|
لم يكن صعود الإخوان المسلمين في الانتخابات الأخيرة بمصر يمثل في نظري أية
مفاجأة، ذلك أنهم كانوا هم الفصيل الوحيد الذي يمثل الإسلام في الانتخابات
ويرفع رايته.
إن انتخاب جماهير الشعب العريضة لمرشحيهم هو في حقيقته اختيار للإسلام دين
الأغلبية من الشعب المصري، وهذه النتيجة متوقعة لكل من يرفع بصدق راية
الإسلام، في أي مجتمع غالبيته ممن يدينون بهذا الدين القويم.
وإذا كانت هناك مفاجأة حقيقية في الانتخابات فهي في عدم حدوث التزوير الكلي
في الانتخابات، بالأساليب التي أتقنها كثير من المشتغلين بالسياسة لعدة عقود،
حتى ألفها الناس وظلوا يمارسونها وكأنها من الأعمال الاعتيادية، ولاشك أن كل
مسلم-وأنا واحد منهم-أسعده هذا الصعود لجماعة الإخوان، وحصولها على ما حصلت
عليه من مقاعد، بغض النظر عن الموافقة أو المخالفة لبعض المنطلقات الفقهية
والفكرية لسلوك هذا السبيل.
ويتساءل كثير من المتابعين عن السر فيما حصل، فالإخوان هم الإخوان، لم يطرأ
تغيير جوهري على أفكارهم أو أدائهم يسمح بحصول هذه النتيجة، وكذلك الشعب هو
الشعب وموقفه من الدين لم يتغير تغييرا جذريا أيضا، فهو لم يكن شعبا علمانيا
ثم انحاز مؤخرا للإسلام، بل إنه منذ أن منَّ الله عليه بدخول الإسلام، وهو
يمثل قلعة من قلاعه على مدى التاريخ، فما الذي حصل إذن؟
هناك العديد من التصورات في تفسير ذلك :
- فهناك من يرى أن هذا الصعود إنما سمح به من أجل إخافة أمريكا ومن ورائها
العالم الغربي، من أن الإصلاحات السياسية التي ينادون بها أو يضغطون لإقرارها،
لن تأتي بالليبراليين أو من ينظر إليهم على أنهم رجالات الغرب والتغريب كما
يأملون، ولن تأتي إلا بالإسلاميين إلى الحكم، وهو ما يعبر عنه بـ"فزاعة"
الإسلاميين، ويكون السماح بهذا الصعود في إطار الصراع بين الفكرتين، كل يحاول
أن يدعم نظريته، ولا شك أن النظرية الأخيرة قد تبين صوابها، وأن أية انتخابات
نزيهة وصادقة لن ترفع إلا الإسلاميين، بينما لن يكون لدعاة التغرب والليبرالية
أي إنجاز يذكر.
الأمر الذي قد يدفع الأمريكيين وحلفاءهم إلى تخفيف الضغط على الأنظمة، والرضا
ببعض الإصلاحات الشكلية، التي لا تؤثر على استقرار الأنظمة، ولا تسمح بوصول
الإسلاميين إلى السلطة، ريثما تعيد الأنظمة حساباتها، وتتمكن من تقوية الصف
الثاني ليحل محلها في قشرة (ديمقراطية) وهذا ما بدأ يتحدث به بعض الساسة
والمفكرين في أمريكا، ويدعون إليه.
- وهناك من يرى أن النظام يبحث عن شرعية ضرورية لتوريث الحكم،
وهذه الشرعية يمكن الحصول عليها من خلال شرعية الإخوان المسلمين أكبر قوة
شعبية سياسية على الساحة، وهي قوة –كما يرى هذا الرأي-سبق اختبار مرونتها جيدا
في العمل السياسي، وقابليتها للأخذ و العطاء، أي باللغة السياسية (براجماتية)،
من أجل ذلك سمح بوصول عدد من أعضاء الإخوان إلى المجلس، تمهيدا لعملية
التوريث.
لكن إذا كان هذا هو تصور من سمح بوصول الإخوان إلى هذا المستوى من التمثيل،
فقد يكون من الصعب على الإخوان الموافقة على هذه الصفقة التي تفقدهم كثيرا من
تعاطف الناس معهم، لأنها تجعلهم شركاء مع من ظلوا يعارضونهم لعقود طويلة
ويصفونهم بالفساد.
كما أن هذا التصور قد يفهم منه أن التطورات الحادثة في البلاد العربية هي
نتيجة حسابات داخلية، وليست نتيجة التجاوب مع أجندة خارجية، وهذا ما لا يؤيده
كثير من القرارات أو التصرفات في كثير من بلاد المسلمين.
