إن أعلى مقامات الأدب : الأدب مع الله تبارك وتعالى ، ومِن الأدب مع الله تعالى
: الأدَب مع كِتابه تعالى وتقدَّس .
ذلك أن القرآن هو كلام الله ، مِنه بَدأ ، وإليه يَعود .
وهو أعْظَم ما في الوجود .
وكثير مِن الناس يتعاملون مع القرآن مُعاملة جافة ، ملؤها الجفاء .. زيادة على
هَجْر القرآن .
ومِن الأدب مع القرآن :
1 - أن لا يُهْجَر ،
وذلك بِقراءته آناء الليل وأطراف النهار ، والعَمل به ، وتَحكيمه في دُنيا
الناس أفرادا وجماعات .
قال ابن القيم :
هَجْر القرآن أنواع :
أحدها : هَجْر سَمَاعه والإيمان به والإصْغَاء إليه .
والثاني : هَجْر العَمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .
والثالث : هَجْر تَحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدِّين وفُروعه .
والرابع : هَجْر تَدَبّره وتَفَهّمه ومَعْرفة ما أراد الْمُتَكَلِّم بِه منه .
والخامس : هَجْر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها ، فيطلب
شِفاء دائه مِن غيره ويَهْجُر التداوي به .
وإن كان بعض الهجر أهْون مِن بعض . اهـ .
وقال النووي : ينبغي أن يُحَافِظ على تلاوته ويُكْثِر منها ، وكان السلف رضي
الله عنهم لهم عادات مختلفة في قَدْر ما يختمون فيه ؛ فَرَوى ابن أبي داود عن
بعض السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة ، وعن بعضهم
في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة ، وعن بعضهم في كل ثمان ليال ،
وعن الأكثرين في كل سبع ليال ، وعن بعضهم في كل ستّ ، وعن بعضهم في كل خمس ،
وعن بعضهم في كل أربع ، وعن كثيرين في كل ثلاث .
وقال : والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ؛ فمن كان يَظهر له بدقيق
الفِكر لطائف ومَعَارِف فليقتصر على قَدْر ما يَحصل له كمال فَهم ما يقرؤه ،
وكذا مَن كان مشغولا بِنَشْر العِلْم أو غيره مِن مُهمات الدِّين ومصالح
المسلمين العامة فليقتصر على قَدْرٍ لا يَحصل بِسببه إخلال بِمَا هو مُرْصَد له
، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمْكَنه مِن غير خُروج إلى حدّ
المَلَل والْهَذْرَمَة . وقد كَـرِه جماعة من المتقدمين الْخَتْم في يوم وليلة
. اهـ .
2 – تَعَاهُد الفَم بالسِّوَاك عند قراءة القرآن ،
لقوله عليه الصلاة والسلام : طَهِّرُوا أفْوَاهَكم للقرآن . رواه البزار ، وقال
الهيثمي : رجاله ثقات ، ورواه ابن المبارك في الزهد . والحديث أورده الألباني
في الصحيحة .
قال البيهقي في تعظيم القرآن : تَنْظِيفُ الْفَمِ لأَجْلِ الْقِرآن
بِالسِّوَاكِ وَالْمَضْمَضَةِ ، وَمِنْهَا تَحْسِينُ اللِّبَاسِ عِنْدَ
الْقِرَاءَةِ ، وَالتَّطَيُّبُ . اهـ .
وكان الإمام مالك يَتَطَيَّب ويتجمّل عند التحديث بِحديث النبي صلى الله عليه
وسلم ، فالقرآن مِن باب أولى .
3 - أن لا تُقْطَع القراءة ، ولا يَتَشَاغَل القارئ بِغير التلاوة .
ومِن هَدي السَّلَف عدم قَطْع قِراءة القرآن .
روى البخاري مِن طَريق نَافِعٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ ،
فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى
إِلَى مَكَانٍ ، قَالَ : تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ ؟ قُلْتُ : لا . قَالَ :
أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ مَضَى .
وفي غَزوة ذات الرِّقَاع قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : من رجل يكلؤنا
؟ فانتدب رجل مِن المهاجرين ورجل من الأنصار ، فقال : كُونا بِفَمِ الشِّعب .
قال : فلما خَرَج الرَّجُلان إلى فَمِ الشعب اضطجع المهاجري ، وقام الأنصاري
يُصَلِّي ، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عَرف أنه رَبيئة للقَوم ، فَرَمَاه بِسَهم
، فَوَضَعه فيه ، فَنَزَعه ، حتى رماه بثلاثة أسهم ، ثم ركع وسجد ، ثم انتبه
صاحبه ، فلما عَرف أنهم قد نَذَرُوا به هَرَب ، وَلَمَّا رَأى المهاجري ما
بالأنصاري من الدمّ قال : سبحان الله ألا أنبهتني أوّل مَا رَمى ؟ قال : كنت في
سورة أقرأها فلم أحبّ أن أقطعها . رواه الإمام أحمد وأبو داود . وحسّنه
الألباني والأرنؤوط .
وفي رواية لأحمد : فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالأَنْصَارِيِّ مِنَ
الدِّمَاءِ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، أَلاَ أَهْبَبْتَنِي ؟ قَالَ : كُنْتُ
فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا
، فَلَمَّا تَابَعَ الرَّمْيَ رَكَعْتُ فَأُرِيتُكَ ، وَأيْمُ اللهِ ، لَوْلاَ
أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ ، لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ
أُنْفِذَهَا .
