متابعات
عفواً ... يا فضيلة المفتي الحق خلاف ما ذكرت
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ..
أما بعد .
فقد اطلعت في عدد جريدة الحياة رقم (12325) المنشور بتاريخ 12/7/ 1417هـ ، على
حديث لمفتي مصر أجرته معه الجريدة ، ورغم ما لي من تحفظات على بعض ما جاء في
حديثه السالف ، فإن من كلامه الذي استوقفني أكثر من غيره موضوعين :
الأول : حديثه عن المرتد المدعو (نصر أبو زيد) .
الثاني : حديثه عن إلزام فتوى المفتي للجميع .
لكن الذي أود مناقشته في هذه المقالة هو ما جاء من كلامه في الموضوع الثاني ،
إذ إنني أرى أن الموضوع الأول يظهر فيه وجه الحق لكل من تابع بفهم قضية المذكور
، واطلع على بعضٍ من أقواله ، وحيثيات الحكم الصادر بحقه ، لذا : فإنه لا حاجة
لي هنا في الحديث عنه ، بل أعود إلى الموضوع الثاني الذي قد يلتبس أو تخفى
حقيقته على كثير من الناس .
ولنبدأ بذكر أقوال فضيلته في الموضوع المشار إليه حسبما جاء في الجريدة ، ثم
نتبع ذلك بالمناقشة :
يقول عفا الله عنا وعنه ردّاً على سؤال الجريدة : (كيف ترى إصلاح الخلاف القديم
بين الأزهر ودار الإفتاء ؟ ) ، يقول : (كانت هناك مشكلة في شأن من له حق
الولاية الشرعية على الفتوى في مصر ، وأقول : إن هذه الولاية هي للمفتي وحده
دون منازع ، وفتواه ملزمة ، وإن أخطأ فهو مسؤول أمام الله (سبحانه وتعالى) ،
والعلاقة بين المفتي وشيخ الأزهر متصلة ومتشابكة إلا إن هناك اختصاصاً لكل
منهما ، وشيخ الأزهر على قمة المؤسسة العلمية الأزهرية ، ومن وظائفها : البحث
والاجتهاد ، لكنها لا تصدر فتاوى ، فهذه يصدرها المفتي ؛ لأنه صاحب الحكم
الشرعي والولاية الرسمية على الفتوى) .
ويقول المفتي ردّاً على سؤال الجريدة : (لكن .. ألا ترون أن مثل هذا الخلاف
الذي يمس أموراً حياتية مثل : فوائد المصارف يثير بلبلة لدى الناس ؟ ) .
يقول : (الفتوى الرسمية قالت : إن الفوائد حلال ؛ لأنها مقبولة من الطرفين ،
أما الرأي الآخر ، فكان اجتهاداً ، وتحويله إلى فتوى رغم وجود فتوى رسمية هو
الذي خلق تلك البلبلة ، والرأي الملزم هو ما قال المفتي ، ونحن متمسكون بهذه
الفتوى ، وأؤكد أن كل فتوى صدرت عن دار الإفتاء ملزمة للجميع) انتهى المقصود
منه .
وأبادر إلى القول بأنه ليس من مقصودنا ولا يجوز لأحد أن يظن أننا في هذه
المناقشة نريد الانتصار لشخص من الأشخاص ، إذ المقصود إن شاء الله هو الانتصار
للدين ، وقد حان الآن وقت الشروع في مناقشة تلك الأقوال :
أولاً : إن فتوى المفتي هي إخبار عن أو بيان لحكم
الشرع في القضية المعروضة [1] ، والمفتي في حديثنا هنا هو : من تأهل لهذا
المنصب واستحقه بضوابطه المعروفة ، ولسنا نتحدث عن الأدعياء ، فهؤلاء خارجون عن
حديثنا ، فنقول : لم يَقُمْ الدليل الشرعي على عصمة المفتي فيما يبلغه للناس أو
يبينه من أحكام الشرع ، كما لم يقم الدليل الشرعي على وجوب التزام جميع
المسلمين لما يفتي به ، إذ طبيعة عمل المفتي لا تقتضي ذلك الإلزام ولا توجبه .
يقول القرافي : (المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها ، ويخبر الخلائق
بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص ، إن كان المفتي مجتهداً) [2] ، ثم يبين
أن فتواه ليست ملزمة للجميع ، ويجوز الفتوى بخلافها حتى وإن كان المفتي هو
الإمام الأعظم ، فيقول : (النوع السادس : من تصرفات الحكام : الفتاوى في
الأحكام في العبادات وغيرها من تحريم الأبضاع ، وإباحة الانتفاعة ! ، وطهارة
المياه ، ونجاسة الأعيان ، ووجوب الجهاد ، وغيره من الواجبات ، وليس ذلك بحكم ،
بل لمن لا يعتقد ذلك أن يفتي بخلاف ما أفتى به الحاكم أو الإمام الأعظم) [3] .
وفي هذا المعنى أيضاً يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية) : (وما يجوز أن يحكم به
الحاكم ، يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع ، بل الفتيا أيسر ، فإن الحاكم
يُلزِم ، والمفتي لا يُلزم) [4] .