بل هو أبعد ما يكون عن الواقع خاصة في تلك الظروف التي تولت أمريكا فيها
بالفعل زمام الأمر في العالم كله، بحيث أصبحت تملي إرادتها على أغلب دول
العالم، والتي أصبح كثير من الزعماء والحكام يعرضون خدماتهم عليها، ويقدمون
أنفسهم على أنهم أنسب من يكون للتحالف معها، لذا فليس من المتصور أن يكون ما
حدث بعيدا عن سياسة الإملاءات التي تتبعها أمريكا مع من يسير في فلكها من
الأنظمة.
إن من الأمور التي ينبغي أن تصل لدرجة اليقين عند المسلم أن أمريكا عندما نادت
بالإصلاح المزعوم في الشرق الأوسط، لم تكن تريد بذلك مصلحة شعوب المنطقة
وتحقيق احتياجاتها وأمنها، وإلا فأين كانت منذ ما يقرب من ستين عاما وهي تدعم
الاستبداد وتقف معه في خندق واحد، وإنما كانت دوما دونما مراء ولا جدل تبحث
عما فيه مصلحتها أولا، بغض النظر عن مصالح الشعوب التي تنفذ أمريكا فيها
خططها.
إن مشاريع الإدارة الأمريكية تصب كلها في تغيير وجه الشرق الأوسط ووجهته
لتكون له وجهة جديدة تستبطن كل القيم والمفاهيم الليبرالية، حتى لو كان من
وراء مظهر إسلامي، أي سحنته سحنة عربية بينما قلبه وتوجهه إلى أمريكا، فيولي
وجهه شطر البيت الأبيض بينما يولي ظهره تجاه الكعبة المشرفة، إن وصول إسلاميين
إلى الحكم ينطوي على تهديد للمصالح الأمريكية، ذلك أن الحكم الإسلامي يتمتع
باستقلالية، في حين أن الحكومات الأخرى لا تتمتع بذلك في علاقتها بأمريكا أو
بغيرها من القوى الضاغطة، والتي غالبا ما تتسم بالتبعية، وهذا ما يدعو إلى
البحث عن الدوافع الأمريكية وراء ذلك وماذا تكون خطتها أو تخطيطها لمثل هذه
الأحداث.
قد تكون أولوية أمريكا الآن هي استقرار الحياة السياسية في مصر، ووجود حكومة-لا
يشترط بالضرورة تعبيرها عن أماني وتطلعات الشعب المصري-بقدر كونها لا تضر
بالمصالح الأمريكية في المنطقة، وتحافظ على أمن الدولة الصهيونية، وقد تكون
الخطة الأمريكية المقبلة لتحقيق ذلك بعدما تبين لها-من محاولة جس النبض التي
قامت بها أو وافقت عليها-أن المجتمعات الإسلامية رغم كل ما مر بها، من تجارب
وما تعرضت له محن وآلام، ما زالت في مجملها بخير وعافية،لم تستول عليها اللوثات
الفكرية أو الصرعات التحريفية حتى الآن، وأنها راغبة في الخيار الإسلامي، تلبي
دعوة من يدعوها إليه، فقد تعمد إلى أحد هذه الأمور :
1- إفساد البيت الإسلامي من داخله أو محاولة
تفجيره :وذلك عن طريق السماح للإخوان بالوصول إلى الحكم عن طريق المشاركة أو
الائتلاف (من غير السماح بالتفرد وتحقيق الأغلبية المطلقة)، والذي لن يتمكن
الإخوان من خلاله من تنفيذ ما ينتظره الناخب المسلم، مما يوجد حالة من
الاختلاف عليهم في الشارع الإسلامي نظرا للمساومات والتنازلات التي تمليها
طبيعة الائتلاف، ويصير مآله في النهاية كأي حزب معارض فقد بوصلته الإسلامية،
في الوقت الذي سوف يختلف معهم كثير من الإسلاميين الذين لن يقبلوا بهذه
التنازلات، ويعدوها متاجرة بالدين، وهو ما يعني تفجير البيت من داخله، لاسيما
أن حالة الائتلاف قد تجعلهم يدافعون عن سياسات لا يقبلونها، أو على الأقل لا
يعارضونها-بحكم كونهم شركاء-بعد أن كانوا يعارضونها وهم على كراسي المعارضة،
وهذا ما يؤدي إلى تشرذم الشارع الإسلامي وتفتته، وتنافسه فيما بينه مما قد
يؤدي إلى هزيمة الجميع، وهذا وإن كان واردا ومعمولا به في مراحل سابقة، لكنه
يبدو أنه غير مناسب لتلك المرحلة.
