« ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه ، وطمست أعلامه ، وكان لكل زعيم فيه بدعة ،
ولكل عصر في وَهْيِهِ أثر » [1] ، كلمة عظيمة قالها إمام من أئمة عصره ، لو
كتبت على حد تعبير الأقدمين بماء الذهب ، لم يوفها ذلك حقها ، وهي كلمة واضحة
مفسرة لا تحتاج إلى مزيد شرح أو بيان ، والتاريخ البعيد والقريب ، والواقع
الحاضر المشاهد ، شاهد على صدق ذلك ؛ فمع التزام المسلمين في الصدر الأول
بالنظام السياسي الإسلامي [2] ، كان الدين قوياً وأحكامه محفوظة ، وأعلامه
عالية مرفوعة ، وبمرور الزمن بدأ معدل الصعود الإسلامي يتناقص لأسباب متعددة من
أهمها غياب سلطان الدين .
وسلطان الدين نوعان : نوع على القلوب ، ونوع على الجوارج يمثله النظام السياسي
الإسلامي وكان ذلك الغياب على مستويين :
1 -
المستوى العملي التطبيقي : إذ بدأ الحكم في الابتعاد شيئاًِ فشيئاً عن الالتزام
بالنظام السياسي الإسلامي ، حتى آل الأمر إلى الانقلاب الكلي على ذلك النظام
وحلول النظام العلماني محله على تعدد صوره وأشكاله .
2 -
المستوى العلمي النظري : حيث جُهل الكثير من أحكام هذا النظام وحدوده وصلاحياته
عند الساسة وصناع القرار ؛ فضلاً عن العامة ، فلم يعرفوا أصوله ومعالمه الرئيسة
، كما لم يعرفوا تفصيلاته وجزئياته أو هيئاته ومؤسساته .
وقد كان هذا الغياب على تلك المستويات مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم
: « لَتُنتقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة ؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي
تليها ؛ فأولهن نقضاً الحكم ، وآخرهن الصلاة » [3] .
و المسلمون اليوم مطالبون بإعادة النظام السياسي الإسلامي والعودة إليه ؛ وذلك
لا بد له من جهود قوية وعزمات ثابتة تتضافر على فعل ذلك ، منها جهود علمية
ودعوية تشرح هذا النظام وتبين معالمه وأسسه كما تبين أحكامه التفصيلية ، ومنها
جهود تطبيقية تقوم بالتمكين لهذا النظام وتطبيقه في الواقع ، وهذا المقال هو
جهد دعوي يقدم في سبيل بيان عدد من الخصائص العامة ، أو المعالم البارزة التي
يستند إليها هذا النظام الذي لم تعرف له الدنيا مثيلاً ، ولن تعرف طالما بقيت
بعيدة عن هداية الوحي المعصوم المتمثل بالكتاب والسنة النبوية .
* الخصائص التي يتميز بها النظام
السياسي الإسلامي :
- الأول : النظام السياسي نظام شرعي :
فهو ليس نظاماً وضعياً تواطأ على وضعه مجموعة من الناس أو فئة وفق مقاييسسهم
العقلية وتصوراتهم الشخصية أو خبراتهم التاريخية ، ويترتب على هذا الأصل عدة
أمور منها :
1 - استمداد هذا النظام في أصوله وفروعه من الشرع : فأصول هذا النظام وفروعه ،
أو قواعده وجزئياته ، أو هيئاته ومؤسساته إنما ترجع إلى الشرع وتستند إليه ،
ويستدل عليها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة النبوية .
2 - الكلمة العليا في النظام السياسي الإسلامي للكتاب والسنة : الكلمة العليا
في هذا النظام وفي المجتمع وكل شيء إنما هي لله تبارك وتعالى ، ومظهر ذلك
ودليله في الواقع : القبول والإقرار والتقيد بالشرع المنزل كتاباً وسنة ،
والانصياع له ، والدوران في فلكه ، وعدم الخروج عليه . قال الله تعالى : {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ( الأحزاب : 36
) . وفي الكتابات المعاصرة يختصر كثير من الكتاب تلك الجملة المطولة في لفظ
واحد للدلالة عليه ألا وهو لفظ « الحاكمية » وهذا اللفظ يناظر اصطلاح « السيادة
» الذي يستخدم في الدراسات القانونية الدستورية ، ومضمونها : تلك السلطة
المطلقة المتفردة بتقرير الحق والإلزام به ، والتي لها وحدها دون شريك الكلمة
العليا في أمر المجتمع والدولة ؛ بحيث لا توجد سلطة أخرى تساويها أو تدانيها ،
فضلاً أن تعلو عليها [4] .