ويقول الشاطبي : (المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا إنه لا
يُلزمه المفتي ما أفتاه به) [5] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في بيان ذلك : (قد ثبت بالكتاب والسنة
والإجماع أن الله (سبحانه وتعالى) فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله - صلى الله
عليه وسلم- ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى
عنه إلا رسول -صلى الله عليه وسلم- ، حتى كان صدِّيق الأمة وأفضلها بعد نبيه
يقول : (أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) [6] [7] .
من كل ما تقدم وغيره يتبين أن قول القائل : إن كل فتوى صدرت عن دار الإفتاء ،
أو عن المفتي ، أو عن فلان ، هى فتوى ملزمة للجميع .. هو قول بيِّن الخطأ .
ثانياً : أن المسلم لا يلزمه أن يقتصر في طلب
الفتوى على مفتٍ واحد ، بل له أن يستفتي فيما ينزل به أكثر من مفتٍ ممن يثق في
علمهم ودينهم و (اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان) [8] وإذا
اختلفت فتوى المفتين عليه ، أخذ من تلك الفتاوى ما ترجح لديه منها بحسب قدرته .
يقول ابن تيمية في بيان ذلك : (وأما تقليد المستفتي للمفتي ، فالذي عليه الأئمة
الأربعة ، وسائر أئمة العلم : أنه ليس على أحد ولا شُرع له التزام قول شخص معين
في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لكن منهم
من يقول : على المستفتي أن يقلد الأعلم الأورع ممن يمكن استفتاؤه ، ومنهم من
يقول : بل يخير بين المفتين ، [و] إذا كان له نوع تمييز فقد قيل : يتبع أي
القولين أرجح عنده بحسب تمييزه ، فإن هذا أولى من التخيير المطلق ، وقيل : لا
يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد ، والأول أشبه ؛ فإذا ترجح عند المستفتي أحد
القولين : إما لرجحان دليله بحسب تمييزه ، وإما لكون قائله أعلم وأورع : فله
ذلك وإن خالف قوله المذهب) [9] .
ويقول ابن القيم : (فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر ، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال ، أو
بأخفها ، أو يتخير ، أو يأخذ بقول الأعلم ، أو الأورع ، أو يعدل إلى مفتٍ آخر ،
فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها ، أو يجب عليه أن
يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه ؟ ، فيه سبعة مذاهب ، أرجحها السابع) [10] .
ولم يكن من هدي السلف الصالح استفتاء عالم بعينه دون نظرائه من العلماء ،
والتزام أقواله كلها بحيث لا يخرج عنها ، فإن ذلك من البدع الحوادث ، كما ذكره
ابن القيم [11] ، وابن عبد البر [12] ، وابن حزم [13] ، والشاطبي [14] ، وولي
الله الدهلوي [15] ، والفُلاني [16] ، وسند بن عنان المالكي [17] ، ومحمد حياة
السندي [18] ، والشوكاني [19] .
ومن هنا يتضح أن قول القائل : إن الولاية على الفتوى هي للمفتي وحده دون منازع
، وأن فتواه ملزمة هو تجنٍّ على الحق وتجاوز للحد ، وادعاء ما أنزل الله به من
سلطان .
ثالثاً : أن الفتوى ليست حكراً على طائفة معينة
أو فرد ما ، بل كل من استجمع شرائط الفتوى المعتد بها ، حُقّ له أن يخبر عن
أحكام الشرع ؛ إذ الإخبار عن أحكام الشرع وبيانها للناس هو من فروض الكفايات ،
وليس لأحد أن يحصر الفتوى في فرد أو طائفة بحيث لا تصدر الفتوى إلا منه أو منهم
، ويمنع من الفتوى من هو مثلهم ممن تتحقق فيه شروط الفتوى ، أخرج الدارمي في
سننه من حديث أبي كثير مالك بن مرثد أنه قال : (أتيت أبا ذر وهو جالس عند
الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال :
ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ ، فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليّ ، لو وضعتم
الصّمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) [20] .
قال ابن حجر (رحمه الله) : (إن الذي خاطبه رجل من قريش ، وإن الذي نهاه عن
الفتيا عثمان (رضي الله عنه) ، وكان سبب ذلك : أنه كان بالشام ، فاختلف مع
معاوية في تأويل قوله (تعالى) : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ } [التوبة : 34] ، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وقال
أبو ذر : نزلت فيهم وفينا ، فكتب معاوية إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ، فحصلت
منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الرّبَذَة (بفتح الراء والموحدة
والذال المعجمة) إلى أن مات ، رواه النسائي ، وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا
يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا ؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه ؛ لأمر
النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبليغ عنه كما تقدم ، ولعله أيضا سمع الوعيد في
حق من كتم علماً يعلمه) [21] .
ويبين شيخ الإسلام (رحمه الله) الحالة التي يمنع فيها العالم من الفتوى بقوله :
(وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين ، بل يبين له أنه أخطأ ، فإن بين
له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع ، بل
أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك ، وجب أن يُمنع من ذلك ،
ويعاقب إن لم يمتنع ، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته
باتفاق المسلمين ، ولا مَنْعه من ذلك القول ، ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا
كان يقول : إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء
المسلمين) [22] .