2- إبطاء وتيرة الإصلاح مع عدم إيقافها، ودعم
التيارات الليبرالية، التي تقبل بالتبعية وتحقيق الأجندة الأمريكية وضمان
مصالحها، إلى أن يتم تغريب المجتمعات الإسلامية وإفساد فطرتها وإغراقها في
الفساد والانحلال، وإلى أن يقوى عود التيار الليبرالي ويشتد ويصبح قادرا على
منافسة الإسلاميين وهزيمتهم، وحينئذ تتسارع وتيرة ما يسمى بـ(الإصلاحات)، ويصل
الليبراليون إلى حكم البلاد الإسلامية، ويصير هذا هو الخيار الديمقراطي الذي
لن تقبل أمريكا بالخروج أو محاولة الانقلاب عليه، ولهذا التصور دعاة ومنظرون
في أمريكا، يرون أن الحركات الإسلامية، وإن ادّعت إيمانها بالإصلاح
الديمقراطي، إلا أنها ليست قوى ديمقراطية، وبالتالي، فمن الخطورة بمكان
السماح بإدماجها في العملية السياسية في العالم العربي، لأنها إن أصبحت
فاعلا سياسيا رئيسا، قد تنقلب ضد قواعد اللُّـعبة الديمقراطية نفسها، فإذا لم
تكن الشعوب قد وصلت إلى الحد الذي يسمح لها باختيار التيار الليبرالي، فإن
وتيرة الدعوة إلى الإصلاح لا بد من إبطائها والتغاضي عما يحدث من تجاوزات، إلى
حين يتمكن الليبراليون من كسب الجولة
3- اختبار التيار الإسلامي ومدى توافقه مع خيار
تحديث أو تطوير الإسلام (تجديد الخطاب الديني-الإسلام الليبرالي) وذلك عن طريق
السماح للتيار الإسلامي ممثلا في الإخوان المسلمين بالمشاركة في الحكم،
واستلام بعض الوزارات الخدمية بعيدا عن الوزارات الهامة، مثل الخارجية أو
الداخلية أو الاقتصاد أو الدفاع أو التعليم، للنظر في كيفية الأداء والقدرة
على التوافق مع القيم الليبرالية.
وتعد هذه بمثابة التجربة فإن نجحت، فإن المنتظر أن يسمح لهم بتكوين حزب سياسي
وبمشاركة أعظم في المرة القادمة، وربما بالوصول إلى الحكم منفردين مثلما حدث
في تركيا، لأن التغيير إذا حدث في ظل وجود حزب يرفع راية الإسلام يكون من وجهة
نظرهم أدعى لثبات التغييرات وديمومتها، وهناك إشارات في كلام بعض الساسة
والمفكرين في أمريكا يستفاد منها هذا التصور، فقد ذكرت كوندا ليزا رايس وزيرة
الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة لا تخشى وصول تيارات إسلامية معتدلة
إلى السلطة إذا تم هذا الوصول بالوسائل الديموقراطية، كما ذكرت إليزابيث تشيني
كبيرة نواب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكي للشرق الأوسط إنها لا تستبعد فتح
حوار مع أي فصيل سياسي إسلامي، طالما أن نشاطهم لا يتعارض مع المبادئ
الأمريكية الأساسية، ومن الإشارات الواضحة في هذا الشأن ما أعلنه مساعد
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية آدم اريلي عندما أشاد بالانتخابات في مصر
وذكر أن فوز مجموعات من المستقلين (في إشارة إلى الإخوان) سيكون له تأثير كبير
في الحياة السياسية في مصر التي تمثل الحليف الأبرز للولايات المتحدة في
المنطقة، وقد قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت :سيكون
من الخطأ استبعاد الأحزاب الإسلامية على أساس الافتراض بأنها غير ديمقراطية
بصورة متأصلة أو أنها تميل إلى العنف، وأضافت أنه ينبغي للولايات المتحدة ألا
تؤيد إصلاحات صورية وتواصل إبعاد المعارضة الإسلامية القوية في العالم العربي،
وقول مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الأسبق جيمس وولسي لا ضرر من
وصول إسلاميين إلى السلطة ما داموا يقبلون بالتداول السلمي له.
وهنا نحن نكون بإزاء توجهين في السياسة الأمريكية لكل منهما دعاته، لكن
الخيار الثاني هو الأقرب -فيما يبدو لي-؛ وأن أمريكا تراهن على نجاح ذلك
الخيار على أساس أنه السبيل الوحيد للقضاء على ما يسمونه إرهابا، عن طريق
إقتاع الكثيرين بترك خيار الجهاد في مقابل السماح بالخيار السياسي، وذلك لأمور
ثلاثة :
1- فأمريكا قد جربت دعم الأنظمة الاستبدادية ولم
تجن من وراء ذلك كل ما تريد، وظهرت لها تحديات عظيمة من العداوات المتأصلة من
جانب المسلمين، والفصيل الجهادي على وجه الخصوص، لم تفلح تلك الأنظمة رغم
استبدادها في كبح جماحها.