3 - اشتمال الكتاب والسنة على أحكام النظام السياسي جميعها : فالكتاب والسنة
كافيان ومشتملان على جميع التشريعات والأحكام التفصيلية المحتاج إليها في
النظام السياسي الإسلامي ، وليس هناك من حاجة إلى غيرهما في تقرير ذلك وبيانه ؛
فالكتاب والسنة منفردان بذلك ، ولا يقبلان المزاحمة من مصدر آخر .
4 - الحقوق والالتزامات تقررها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة :
فتقرير الحقوق والالتزامات ، وعلاقة الراعي بالرعية ، وعلاقة الدولة المسلمة
بغيرها من الدول إنما تتم بواسطة الشريعة ، وليس لجهةٍ سلطانٌ أو حقٌّ في تقرير
تلك الحقوق والالتزامات ، أو تحديدها وتقييدها ؛ فضلاً عن تحويرها أو تغييرها
أو إلغائها .
5 - السلطة في النظام السياسي الإسلامي مستمدة من الشرع : أساس السلطة السياسية
في الدولة الإسلامية وحق الطاعة الممنوح للولاة ، إنما يرجع إلى الشرع ، ولا
يرجع إلى الأمة أو الشعب كما هو الحال في الأنظمة العلمانية التي تجعل الأمة أو
الشعب أساس السلطة السياسية في الدولة .
- الثاني : وجوب طاعة الأئمة والولاة في
غير معصية :
وهذا قد دل عليه أدلة كثيرة متنوعة من الكتاب والسنة ؛ نذكر من ذلك على سبيل
المثال قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب
وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ؛ فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » [5] .
ويترتب على ذلك أمور منها :
1 - وجوب طاعة الإمام فيما أمر به ونهى عنه ، وكذلك طاعة الولاة المعينين من
قِبَله .
2 - حرمة منازعة الإمام القائم بالشرع الأمرَ ، أو الخروج عليه بالسيف والسنان
.
3 - منع كل وسيلة تذهب بهيبة الإمام أو الولاة ، أو تفضي إلى توهين العمل
بطاعته واجتماع القلوب عليه .
لكن طاعة الإمام في النظام السياسي الإسلامي ليست طاعة مطلقة ، بل هي طاعة
مقيدة بطاعة الإمام لله والرسول واتباع الشرع المنزل وتحكيمه بين الناس ؛ ولذلك
فإن الشريعة تقر بحق المسلمين في نصح الولاة وإرشادهم إلى الخير وتحذيرهم من
الشر ، والإنكار عليهم وفق القواعد الشرعية التي قررها علماء السياسة الشرعية ،
كما تقر بحق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها في عزل ولاتها متى استوجب
الوالي ذلك على النحو المفصل في كتب الفقه ، مثل أن يطرأ على الوالي الكفر
والعياذ بالله . قال القاضي عياض - رحمه الله - فيما نقله عنه النووي : « أجمع
العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر أنعزل »
[6] . وقال ابن حجر : « ينعزل بالكفر إجماعاً ؛ فيجب عل كل مسلم القيام في ذلك
؛ فمن قوي على ذلك فله الثواب ، ومن داهن فعليه الإثم ، ومن عجز وجبت عليه
الهجرة من تلك الأرض » [7] .
- الثالث : التكامل بين الراعي والرعية
أو بين الحكومة والشعب :
الحكومة ردف للشعب ، والشعب ردف للحكومة في ظل النظام السياسي الإسلامي « وذلك
لأنهما متوازيان في الاتجاة نحو تحقيق المقاصد الشرعية ، ولذلك فهما معتبران
سوياً من الأمة ، ولا تقوم بينهما علاقة الترصد والتعارض التي تقوم بين الشعب
والحكومة في القانون الوضعي » [8] .
