ،
والإحكامُ في أصولِ الأحكامِ ، لابنِ حَزْم)
ويجب قَبولُ ما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون
جِدالٍ .
قال عَلِيٌّ رضي الله عنه : إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم حَدِيثًا ، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى ، وَالَّذِي هُوَ
أَهْيَا ، وَالَّذِي هُوَ أَتْقَى . رواه الإمام أحمد والدارمي وابن ماجه .
وقال أبو هريرةَ رضي اللهُ عنه : إِذَا حُدّثْتَ بِالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلا تَضْرِبْ لَهُ الأَمْثَالَ جَدَلاً . رواه عبد
الرزاق والترمذيُّ وابن ماجه .
وكان الأئمةُ يُعظِّمُون نُصوصَ الوَحْيَيْن
قال الإمامُ أبو حنيفةَ : إذا جاء عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلى
الرأسِ والعينِ !
وجاء رجلٌ إلى الإمامِ مالكٍ وسَأله عن مسألةٍ ، فقال له : قال رسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم كذا ، فقال الرّجُلُ : أرَأيتَ ؟ قال مالكٌ : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وقال الإمامُ الشافعيُّ : ما صَحَّ أَن رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَه ، لا يُقال فيه : لِمَ ، ولا : كيف ؟
وقال الإمامُ أحمدُ في بيانِ أصولِ السُّنَّةِ : الإيمانُ بالقَدَرِ خيرِه
وشَرّه ، والتصديقُ بالأحاديثِ فيه والإيمانُ بها ، لا يُقالْ : لِمَ ، ولا كيف
؟ إنما هو التصديقُ والإيمانُ بها ، ومَن لم يَعرفْ تفسيرَ الحديثِ ويَبْلغْه
عَقْلُه ؛ فقد كُفِيَ ذلك ، وأُحْكِمَ له ؛ فعليه الإيمانُ به والتسليمُ . اهـ
.
والسّنيُّ في عُرْفِ أهلِ العِلم : هو الْمُتَّبِعُ للسّنةِ ، الْمُقدِّمُ لها
على آراءِ الرِّجال .
قال الإمامُ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ خَفِيفٍ في " اعتقادِ التوحيدِ بإثباتِ
الأسماءِ والصفات " :
على المؤمنين خاصّتِهم وعامّتِهم قَبولُ كلِّ ما وَرد عنه عليه الصلاة والسلام
بِنَقلِ العَدْلِ عن العَدلِ حتى يَتّصلَّ به صلى الله عليه وسلم .
وقال ابنُ أبي زَمَنِين : اعلمْ رَحِمكَ الله أن السُّنَّةَ دليلُ القرآن ،
وأنها لا تُدرَكُ بالقياسِ ، ولا تُؤخَذُ بِالعُقولِ ، وإنما هي في الاتِّباعِ
للأئمةِ ، ولِمَا مَشَى عليه جُمْهورُ هذه الأمةِ . اهـ .
وذَكَر الإمامُ الذهبيُّ قولَ أبي قِلابةَ : إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ
بِالسُّنَّةِ ، فَقَال : دَعْنَا مِنْ هَذَا وَهَاتِ كِتَابَ اللهِ ؛ فَاعْلَمْ
أَنَّهُ ضَالٌّ .
ثم قال الإمامُ الذهبيُّ :
قُلْتُ أَنَا: وَإِذَا رَأَيْتَ المُتَكَلِّمَ المُبْتَدِعَ يَقُوْلُ : دَعْنَا
مِنَ الكِتَابِ وَالأَحَادِيْثِ الآحَادِ وَهَاتِ العَقْلَ ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ
أَبُو جَهْلٍ ، وَإِذَا رَأَيْتَ السَّالِكَ التَّوْحِيْدِيَّ يَقُوْلُ :
دَعْنَا مِنَ النَّقْلِ وَمِنَ العَقْلِ وَهَاتِ الذَّوْقَ وَالوَجْدَ ،
فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِبْلِيْسٌ قَدْ ظَهَرَ بِصُوْرَةِ بَشَرٍ ، أَوْ قَدْ حَلَّ
فِيْهِ ، فَإِنْ جَبُنْتَ مِنْهُ ، فَاهْرُبْ ، وَإِلاَّ فَاصْرَعْهُ ،
وَابْرُكْ عَلَى صَدْرِهِ ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ آيَةَ الكُرْسِيِّ، وَاخْنُقْهُ
. اهـ .
وقال العلاّمةُ الطِّيبِيُّ في شرحِ المشكاةِ : عَجِبتُ ممن يَتَسَمَّى
بِالسُّنِّيِّ وإذا سَمِعَ سُنّةً مِن سُنّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
وله رأيٌ رَجَّحَ رأيَه عليها ، وأيُّ فَرْقٍ بينه وبين الْمُبْتَدِعِ ؟ . اهـ
.
أيْ : أن السُّنِّيَّ يُقدِّمُ السُّنَّةَ على رأيِه وعلى آراءِ الرِّجالِ ،
والْمُبْتَدِعَ يُقدَّمُ رأيَه وآراءَ الرِّجالِ على السُّنَّةِ .