2- ما تعرضت له حملتها العسكرية على العراق من
تعثر شديد جدا، لم يكن في الحسبان، مما جعل خيار الحسم العسكري في تغيير
الأنظمة ورسم خارطة الشرق الأوسط من جديد، يتراجع بشكل كبير في ظل تفاقم
الخسائر المادية والمعنوية.
3- أن الإدارة الأمريكية قد تكون أدركت بشكل جيد
دور مصر وريادتها، وأن أي تغيير يراد إحداثه في العالم العربي والإسلامي ينبغي
أن يمر من البوابة المصرية.
لكن كيف يتم اختبار التيار الإسلامي والتأكد من قبوله للقيم الليبرالية
والديمقراطية؟
هناك الكثير من القضايا الساخنة التي يمكن من خلالها قياس أداء الإخوان
وإمكانية توافقهم مع المشروع الأمريكي :فمن ذلك قضية المرأة والموقف من
تمكينها ومدى التجاوب مع ما ورد في قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالمرأة
والتي في مجملها مغايرة بل مناقضة للأحكام الشرعية.
وهناك قضية الأقليات الدينية كالنصارى، والفرق المنتسبة للإسلام اسما
كالعلمانيين والليبراليين، ومدى قبولهم في المشاركة بفاعلية مؤثرة في الحياة
السياسية.
وهناك قضية بل هي أم القضايا وهي أمن دولة اليهود وبقاؤها واستمرارها وإقامة
العلاقات وتطبيعها معها.
وهناك قضية تعديل بعض فقرات الدستور لتخفيف قبضة المادة الثانية التي تنص على
أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وهي وإن كانت لم تفعل حتى الآن،
لكن المطلوب إجراء تحوير فيها أو حتى إلغاؤها كلية، وغير ذلك من القضايا
المهمة.
وكل هذه قضايا رئيسة ومهمة، وعلى مدى تعامل الإخوان معها سوف يتم تقويمهم من
كلا الجانبين من أمريكا، ومن التيار الإسلامي المتعاطف معها، وكل منهم يريد من
الإخوان أن يحقق رغبته وطموحاته من وراء وصولهم، فإلى أي الرغبتين ينحاز
الإخوان؟
إن المكسب الحقيقي الذي نسعى إليه جميعا ليس هو كسب مقاعد البرلمان أو حتى تبوؤ
سدة الحكم، ولكن المكسب الحقيقي هو الحفاظ على الدين وعدم المساس به، أو
السماح بالتخلي عن بعض أحكامه، فإذا أمكننا أن نصل إلى الحكم مع المحافظة على
الدين فذلك غاية المرام، أما إذا تعارض الأمران ولم يمكن الإمساك بأحدهما إلا
بالتخلي عن الآخر أو أجزاء منه، فإن المحافظة على الدين هو المقدم بلا جدال.
إن كثيرا من الأحزاب الحاكمة في بلاد المسلمين لم تستطع أن تضمن حريات الشعب
أو أن تحافظ على كرامة المواطن وتلك جملة يطول تفصيلها، وهذا يقودنا إلى القول
بأن إبرام الاتفاقات مع هذا الحزب أو ذاك على طريقة (اترك لي كذا، وأترك لك
كذا) من منطلق كونه حزب الأغلبية بقصد الحصول على بعض المكاسب، فإضافة إلى أن
هذا السلوك منهي عنه بقوله تعالى :"ودوا لو تدهن فيدهنون" فإن أمده قصير وإن
طال، وسوف يفقد الجماعة صدقها ونزاهتها.
وإذا كانت هناك فترات كان وضع الجماعة فيها ضعيفا، وكانت تبحث لها عن موضع
قدم، ولم يكن الشارع يشعر أو يكترث بأدائها سلبا أو إيجابا، فإن الوضع اليوم
قد اختلف حيث الحصول على هذا العدد غير المسبوق من النواب، مما سوف يشعر الشعب
بمواقف الجماعة هل هي مواقف إيجابية وانحياز لجانب الحق والحقيقة، ومن ثم
يؤيدها ويقف معها، أم هي مواقف سياسية تحسب فيها المكاسب والخسارة قبل أي شيء
آخر، مما يعجل بسقوطها ورجوعها إلى الظل مرة أخرى.
وإني أدعو الله تعالى لإخواننا الدعاة إلى الله والعاملين للإسلام في مشارق
الأرض ومغاربها أن يوفقهم ويعينهم، وأن يثبتوا على الحق فهو الأبقى وإن طال
الطريق.