فالراعي والرعية ، أو الحكومة والشعب يؤمنون بعقيدة واحدة ، ويسعون لتحقيق هدف
واحد ، من خلال شريعة واحدة ، وهذا من شأنه أن يوجد قدراً كبيراً من التوافق في
الفكر والفهم ، وفي طريقة علاج الأمور ، وفي اختيار الوسائل المفضية إلى ذلك ،
ولا يوجد بينهم من الخلاف في هذه الحالة إلا ما لا بد منه من الاختلاف أو
التباين بين الناس في القدرة على الفهم والاستيعاب .
كما أن الجميع مطالبون بتنفيذ الأحكام الشرعية ، وتحقيق الأهداف التي دعت إليها
الشريعة ، كل حسب وضعه والصلاحيات التي منحتها له الشريعة ، وينشأ مما تقدم بين
الراعي والرعية علاقات الحب والمودة والرحمة ، والسعي المشترك والتعاون على
تحقيق الأهداف ، وهذا بعكس العلاقة بين الراعي والرعية في الأنظمة الوضعية ؛
فإنها علاقة قائمة على تقسيم المجتمع إلى فئات : حكومية ومعارضة ، وهمُّ كل فئة
أن تترصد للفئة الأخرى وتبحث عن أخطائها ونشرها بين الناس ، وإطلاق الشائعات ،
أملاً في المحافظة على السلطة أو الوصول إليها .
وسائل تحقيق التكامل بين الراعي والرعية
:
من دراسة النصوص الشرعية تظهر لنا ثلاث دوائر كبرى يتم من خلالها تحقيق ذلك
التكامل وهي :
الدائرة الأولى : الشورى :
ففي الشورى يتم عرض الآراء ودراستها ممن يحسنون ذلك في الأمور المشكلة ،
واختبارها لمعرفة كنهها ، واستخراج أفضلها وأنفعها وأيسرها وأقلها مؤونة ،
فيستشير الراعي أهل العلم والفقه والخبرة من رعيته ، وتبذل الرعية المستشارة
غاية جهدها في معاونة الراعي واستخراج أفضل ما تراه ، والراعي ينظر في كل تلك
الأقوال لا يغلِّب رأياً على رأي إلا لرجحانه عنده من جهة الشرع والمصلحة ،
والرعية تقبل ذلك منه لعلمها بنصحه لهم وإرادة الخير للمسلمين . قال الله تعالى
في وصف المؤمنين : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ( الشورى : 38 ) .
وفي الشورى تنصهر الرعية والراعي في بوتقة واحدة ، ولا يكون الجميع إلا جسداً
واحداً همه الوصول بالأمة في المسائل المعروضة إلى بر الأمان ، وتحقيق أعلى
المصالح .
الدائرة الثانية : النصيحة :
والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح إما بدلالته على ما ينبغي فعله وحضه عليه ،
وتيسير أسبابه والإعانة عليه ، وإما بدلالته على ما ينبغي تركه واجتنابه ، وحثه
على الابتعاد عن ذلك ، ومعاونته فيه .
والنصيحة تبذلها عامة الرعية لولاتهم ، كما يبذلها الولاة للرعية ؛ فالرعية
تنصح الراعي ، والراعي ينصح الرعية ، وهو واجب على الجميع ؛ ففي نصح الراعي
للرعية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من أمير يلي أمر المسلمين ، ثم
لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة » [9] . قال النووي - رحمه الله - :
« وفي هذه الأحاديث وجوب النصيحة على الوالي لرعيته ، والاجتهاد في مصالحهم ،
والنصيحة لهم في دينهم ودنياهم » [10] . وفي نصح الرعية للراعي يقول الرسول صلى
الله عليه وسلم : « الدين النصيحة . قلنا : لمن ؟
قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » [11] ، قال ابن حجر -
رحمه الله - : « والنصيحة لأئمة المسلمين : إعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به
، وتنبيههم عند الغفلة ، وسد خَلَّتهم عند الهفوة ، وجمع الكلمة عليهم ، ورد
القلوب النافرة إليهم ، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن » [12]
.
الدائرة الثالثة : الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر :
وهو الأمر بما أرشد الشارع إليه من قول وفعل ، والنهي عما حذر منه ، وهو يهدف
إلى نشر الخير وإذاعته ، وإشاعته ، والتضييق على المنكر وحصره ، ومن ثم إزالته
، وهو واجب يتكامل فيه الراعي والرعية لتحقيق الهدف المنشود من ذلك .
