الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وسلم ، أما بعد :
فإن جمهرة الناس ينظرون إلى قوى البغي والعدوان الممثلة اليوم في أمريكا
وحلفائها على أنها قوى شريرة تمتلك المال والعتاد لإهلاك الحرث والنسل ، وأن لا
أحد على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول قادر على أن يوقف إرهاب تلك القوة
التي تمتلك إمكانات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية .
وينقسم الناس إزاء ذلك إلى فئات متعددة ؛ فمنهم الذي يبادر ويسارع في استرضاء
أمريكا بتنفيذ سياساتها وإعطائها ما تريد ؛ على أمل أن تتفادى الانتقام
الأمريكي أو الضربة القاتلة ، { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ
} ( المائدة : 52 ) ، ويجلس فريق آخر يائساً بائساً حزيناً كئيباً لا يرى في
الخلاص من هذا المأزق أملاً ، فيجلس ينتظر متى يحين دوره كما تبقى الشياه تنتظر
سكين الجزار ، ويبقى فريق ثالث يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً حقيقياً
وصادقاً ، يؤمنون بما وعد الله ورسوله ، ويعلمون السنن التي يجريها الله تعالى
في خلقه ، فهم يعملون بها ويتصرفون من خلالها ، ويغالبون قدراً بقدر حتى يأتي
نصر الله الذي وعد عباده المتقين : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } ( المائدة : 52 ) .
إن علو أمريكا وحلفائها من قوى الشر والطغيان ؛ إنما هو دورة من دورات الزمن ،
وإن الزمن لن يقف عند هذا الحد ، وإن التاريخ لن ينتهي بهذا المشهد بل ستمر
دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) .
من كان يظن عندما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد الله
العلي الكبير ، ونبذ الشرك وعبادة ما سوى الله تعالى ؛ بين ظهراني مشركي مكة
وساداتها ، واشتداد أذى صناديد كفار قريش لمن آمن من المسلمين ؟!
من كان يظن أن بلال بن رباح ذلك العبد الأسود الحبشي الذي لا قيمة له في نظر
المشركين ، والذي كان يُعذَّب في وقت الظهيرة في بطحاء مكة الملتهبة ، من كان
يظن أنه سيرقى يوماً ما على ظهر الكعبة في وجود أشراف قريش وسادتها وهم ينظرون
إليه ولا يملكون إلا النظر ، وهو يردد بصوته الجهوري الندي وهو آمن ما يكون :
الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ...
؟!
هذه صورة وقعت في الماضي وغيرها كثير لم يكن أحد يتخيل حدوثها في ظل موازين
القوى المختلفة بين الفريقين ، ففريق قوي مسيطر يملك كل شيء ، وفريق آخر ضعيف
مستعبد لا يملك شيئاً ، ومع ذلك فقد حدث الذي حدث ، وسيحدث من مثله ما شاء الله
أن يكون ، يدرك ذلك المتقون المؤمنون ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم
لأصحابه في مكة قبل الفتح ، عندما قال له بعضهم من شدة ما يلاقي من الأذى ولا
يجد ما يكف به ذلك : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ؟
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : « والله ! ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، أو الذئب على غنمه ، ولكنكم
تستعجلون » [1] .
فهذا الصحابي لما رأى من شدة التباين في موازين القوى بين معسكر الإيمان الضعيف
مادياً في ذلك الزمان ، وبين معسكر الكفر القوي مادياً ، ورأى من خلال المقاييس
والحسابات المادية والتصورات العقلية أنه ليس بإمكان المسلمين النصر على العدو
، ورأى أن ذلك لا يمكن حدوثه إلا من خلال عقوبة إلهية ؛ طلب من الرسول صلى الله
عليه وسلم الدعاء والاستنصار ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا
التصور الذي قد يدفع بعض الناس إلى الإحباط وفقدان الأمل ؛ يتمثل في أمرين :
الأول : التبشير بالنصر والتمكين ؛ وبغلبة الحق وأهله ، واندحار الباطل وجنده :
« والله ليتمن هذا الأمر » .