وكان الخلفاءُ يُشَدِّدُون على مَن عارَضَ السُّنَّةَ بِرَأيِه أو شَكَّكَ فيها
.
في مجلس هارُونَ الرَّشِيْد حَدَّثَ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيْرُ بِحَدِيْثِ "
احْتَجَّ آدَمُ وَمُوْسَى .. " ،
فقال رَجُلٌ شَرِيْفٌ مِن وُجُوه قُريش : أين لَقِي آدمُ موسى ؟ فَغَضِبَ
الرشيد ، وقال : النّطْعُ والسّيف ، زِنديقٌ واللهِ ، يَطعنُ في حديثِ رَسُولِ
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فما زال أبو معاوية يُسكّنُه ويقولُ : كانت مِنه
بادِرةً ، ولَم يفْهَم يا أميرَ المؤمنين ، حتى سَكّنَه . رواه الخطيبُ
البغداديُّ في " تاريخِ بغدادَ " .
والصَّحابَةُ رضي الله عنهم زَكّاهُم اللهُ وزكّاهُم رسولُه صلى الله عليه وسلم
، وأخْبَرَ اللهُ عزّ وجَلّ أنه رَضِيَ عنهم ورَضُوا عنه ، ولذلك اتّفقَ أهلُ
العِلْمِ على عَدَالَتِهم ، فإذا ذَكَروا الصحابي لم يَذكُروا ما يُذكَرُ في
حقِّ غيرِه مِن الجرحِ والتعديل ، وإنما يَكتَفُون بِقولهم : صحابي .
وهذه مَنْزِلةٌ عالية ، ورُتْبَة سَامِيَة ؛ فمَن الذي يُريدُ أن يَتعقّبَ
تَزْكِيَةَ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم ؟ ويَخرِقَ الإجماعَ على عَدالَةِ
الصَّحابَةُ رضي الله عنهم
ولذلك إذا ذَكَرْنا الصحابي قُلنا : رضي الله عنه .
فالصحابةُ رضي الله عنهم فوقَ النّقْد ، وفوقَ مَراتَبِ التعديل ، ولا يَنالُهم
أدْنَى جَرْحٍ في عَدالَتِهم .
ورَحِمَ اللهُ الأصمَعِيَّ حيثُ لم يُفسِّرْ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
، وهو إمامٌ في اللغةِ ، فقد سُئلَ عن حديثِ "
الجارُ أحقُّ بِصَقَبِه " ،
فقال : لا أدريْ ، ولكنَّ العَربَ تَزعمُ أنَّ الصّقَبَ اللّزِيقُ .
3 - عدمُ تعظيمِ شَعائرِ اللهِ ؛ فإنَّ تَوقيرَ العلماءِ مِن تعظيمِ ما
يَحمِلُونه مِن العِلْمِ الشّرْعِيِّ ، وما يَنْشُرونه مِن نصوصِ الوحيين .
قال القرطبيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ) الشَّعَائِرُ
جَمْعُ شَعِيرَةٍ ، وَهُوَ كُلُّ شيءٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ أَشْعَرَ
بِهِ وَأَعْلَمَ . اهـ .
وقد أحَالَ اللهُ على أهلِ العِلْمِ ، فقال : (وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ،
وبيَّن اللهُ أنَّ العلماءَ هُم الذين يَعلَمون مَقاصِدَ الشَّرْعِ ، فقال : (وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا) .
قال القرطبيُّ : أمَرَ اللهُ تَعَالى بِرَدِّ الْمُتَنازَعِ فيه إلى كتابِ
اللهِ وسُنّةِ نّبِيِّه صلى الله عليه وسلم ، وليس لغيرِ العلماءِ مَعرفةُ
كيفيةِ الرَّدِّ إلى الكتابِ والسنةِ ، ويدلُّ هذا على صحةِ كَونِ سُؤالِ
العلماءِ واجِبًا ، وامتثالِ فَتْواهُم لازِمًا . اهـ .
4 - الطّعنُ في الشريعةِ ، وَرَدُّ السُّنّةِ الصحيحةِ ، فإنَّ الذي يَنتقِدُ
العلماءَ يَطعَنُ فيما يَحمِلُونه مِن ميراثِ النبُوّةِ ؛ فإنَّ العلماءَ
هُم وَرَثَةُ الأنبياءِ ،
كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولَما قال المنافقون ما قالوه في الصحابةِ رضي الله عنهم كان استهزاءً بِما
يَحمِلُونه .
قال ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي
مَجْلِسٍ : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاءِ ؛ أَرْغَبَ بُطُونًا ،
وَلا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً ، وَلا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ ، فَقَالَ رَجُلٌ
فِي الْمَجْلِسِ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ ، لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ،
وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : فَأَنَا رَأَيْتُهُ
مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ،
تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ ، وَهُوَ يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّمَا
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (أَبِاللَّهِ
وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ
كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) .
رواه ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ في التفسير .