قال الله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } (
التوبة : 71 ) . وقال تعالى : { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَر } ( الحج : 41 ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرِ
الرعيةِ ولاةَ أمورهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر : « ستكون أمراء فتعرفون
وتنكرون ؛ فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع ، قالوا : أفلا
نقاتلهم ؟ قال : لا ؛ ما صلوا » [13] . وقد بوَّب النووي على هذا الحديث ونحوه
« باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع ، وترك قتالهم ما صلوا ونحو
ذلك » [14] . فالجميع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تكميلاً للخير وتقليلاً
للشر في سعي دائب نحو هدف مشترك يسعى الجميع لتحقيقه .
فهذه الدوائر الثلاث يعمل من خلالها ذلك الأصل ، ويؤلف بينها في نسيج واحد ،
وكل واحدة من هذه الدوائر لها أحكام تفصيلية كثيرة خاصة بها ، ليس المقام مقام
بسطها والحديث عنها .
- الرابع : التوازن بين الحكومة والرعية
:
الحكومة قوة بما تملكه من الجيوش والعتاد العسكري ، وبما تملكه من حق الطاعة
على الرعية . والرعية قوة بما تملكه من الكثرة العددية والقدرة على التحرك فيما
بينها ، وبعض هذه القوى أكبر من بعض وأضخم ، ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان
، والأحوال المحيطة ، وقد يحدث تحت تأثير تلك القوة المتزايدة لأحد الطرفين على
الآخر ، أن يطغى الطرف الأقوى على الطرف الأقل قوة ؛ لذا كان من خصائص هذا
النظام الرباني إحداث التوازن بين القوى المكونة للأمة .
دلائل ومظاهر التوازن في النظام السياسي
الإسلامي :
1 - ثبات التشريع الإسلامي :
الأحكام الشرعية في الإسلام ثابته ثبات الطود الأشم ، لا تقبل التعديل أو
التحوير ، أو التبديل أو الإلغاء من قِبَل آية فئة من الناس سواء أكانوا حكاماً
أو محكومين ، أكثرية كانوا أو أقلية ، مما يمنع أي قوة من قوى المجتمع من
استخدام نفوذها أو ثقلها في المجتمع في إحداث تشريعات جديدة أو تغييرات في
التشريعات الموجودة تدعم بها أوضاعها ، وتضعف الآخرين أمامها ، بعكس النظم
الوضعية ( الديمقراطية ) حيث التشريع فيها للبشر ، فيملك الحزب الحائز على
الأغلبية في المجلس النيابي ( البرلماني ) إحداث تشريعات جديدة ، أو تغيير
تشريعات قائمة يدعم بها أوضاعه أو يضعف بها معارضيه .
2 - عدم جواز تعطيل الشريعة :
فالتشريع الإسلامي دائم لا يجوز تعطيله بصورة دائمة ، أو تعليق العمل به مدة من
الزمن تحت أي ظرف من الظروف ، أو مسمى من المسميات ، مما يمنع أي قوة من قوى
المجتمع من التفلت من الأحكام الشرعية وعدم التقيد بها .
3 - كفالة شرعية النظم واللوائح :
قد يحدث في بعض الظروف أن تتمكن قوة من قوى الأمة من استحداث تشريعات تخدم
مصالحها ، وتكرس بها من وضعها ، مما يضعف قوة باقي القوى في المجتمع ؛ لذا فإن
الشريعة قد كفلت شرعية جميع النظم واللوائح التي يجري العمل بها بحيث يبطل كل
نظام أو تشريع أو لائحة مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع ، وذلك أن كل ما
خالف الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو منقوض ، وعلى القاضي نقض هذه التشريعات
والنظم واللوائح إن وجدت ؛ وقد دل على ذلك أدلة كثيرة ذكر بعضاً منها الإمام
البخاري في صحيحه ، ثم بوب عليها بقوله : باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ
خلاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير علم فحكمه مردود » [15] . فنقض
التشريعات أو الأنظمة التي قد تسنها الحكومات مخالفة للأحكام الشرعية يمثل
توازناً بين الحكومة والرعية .