الثاني : دعوته لهم بعدم الاستعجال ، حيث ينبغي عليهم الصبر والتحمل والعمل
والجد والاجتهاد والجهاد : « ولكنكم تستعجلون » .
وهذا ما ينبغي علينا فعله اليوم إزاء تكبر الأعداء وطغيانهم ؛ أن نبشر قومنا
بأن النصر حليفهم وإن طال الزمان ، وأن على الباغي تدور الدوائر ، وأن ندعوهم
إلى الإيمان الصادق والعمل الصالح ، والجد والاجتهاد والجهاد ، {
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة } ( الأنفال : 60 ) ،
والرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه هذا ينطلق من السنّة القدرية المكنونة في
قوله تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس }
( آل عمران : 140 ) ؛ أي أن النصر والغلبة في الحروب تكون تارة للمؤمنين على
الكافرين ، وتارة للكافرين على المؤمنين ، وكل ذلك يجري بأسبابه التي قدّرها
الله تعالى في إطار المشيئة الربانية التي تحوي حِكَماً عديدة من وراء علو
الكافرين أحياناً وتسلطهم على المسلمين .
* أسباب إدالة الكافرين على المسلمين :
تجتمع أسباب إدالة الكافرين على المسلمين - أي غلبة الكافرين للمسلمين - في
كلمة واحدة ؛ وهي : ( معصية المسلمين ربهم ) ، فمتى عصى المسلمون ربهم ،
وانتشرت بينهم المعاصي بغير نكير منهم ، أو بنكير ليس فيه تغيير ؛ عاقب الله
المسلمين بذلك ، وأظهر عليهم الكافرين جزاء ما فعلوا ، وقد تبين من النصوص
الشرعية أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم مهما كانت قوة العدو وعدده
وعدته ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار ؛ إذا كان المؤمنون صادقين
عاملين بما يجب عليهم ، تاركين لما نُهوا عنه ، قد أخذوا من أسباب القوة ما كان
في طاقاتهم ووسعهم ، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها ، وقد
قال الله تعالى مبيناً ذلك : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( المجادلة : 21 ) ، وقال
سبحانه : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ } ( الصافات :
173 ) ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ( غافر : 51 )
، والآيات في ذلك كثيرة .
وكان عمر - رضي الله عنه - يحذر جيوشه المنطلقة للقتال في سبيل الله من الوقوع
في المعاصي ، ويقول لهم : « إن أهم أمركم عندي الصلاة » [2] ، ويبين ابن رواحة
- رضي الله عنه - أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة ، وإنما
ينتصرون بطاعة المسلمين لله ، ومعصية الكافرين لله ، ويقول عندما استشاره زيد
في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة : « لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة ،
والرأيُ المسير إليهم » [3] .
وقد كانت الجيوش الإسلامية التي يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف تقاتل
الجيوش الكافرة التي تربو على مائتين وخمسين ألفاً ، ثم يكون النصر حليف
المسلمين ، { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ } ( البقرة : 249 ) ، ثم يعقب الله على ذلك بقوله : {
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، والصبر هنا ، وفي مثله من المواضع ،
ليس هو الصبر الذي يفهمه كثير من الناس اليوم بمعنى الإذعان للواقع والاستكانة
للظلمة المتجبرين ، فإن من كان هذا حاله فإن الله لا يكون معه ، وإنما الصبر
المراد هنا هو حبس النفس عن الجزع عند ملاقاة العدو ، والثبات على الحق ، وعدم
التخلي عنه أو التحايل عليه ، وتحمل المشاق في الدعوة إلى الله والعمل الصالح
رجاء ما عند الله من المثوبة [4] ، وقد بيَّن أهل العلم أن النصر والظفر قرين
الطاعة .
قال الزجاج : « ومعنى نداولها : أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا
عصى المؤمنون ، فأما إذا أطاعوا فهم منصورون » [5] .
وقال القرطبي : « { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس
} ( آل عمران : 140 ) ؛ قيل هذا في الحرب تكون مرة للمؤمنين لينصر الله دينه ،
ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ؛ ليبتليهم وليمحص ذنوبهم ، فأما إذا لم يعصوا
فإن حزب الله هم الغالبون » [6] .