وقال النووي : ومما يُعْتَنَى به ويَتأكد الأمْر بِه : احترام القرآن مِن أمور
قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مُجْتَمِعين ؛ فمن ذلك : اجتناب الضحك
واللغط والحديث في خلال القراءة إلاَّ كلاما يُضْطَر إليه ، وليمتثل قول الله
تعالى : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ... ومن ذلك العبث باليد وغيرها ، فإنه يناجي ربه
سبحانه وتعالى ، فلا يَعبث بِيديه ، ومِن ذلك النظر إلى ما يُلْهِي ويُبَدِّد
الذِّهْن . اهـ .
أ–
أن لا يُوضَع شيء على المصحف ، فإنه يَعْلو ولا يُعْلَى عليه .
ونَقَل البيهقي عن الْحَلِيمي قوله : لا يُحْمَلَ عَلَى الْمُصْحَفِ كِتَابٌ
آخَرُ وَلا ثَوْبٌ وَلا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُصْحَفَانِ فَيُوضَعَ
أَحَدُهُمَا فَوْقَ الآخَرِ فَيَجُوز .
ب –
أن لا يُتناول باليَد اليُسْرى تكريما للمصحف ، فقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يُعجبه التيمن في تَنَعّلِه ، وترجّله ، وطُهوره ، وفي شأنه كلِّه . رواه
البخاري ومسلم .
قالت حفصة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه يَجْعَلُ يَمِينَهُ
لأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ ، وَوُضُوئِهِ وَثِيَابِهِ ، وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ ،
وَكان يَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ . رواه أحمد وأبو داود . وصححه
الألباني والأرنؤوط .
وأوْلَى وأعلى شأن الإنسان ما يتعلّق بِكتاب الله عَزّ وَجَلّ .
جـ –
أن لا تُمَدّ الأقدام باتِّجاه المصاحف .
قال شيخنا العثيمين رحمه الله :
لا شـك أن تعظيم كتاب الله عز وجل من كمال الإيمان ، وكمال تعظيم الإنسان
لِربِّـه تبارك وتعالى .
ومـدّ الرجل إلى المصحف أو إلى الحوامل التي فيها المصاحف أو الجلوس على كرسي
أو ماصة تحتها مصحف يُنافي كمال التعظيم لكلام الله عز وجل ، ولهذا قال أهل
العلم : إنه يُكره للإنسان أن يمدّ رجله إلى المصحف هذا مع سلامة النية والقصد
.
أما لو أراد الإنسان إهانة كلام الله فإنه يكفر ؛ لأن القرآن الكريم كلام الله
تعالى .
وإذا رأيتم أحدا قد مـدّ رجليه إلى المصحف سواء كان على حامل أو على الأرض ، أو
رأيتم أحدا جالسا على شيء وتحته مصحف ، فأزيلوا المصحف عن أمام رجليه أو عن
الكرسي الذي هو جالس عليه ، أو قولوا له : لا تمـدّ رجليك إلى المصحف .
احْتَرِم كلام الله عز وجل .
والدليل ما ذكرته لك مِن أن ذلك يُنافي كمال التعظيم لكلام الله ، ولهذا لو أن
رَجُلاً مُحتَرما عندك أمامك ما استطعت أن تمـدّ رجليك إليه تعظيماً له ، فكتاب
الله أولى بالتعظيم . اهـ .
د –
أن لا يُنظَّف الأنف حال القراءة مِن المصحف ، خشية أن يُصيب المصحف شيئا منه ،
ولو لم يُخْشَ مِن ذلك فإنه يجب احترام المصحف ، فإن مِن الناس مَن يضع المصحف
بين يديه مفتوحا ، ثم يأخذ المناديل ويُنظِّف أنفه فوق لمصحف ، وهذا في حقيقته
سوء أدب مع كتاب الله .
هـ -
أن لا يضع المصحف مقلوبا عند السجود ، فقد رأيت أحدهم مرة أراد أن يسجد للتلاوة
، فوضَع المصحف – وهو مفتوح – مقلوبا على الرف ، فأغلقت المصحف وَوَضَعْتُه على
الرف ، فغضب مني ، وسألني لِم فعلتُ ذلك ؟ فقلت : هذا امتهان وخلاف احترام
المصحف .
قال : هل عندك دليل ؟
قلت : نعم ، قول الله عَزّ وَجَلّ : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) والمصحف مِن أعظم شعائر الله .
وبعض الناس إذا انتهى مِن القراءة ألقى بالمصحف على الرف إلقاء ، وربما أحدث
صوتا ، وهذا خِلآف الأدب مع كتاب ربنا تبارك وتعالى .
و –
أن لا يُسْتَدْبَر المصحف ولا يُجتَاز مِن فوقه .
فإنك ترى في بعض المساجد مَن يجتاز مِن فوق المصاحِف ، خاصة إذا ضاق عليه الأمر
، وأراد الخروج ، أو التقدُّم إلى الصف الْمُقَدَّم .
وترى مِن يتقدَّم أمام المصاحف ويُصلِّي ويستدبر المصاحف بحيث تكون خلفه أو عند
قدميه عند السجود .