4 - التحكيم بين الحكومة والرعية في
مسائل النزاع :
قد ينشأ بين الأمة أو جزء منها وبين الحكومة أو السلطة نزاع ، بحيث يظن كل فريق
من المتخاصمين أن الحق معه وأن الأدلة الشرعية تصوب موقفه ، وقد يتمسك كل فريق
بموقفه ولا يسلم للآخر بموقفه ، وهذه المشكلة يلجأ النظام السياسي الإسلامي إلى
حلها عن طريق التحكيم أولاً ، فتتكون لذلك محكمة بين الطرفين المتنازعين على
وفق الكتاب والسنة ، وعلى الطرفين أن يقبلا بما انتهت إليه المحكمة ، والأصل
الشرعي لهذه المحكمة هو قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( النساء : 59 ) . والرد
إلى الله سبحانه وتعالى يكون بالرجوع إلى كتابه والاحتكام إليه ، والرد إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته - بأبي هو وأمي - يكون بالرجوع إلى سنته
والاحتكام إليها ، ومن هذا الرد إلى الكتاب والسنة تنشأ تلك المحكمة المعنية
بالفصل في النزاع الذي قد ينشب بين الراعي والرعية .
والأصل التاريخي العملي من سير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم
القدوة والأسوة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، تلك المحكمة التي تكونت
للفصل فيما نشب بين الحكومة ممثلة في علي بن أبي طالب الخليفة الراشد - رضي
الله عنه - ، وبين بعض الأمة ممثلة في معاوية - رضي الله عنه - ومن معه ، فيما
عرف بحادثة التحكيم المشهورة ، وهذه المحكمة لا يشترط فيها أن تكون ذات تشكيل
ثابت دائم ؛ فإن هذا مخالف للغرض من إنشائها ، بل يتم تشكيلها فقط عن الحاجة
إليها ؛ حيث يختار كل طرف من المتنازعين قضاة من قِبَله من أهل العلم والدين ،
ثم تنفضُّ المحكمة بعد صدور الحكم ؛ وذلك لانتهاء السبب الداعي إلى تشكيلها ؛
فلا يحكم أحد طرفي النزاع على الطرف الآخر في تلك الحالات ؛ لأن ذلك سوف يخل
بالتوازن بين قوى الأمة .
5 - كفالة حق المسلم في اختياراته
الفقهية :
تكفل الشريعة الإسلامية للمسلم الحق في الاقتناع بأي من الأقوال الفقهية
السائغة ؛ فله أن يسأل من يثق بعلمه ودينه ، ويكوِّن قناعته الشخصية وأفكاره
الخاصة ، فيما يعن له أو لمجتمعه من أمور أو مشكلات ، طالما كان ذلك في إطار
النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والأحكام المجمَع عليها ؛ فأهل السنة لا
يلزمون بمسائل الاجتهاد ، ولا يجبر المسلم على أن يرى ما تراه السلطة ، طالما
كان الرأي الذي اختاره مما يسوغ القول به في الشرع ، بل للمسلم الحق في إعلان
رأيه الذي اختاره وشرحه للناس والدعوة إليه والعمل على نشره ، طالما أنه لم
يخرج بذلك على الجماعة ولم يشق عصا الطاعة ، والأدلة على ذلك كثيرة ، منها ما
أخرجه الدارمي بسنده من طريق الأوزاعي : حدثني أبو كثير وهو مالك بن مرثد حدثني
أبي قال : « أتيت أبا ذر ، وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع الناس عليه
يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، ثم قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ فرفع رأسه
إليه ، فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصَّمصامة على هذه وأشار إلى قفاه
ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ
لأنفذتها » [16] . قال ابن حجر - رحمه الله - : « رويناه في الحلية من هذا
الوجه ، وبين أن الرجل الذي خاطبه من قريش ، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان -
رضي الله عنه - ، وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله
تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة } ( التوبة :
34 ) . فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وقال أبو ذر : نزلت فيهم وفينا
؛ فكتب معاوية إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي
ذر إلى الرَّبَذَة - بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات ، رواه
النسائي ، وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا
؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه
كما تقدم ، ولعله أيضاً سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه » [17] .
ومنها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله
عنهما - قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ،
فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فقالوا : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتل ويأسر ،
ودفع إلى كل رجل منا أسيره ، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره ، فقلت : واللهِ !
لا أقتل أسيري ، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره . فذكرنا ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم فقال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين » [18] .