ومن هنا يتبين أن الجيش المقاتل في سبيل الله عليه أن يحرص على الطاعات والبعد
عن الوقوع في المعاصي ؛ مثل أو أكثر مما يحرص على امتلاك السلاح المتقدم ، فإن
السلاح المتقدم بيد العاصي الخوار الجبان أقل غنى من السلاح العادي بيد الطائع
القانت لربه ، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى
وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً } ( الأنفال : 17 ) .
* الحكمة من إدالة الكافرين على المسلمين :
ولله سبحانه وتعالى في ذلك حكم عظيمة ، ظهر أكثرها فيما ورد من الآيات التي
عالجت غزوة أحد ، والتي ظهر فيها الكفار على المسلمين بسبب معصيتهم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم لا بسبب ضعفهم أو قلّتهم ، قال الله تعالى : { أَوَ
لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } ( آل عمران : 165 ) ، وقال
سبحانه : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم
مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } ( آل عمران : 152 ) ، فبين
أن ما لحق بهم كان لمعصيتهم بعد ما لاحت بشائر النصر ، وقد ذكر ابن القيم -
رحمه الله - ما فهمه من الحكم المتعلقة بمداولة الأيام بين الناس في كتابه (
زاد المعاد ) ، نذكرها مختصرة مع زيادات قليلة تناسب المقام ، فمن الحكم
والغايات المحمودة في ذلك : تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع
، وأن هذا أشد عليهم من أسلحة أعدائهم . ومنها : أن النصر لو كان للمسلمين في
كل مرة دخل معهم الصادقون وغيرهم ولم يتميز المؤمن حقاً من غيره .
ومنها : أنه لو انتُصر عليهم دائماً وكانوا على مر الزمان مقهورين لم يحصل
المقصود من البعثة والرسالة ، وهو إظهار الحق وإقامة الحجة على الناس .
ومنها : فضح المنافقين وإظهارهم للناس حتى يحذروهم ، وحتى يستقيم الصف بخلوّه
منهم ، وذلك أن المنافقين عند هزيمة المسلمين يظهرون ما كانوا يكتمون ويصرحون
بما كانوا يلوحون ، ومن هنا يدرك المسلمون أن لهم عدواً من أنفسهم يعيش معهم
وبين ظهرانيهم لا يفارقهم ، فيستعدون لهم ويحذرون منهم ، وهذا من سنة الله
تعالى أنه لا يترك المؤمنين مختلطين بالمنافقين من غير أن يُقدِّر امتحاناً أو
بلاء تتميز به الصفوف ، قال الله تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ } ( آل عمران : 179 ) .
ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في الضراء كما هي في السراء ، وفيما
يكرهون كما فيما يحبون ، فإن المسلم إذا ثبت على الطاعة والعبودية في السراء
والضراء وفيما يحب وفيما يكره ؛ كانت عبوديته حقة ، وليس كمن يعبد الله على حرف
واحد من السراء والنعمة والعافية . ومنها : أن الله لو نصر المؤمنين في كل موقف
وكل موقعة فلربما طغت نفوس أكثر الناس ، وبغوا في الأرض ، ووقع في نفوسهم أن
النصر من عندهم وليس من عند الله . ومنها : أنه إذا امتحنهم بالهزيمة ذلوا
وانكسروا وخضعوا وابتهلوا إلى الله وتضرعوا ، فيستوجبون بذلك من الله النصر
والعز . ومنها : أن بلوغ الدرجات العالية في الجنة لا تنال إلا بالأعمال
العظيمة ، ومن الناس من لا تبلغ أعمالهم تلك المنازل فيقيض الله لهم من أسباب
الابتلاء والامتحان ما يرفع به درجاتهم . ومنها : أن الله يبلغ بعضاً من عباده
درجة الشهادة التي هي من أعلى مراتب الأولياء ، ولا تنال هذه الشهادة إلا
بتقدير الأسباب المفضية إليها . ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك
أعداءه ويمحقهم ؛ قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها الهلاك والمحق ، ومن
أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ، ومحاربتهم وقتالهم
والتسلط عليهم ، فيكون ذلك سبباً في تعجيل العذاب في الدنيا للكفار وهلاكهم ،
كما قال تعالى في بيان الحكمة من غلبة الكفار : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ( آل عمران : 141 ) ، قال
ابن كثير - رحمه الله - : « وقوله { وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ؛
أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم
» [7] . ومنها : تنقية المؤمنين وتخليصهم من الذنوب وآفات النفوس التي قلّما
ينفك منها الناس ، كما قال تعالى : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا } .. إلى غير ذلك من الحكم والغايات المحمودة [8] .
