|
قال ابن القيم في النونية :
وهو العزيز فلن يُرَام جَنَابه ... أنَّى يُرَام
جناب ذي السلطان
إنّ كُلّ خَير ، بل كُلّ حَرَكة وسَكَنة ، وكُلّ غَمْضَة عين وانتباهتها ،
وكُلّ اخْتِلاجَة عرْق ، وكُلّ دَفْقَة دم ، وكلّ عافية وسِتْر ؛ هي مِن مِنَح
الجليل تبارك وتعالى .
وإذا كان ذلك كذلك فإن الوهاب الْمُعْطِي الجبار أحقّ مِن تأدّب العَبْد مع
جَنَابه .
وأبواب الأدب مع الله كثيرة
وإن مِن الأدب مع الله : الحياء مِنه سبحانه وتعالى .
ومِن الحياء مِن الله :
أن تستحي أن يَراك حيث نَهَاك
أو أن يفقِدك حيث أمَرَك .
فلا تمشي بك قَدَم إلى معصية ..
ولا يَتَأخَّر بك خَطْو إلى طاعة ..
لقد كان الرجل مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهم يُحمَل
ويُهادَى بين الرَّجُلين حتى يُقام في الصف ..
وضربوا أروع الأمثلة في الحياء مِن الله .
حَدَّث الإمام الزهري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يوما وهو يخطب :
أيها الناس استحيوا مِن الله ، فوالله ما خَرَجْت لِحَاجَة منذ بَايَعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أُرِيد الغَائط إلاَّ وأنا مُقنع رأسي حَياء مِن الله
.
والحياء مِن الله أن تستحيي مِن نَظَر الله إليك .. فتحفظ السَّمْع والبصر ..
والبَطْن والرأس .. والفَرْج ..
قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : استحيوا من الله حق الحياء . قالوا : يا
رسول الله إنا نَستحيي والحمد لله . قال : ليس ذاك ، ولكن الاستحياء من الله حق
الحياء أن تَحْفَظ الرأس وما وَعَى ، والبَطْن ومَا حَوى ، ولتذكر الموت
والْبِلَى ، ومن أراد الآخرة تَرَك زينة الدنيا ؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا مِن
الله حق الحياء . رواه الإمام أحمد والترمذي . وحسنه الألباني .
ورجّح الذهبي وقْف الحديث .
وقال عليه الصلاة والسلام : اسْتَحْيُوا مِن الله ، فإن الله لا يستحي مِن الحق
، لا تَأتوا النساء في أدْبارهن . رواه النسائي في الكبرى .
والحياء مِن الله إذا وُقِف الإنسان بين يديه وسأله عن أعماله .
كما قيل :
يا حَسرة العاصِين يوم مَعادهم *** ولو أنهم
سِيقُوا إلى الجناتِ
لو لم يكن إلاَّ الحياء من الذي ***سَتَر الذنوب لأكْثَروا الحسراتِ
قال ابن الجوزي : يا عظيم الجرأة يا كثير
الانبساط ، ما تخاف عواقب هذا الإفراط ؟ يا مؤثر الفَاني على الباقي غَلْطة لا
كالأغلاط ، ألَكَ صبر يُقاوم ألَم السِّياط ؟ ألَكَ قَدم يَصلح للمَشي على
الصراط ؟ أيُعْجِبك لباس الصحة ؟ كلاّ وثَوب البلاء يُخَاط . اهـ .
والحياء مِن الله ومِن خَلْقه مفتاح كل خير ..
قال عليه الصلاة والسلام : الحياء لا يأتي إلاَّ بِخَيْر . رواه البخاري ومسلم
.
وفي رواية لمسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحياء خَير كُله . قال
: أو قال : الحياء كُله خَير .
وحِين مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ
مِنْ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ .. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ
الإِيمَانِ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : مَرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رَجُل وهو يُعَاتِب أخَاه في
الْحَياء يقول : إنك لتستحيي ، حتى كأنه يقول : قد أضَرّ بِك ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : دَعْه ، فإن الحياء من الإيمان .
قال ابن حبان : الحياء مِن الإيمان ، والمؤمن في الجنة . اهـ .
وذلك لأن الحيي يستحيي مِن نَظَر الله إليه .
وكان بعضُ السَّلف يقول : أتراك تَرْحَم مَنْ لم تقرَّ عينيه بمعصيتك حتَّى
عَلِم أنْ لا عَين تراه غيرك؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول : خَفِ الله على قَدْر قُدْرته عليك ، واستحي منه على
قَدْر قُربه منك .
وقال بعضُهم : ابنَ آدم إنْ كنتَ حيث رَكبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ
ناظرةٍ إليك ، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ ، ولم تستحي منه حياءك
من بعض خلقه ، ما أنت إلاَّ أحدُ رجلين : إنْ كنت ظننتَ أنَّه لا يراك ، فقد
كَفَرتَ ، وإنْ كنت عَلِمْتَ أنَّه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه
لقد اجْتَرَأتَ عليه . نقله ابن رجب .
وقال ابن القيم عن الحياء : هو أصْل كُلّ خَير ، وذَهابه ذَهَاب الْخَير
أجْمَعه . اهـ .
وصَدَق رحمه الله فقد قال عليه الصلاة والسلام : الْحَياء والإيمان قُرِنا
جَميعًا ، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر . رواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح
على شرطهما . وصححه الألباني .
17/ رمضان / 1431 هـ