فالاستهزاءُ كان بِالصّحَابةِ ، لكن لَمّا كان الاستهزاء بهم لِمَا يَحمِلُونه
، رَجَعَ الاستهزاءُ على ما يَحمِلُونه ، وما يُؤمنون به ، ولذلك قال اللهُ عزّ
وجَلّ : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)
5 - إسقاطُ هيبةِ العُلماءِ ، والإنسانُ لا يَستَغْنِي عنهم في أخَصِّ أمُورِه
!
فلو احتاجَ إلى حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِفَرْجِه ، أو بِطَلاقِه وصِحّةِ نِكَاحِه
؛ لسَأل أهلَ العِلْم !
والإنسانُ عندما يُرَاجِعُ الطبيبَ أو المهندِسَ لا يُنازِعه في تخصصِه ، بل
يُسلِّمُ له ، ويَقبَلُ ما قالَه ؛ لأنه أعْلَمُ بِتَخَصُّصِه !
ولا أحَدَ يتكلَّمُ في التخصصات ِالعِلْمِيَّةِ التجريبيّةِ إلاّ مَن كان مِن
أهلِ التخصصِ ، أمّا العِلْمُ الشرعيُّ فكلُّ أحدٍ يتكلَّمُ بِما شاء ، كما
شاءَ ! كأنَّ العِلْمَ الشرعيَّ كلأٌ مباحٌ !
ورَحِمَ اللهُ الإمامَ مالكًا إذْ كان يَقولُ : لا أُوتَيَ بِرَجُلٍ غيرِ
عالِمٍ بِلُغَاتِ العَرَبِ يُفَسِّر كِتابَ اللهِ إلاَّ جَعَلْتُه نَكَالاً !
6 – التّعالُمُ ، وادِّعاءُ العِلْمِ ، وهذا مَسْلَكٌ مَذْمُوم .
وكان الصحابةُ رضي الله عنهم ومَن بَعدَهم مِن أهلِ العِلْمِ يَدْفَعُون
الفَتْوى ويَتَدَافَعُونَها ، وكثيرٌ مِن الْجُهّالِ يُسَارِعون فيها !
وقبل أيامٍ انْتَشَرَ مقطعٌ ينتقِدُ فيه صاحِبُه شَرْحَ أحدِ كِبارِ العلماءِ
لِحديثٍ صحيحٍ ؛ والنّقدُ ليس مُتوجِّهًا للعالِم بِقَدْرِ ما هو مُتوجِّهٌ
للسُّنّةِ ؛ لأنَّ العالِمَ يتكلَّمُ بِلِسَانِ الشّرْعِ ، وليس يَتكلَّمُ في
مسائلِ العِلْمِ بِالْهَوى ؛ هذا ما نَعرِفُه عن عُلَمَائنا ، وما نَحْسَبُهم
عليه مِن التقوى والوَرَع .
ولو أخطأَ العَالِمُ خطأً واضِحًا بيِّنًا ؛ لكان الواجِبُ صِيانةَ عِرْضِه ،
ومعرفَةَ قَدْرِه وحَقِّه علينا ، وتوقيرَ سِنِّه ، ففي الحديثِ : لَيْسَ
مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ
لِعَالِمِنَا .
رواه الإمام أحمد والحاكم .
ولو لم يَكُنْ في الشيخِ الجليلِ إلاّ كِبَرُ سِنِّه ؛ لَوَجَبَ احتِرَامُه ؛
لِقَولِه عليه الصلاة والسلام : مَنْ
شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
رواه عبد الرّزاق وأحمد والترمذي والنسائي ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
ولِقَولِه عليه الصلاة والسلام : إِنَّ
مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ : إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَحَامِلِ
الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ ، وَإِكْرَامَ ذِي
السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ .
رواه ابن المبارَك في " الزّهْد " وأبو داود ، وحسّنه الألباني والأرنؤوط .
وقرأتُ تَعليقًا لِشخصٍ مَجهولٍ تحتَ اسمٍ مُستعار : يَنتقدُ في كلامِه فَقِيهَ
الأمّة في هذا العَصْرِ شيخَنا العلاّمةَ الشيخَ ابنَ عثيمين رحمه الله ، ويقول
: أصلاً الشيخ لا يَفهَم معنى الصلاة !!
سبحان الله ..
إذا كان فَقِيهُ العَصْر لا يَفهَم معنى الصلاة ، مَن الذي يَفْهَمُه ؟
أيَفْهَمُه الْجُهّال ؟!!
خِتَامًا : الإعلاميُّ الذي يقولُ : لا أحدَ فوقَ النّقْد !
لا يَرضَى بِالنّقْدِ عندما يُنْتَقَدُ عَمَلُه الإعلاميُّ ، ولو كان هَابِطًا
، بل يُوصَفُ النّاقِدُ بأقبَحِ الأوصافِ ! وربما يُطعَن في دِينه ، أو تُتَهَم
نَوَاياه ! حتى لا يَجْرؤ أحدٌ على نَقْدِ أعمالِهم !