* وسائل دفع غلبة الكافرين :
من أول هذه الوسائل : الإيمان الصادق والاعتقاد السليم ، الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ إيماناً لا تخالطه شائبة
، إيماناً مبرءاً من البدع والقصور ، إيماناً يبعث على العمل الذي تتحق به
المنجزات . ومنها : الحرص على الطاعة والبعد عن المعصية ، فإن هذا أولى ما
تُوجه إليه الهمم بعد الإيمان ؛ بحيث يكون الغالب على جماعة المسلمين الطاعة ،
وتكون المعصية منغمرة في جنب ذلك ليس لها ظهور ولا فشو ، فقد قيل للرسول صلى
الله عليه وسلم : « أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ! إذا كَثُر الخبث » [9]
، ولذلك فإن من أهم ما يستحق العناية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقوم
بذلك الأفراد والهيئات والدول ، فإن طاعة الله تعالى من أهم ما يجلب للمؤمنين
نصره ، وللكافرين الهزيمة والخذلان ؛ ومنها : إعداد العدة المستطاعة لمنازلة
العدو ؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والإسلام لم يطلب منا أن نعد العدة
الكاملة القادرة على مواجهة الكفار ، ولكن طلب منا أن نبذل جهدنا واستطاعتنا ،
فقال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة }
( الأنفال : 60 ) ، وذلك أن النصر من عند الله وليس من عند أنفسنا وليس من
سلاحنا . ومنها : ترك الوهن والضعف والتخاذل الذي يقضي على كل همّة ، ويجلب
الذل والهزيمة في ميادين الجهاد ، وترك الحزن الذي يستحكم في النفوس فيحيلها
إلى نفوس هامدة قابعة ليس لها قدرة على المواجهة ، قال تعالى بعد هزمية
المسلمين في أُحد مسلياً لهم ومحرضاً لهم على الثبات : { وَلاَ تَهِنُوا
وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل
عمران : 139 ) . ومنها : اليقين بأن تسلط الكفار على المسلمين لن يدوم ، وإنما
هذا ابتلاء من الله ، وأن الأيام يداولها الله بين الناس ، وأن على المسلمين أن
يأخذوا بأسباب التغيير التي تغير الأوضاع التي بها تمكن الكفار منهم ، قال الله
تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) . ومنها : اليقين بما وعد الله عباده
المؤمنين ، ومن ثم العمل على تحقيق الوعد ، قال الله تعالى : { وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } ( النور : 55 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها
ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » [10] .
وقال : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا
وبر ، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به
الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر » [11] .
نسأل الله من فضله أن يجعل ذلك قريباً ، وأن يوفقنا للعمل بالأسباب التي تجعل
الدولة للمسلمين على الكافرين .
________________________
(1) رواه البخاري ، كتاب المناقب ، رقم 3343 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ ، 1/6 .
(3) سير أعلام النبلاء 1/240 .
(4) انظر تفسير ابن جرير الطبري ، 2/624 ، 10/38 .
(5) زاد المسير في علم التفسير ، لابن الجوزي ، 1/466 .
(6) تفسير القرطبي ، 4/ 218 .
(7) انظر : زاد المعاد ، لابن قيم الجوزية ، ففيه المزيد من الحكم في هذا الباب
.
(8) تفسير ابن كثير ، 1/440 .
(9) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، رقم 3097 ، و مسلم كتاب الفتن
وأشراط الساعة ، رقم 5128 .
(10) أخرجه مسلم ، كتاب الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم 5144 .
(11) أخرجه أحمد ، مسند الشاميين ، حديث رقم 16344 .