وبوب عليه البخاري بقوله : إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد . قال
ابن حجر : أي مردود ، ثم قال : والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم
إني أبرأ إليك مما صنع خالد » يعني من قتله الذين قالوا : صبأنا قبل أن
يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول ؛ فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه
في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين [19] .
ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال : ( شهدت عثمان وعلياً -
رضي الله عنهما - وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي أهلَّ
بهما لبيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول
أحد ) [20] . قال ابن حجر - رحمه الله - : ( وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد
إشاعة العالِمِ ما عنده من العلم وإظهاره ، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في
تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين ، والبيان بالفعل مع القول .. إلى
أن قال : وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بتقليده ، لعدم إنكار عثمان على
علي ؛ ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك ) [21] . وهذا الأمر لم يكن حالة فردية
بل كان مسلكاً عاماً عندهم ، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك . وينبغي هنا التفريق
بين حق المسلم في اختياره الفقهي لأي من الأقوال الفقهية السائغة ، وبين ما إذا
أخذت الحكومة الشرعية برأي أو قول آخر من الأقوال الفقهية السائغة أيضاً في
مسألة تنظيمية أو إدارية ؛ فهنا يجب على المسلم الطاعة في تنفيذ العمل المنوط
به المترتب على تلك المسألة ؛ فإن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة ها هنا ، وإن
كان لا يجب عليه الاعتقاد بصواب ذلك القول أو الاعتقاد بصواب رأي السلطة في تلك
الحالة .
- الخامس : واحدية الأمة وواحدية
القيادة العليا .
الأمة الإسلامية مهما تعددت أجناسها ، واختلفت لغاتها ، وتنوعت ألوانها ،
وتناءت ديارها ، وتتابعت أجيالها ، هي أمة واحدة يربط بين أفرادها جميعاً رابط
العبودية الحقة الخاصة لله الواحد القهار . قال الله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (
الأنبياء : 92 ) . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسيرها : ( دينكم دين
واحد ) [22] . وذلك أن الدين هو أعظم ما يوحد بين الناس ويجعل منهم أمة واحدة
متماسكة . قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا } ( آل عمران : 103 ) . قال ابن كثير - رحمه الله - ( أمرهم
بالجماعة ، ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفريق
، والأمر بالاجتماع والائتلاف ) [23] . وقال صلى الله عليه وسلم : « هذا كتاب
من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ، وأهل يثرب ومن تبعهم
فلحق بهم وجاهد معهم ، أنهم أمة واحدة من دون الناس » [24] .
ويترتب على ذلك أمور منها :
1 - لا يجوز تفريق الأمة أو تمزيقها تحت أي من المسميات .
2 - مناصرة المسلمين في كل مكان .
3 - حرمة إعانة الكفار على المسلمين .
وأما واحدية القيادة العليا ، فقد دل عليها كثير من النصوص الشرعية منها قوله
صلى الله عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » [25] . قال
النووي - رحمه الله - : ( ومعنى هذا الحديث : إذا بويع لخليفة بعد خليفة ؛
فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها ، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ،
ويحرم عليه طلبها ؛ إلى أن قال : واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد
لخليفتين في عصر واحد ) [26] . فالخليفة الصالح للخلافة الذي اختاره أهل الحل
والعقد هو الشخص الذي تناط به السلطة السياسية في ديار الإسلام .
ويترتب على ذلك أمور منها :
1 - منع ما يسمى بالقيادة الجماعية للدولة .
2 - منع توزيع السلطة على عدة هيئات أو مؤسسات ؛ بحيث تستقل كل واحدة منها بجزء
من السلطة .
3 - بيان منزلة الهيئات والمؤسسات المعاونة للإمام ومكانتها في النظام السياسي
الإسلامي .
4 - عدم جواز تقسيم دار الإسلام إلى دويلات يستقل بحكم كل واحدة منها وال من
الولاة بحيث لا تكون هناك إمارة عامة يرتبط بها أولئك الولاة .
- السادس : غاية النظام السياسي
الإسلامي صلاح الدنيا وفلاح الآخرة :
الحياة في عقيدة المسلم تنقسم إلى جزأين : جزء صغير في الدنيا ، وجزء لا نهاية
له في الآخرة ؛ من أجل ذلك ؛ فإن عناية النظام السياسي الإسلامي بحياة المسلم
لا تقتصر على ذلك الجزء الصغير الذي هو في الدنيا ، بل همه الأكبر تلك الحياة
التي لا تنتهي ؛ فالغاية لا تقتصر على صلاح الدنيا وعمارتها وتحقيق رفاهية
المجتمع كما هو الحال عند الذين لم يعرفوا من الحياة إلا الجزء الصغير وهو
الحياة الدنيا ، بل يضيف النظام السياسي الإسلامي إلى ذلك عمارة الآخرة ، بل
يجعل ذلك نصب عينيه ؛ إذ هو المقصود الأسمى من وجوده .
لذا فإن من أهم واجبات النظام السياسي الإسلامي :
1 - حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأئمة .
2 - حفظ الشريعة والعمل بها وتحكيمها .
3 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة [27] .
وبعد : فهذه جملة من الخصائص العامة والمعالم البارزة في نظامنا السياسي
الإسلامي تحقق بها الأولون ففازوا وسعدوا وسادوا الدنيا شرقاً وغرباً ، ونحن
الآن في هذه المرحلة الحرجة التي تكالب فيها أعداؤنا علينا من عُبَّاد الصليب
والبقر والوثن ، أحوج ما نكون للعودة السريعة إلى هذا النظام وإعادته لتحقيق
الصلاح في الدنيا والفوز في الآخرة ، وما أصدق قول من قال : لن يصلح آخر هذه
الأمة إلا بما صلح عليه أولها .
________________________
(1) أدب الدين والدنيا ، أبو الحسن الماوردي ، ص 115 ، وهيه : ضعفه .
(2) النظام السياسي الإسلامي يعرَّف بأنه الهيئة الكلية المكونة من مجموعة
الأحكام الشرعية وما ارتبط بها من تنظيمات وهيئات ومؤسسات خاصة بأحكام الدولة
الإسلامية من حيث إقامتها وإدارتها وتحقيق غايتها ، سواء منها الأحكام الكلية
والقواعد العامة ، أو الأحكام الفرعية الجزئية التي جاءت بها نصوص الكتاب
والسنة ، أو دلت عليها أو استنبطت منها بطرق الاستنباط المعروفة في أصول الفقه
، تحطيم الصنم العلماني ، محمد بن شاكر الشريف ، ص 44 .
(3) أخرجه أحمد في المسند (5/251) وقال الأرناؤوط : إسناده جيد ، و ابن حبان في
صحيحه (15/ 111) و الحاكم في المستدرك (4/104) وقال صحيح الإسناد .
(4) انظر في تعريف السيادة : تحطيم الصنم العلماني ، محمد بن شاكر الشريف (ص
49) ومراجعه في ذلك .
(5) أخرجه البخاري (13/130 فتح الباري) .
(6) شرح النووي (12/317 318) .
(7) فتح الباري (13/132) .
(8) مجلة المسلم المعاصر العدد 15 (ص 172) د / مصطفى كمال وصفي .
(9) أخرجه مسلم (12/297 شرح النووي) والبخاري (13/135 فتح الباري) .
(10) المرجع السابق (12/297 - 298) شرح النووي .
(11) أخرجه مسلم (12/297 - 298) شرح النووي .
(12) فتح الباري (2/167) .
(13) أخرجه مسلم (12/338) شرح النووي .
(14) المرجع السابق .
(15) فتح الباري (13/329) .
(16) سنن الدارمي (1/146) ، وقد علق البخاري في صحيحه من قول أبي ذر رضي الله
عنه : لو وضعتم ، إلى آخره (1/192 فتح الباري) ، والصمصامة : السيف الصارم الذي
لا ينثني .
(17) فتح الباري (1/194) .
(18) أخرجه البخاري (13/193) فتح الباري .
(19) فتح الباري (13/193 - 194) .
(20) أخرجه البخاري (3/493) فتح الباري .
(21) فتح الباري (3/497 - 498) .
(22) تفسير ابن كثير (2/582) .
(23) تفسير ابن كثير (2/582) .
(24) مجموعة الوثائق السياسية ، محمد حميد الله ، (ص 10) .
(25) أخرجه مسلم ، (12/337) شرح النووي .
(26) شرح النووي ، (12/321) .
(27) ينظر في الأحكام السلطانية ، (ص 17/18) لمعرفة باقي الواجبات .