رابعاً : أن المفتي قد خلط في حديثه ذاك بين
الفتوى والقضاء ، إذ كثيراً ما يختلط هذا بذاك على العوام أو غير المتخصصين ،
فكان خلطه في ذلك من ثلاثة وجوه :
الأول : عده الفتوى ولاية من الولايات الشرعية ، وهذه في القضاء وليست في
الفتوى .
الثاني : قوله بلزوم كل ما صدر عن دار الإفتاء للجميع ، وهذا فيما صدر عن
القاضي أو الحاكم في قضايا الأعيان .
الثالث : جعله المفتي مفتقراً لكونه مفتياً إلى إسناد هذا الأمر إليه من ولي
الأمر ، وهذا في القضاء .
ولتفصيل هذا الاختلاط الواقع في الحديث عن الفتوى نقول :
1- إن الفتوى ليست ولاية من الولايات الشرعية ،
وإنما الذي يقال في حقه إنه ولاية مما يمكن أن يشتبه أمره على العوام أو غير
المتخصصين إنما هو القضاء ، وقد عدد الماوردي في (الأحكام السلطانية) وكذلك أبو
يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) الولايات ، فذكر كل واحد منهما
القضاء فيما ذكرا من الولايات ، ولم يذكر واحد منهم الفتوى ، وكذلك عَدّ
القرافي في كتابه (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي
والإمام) الولايات ، وقسمها إلى خمسة عشر قسماً ، وذكر فيها القضاء ، ولم يذكر
فيها الإفتاء ، وقد ذكر أيضاً شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه (السياسة
الشرعية) كثيراً من الولايات ، وتحدث عن أحكامها ، فذكر منها القضاء ولم يذكر
الإفتاء ، وبالجملة : فلست أعلم أحداً ممن يُعتد به ذكر (الإفتاء) ضمن الولايات
.
2- إن القول الملزم إنما هو للقاضي أو الحاكم
(والقاضي والحاكم لفظان مترادفان في اصطلاح الفقهاء) والمفتي إنما له الإخبار ،
ف (المفتي مخبر محض ، والحاكم منفذ وممضٍ) [23] .
وقال علاء الدين الطرابلسي (فحقيقة القضاء : الإخبار عن حكم شرعي على سبيل
الإلزام ، ومعنى قولهم : (قضى القاضي) ، أي : ألزم الحق أهله) [24] وقال ابن
الشحنة الحنفي : (القضاء في اللغة عبارة عن اللزوم ، ولهذا سمي القاضي قاضياً ؛
لأنه يلزم الناس ، وفي الشرع يراد بالقضاء : فصل الخصومات وقطع المنازعات) [25]
.
وقال ابن القيم فيما نقله عن أبي عثمان الحداد : (القاضي أيسر مأثماً وأقرب إلى
السلامة من الفقيه [يريد المفتي ] ؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من
ساعته بما حضره من القول ، والقاضي شأنه الأناة والتثبت ، ومن تأنى وتثبت تهيأ
له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة) انتهى .
يقول ابن القيم معقباً : (وقال غيره : المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي ؛
لأنه لا يلزم بفتواه ، وإنما يخبر بها من استفتاه ، فإن شاء قبل قوله ، وإن شاء
تركه ، وأما القاضي فإنه يلزم بقوله ، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم ،
ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء ، فهو من هذا الوجه خطره أشد) [26] .
والشاهد فيه : قوله عن المفتي : إنه (لا يُلزم بفتواه) ، وقوله عن القاضي :
إنه (يلزم بقوله) ، والفتوى أوسع مجالاً من القضاء ، إذ كل ما يقضي فيه القاضي
أو الحاكم يمكن للمفتي أن يفتي فيه ، والعكس ليس بصحيح ، فليس كل ما يفتي فيه
المفتي يمكن أن يقضي فيه القاضي ، يقول ابن القيم تعليقاً على ما نقلناه سابقا
:
(فكلّ خطر على المفتي فهو على القاضي ، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ، ولكن
خطر المفتي أعظم من جهة أخرى ، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره ،
وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله ، فالمفتي يفتي
حكماً عامّاً كليّاً : أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ، ومن قال كذا لزمه كذا ،
والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين ، فقضاؤه خاص مُلزم ، وفتوى العالم
عامة غير ملزمة ، فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير) [27] .
ويقول القرافي في (الفرق بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم) : (اعلم أن العبادات
كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة ، بل الفتيا فقط فكل ما وجد فيها من
الإخبارات فهي فتيا فقط ، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة ،
ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجساً فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله
، بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا ، إن كانت مذهب السامع عمل بها ، وإلا فله
تركها والعمل بمذهبه) [28] .
3- المفتي لا يفتقر في كونه مفتياً إلى جهة تسند
إليه أمر الإفتاء غير تحقق شروط المفتين فيه ، في حين أن القاضي لا يصير قاضياً
بتحقق شروط القضاء فيه حتى يُسنِد إليه أمر القضاء من له الحق في ذلك الإسناد ،
وهو الخليفة أو من يقوم مقامه ، يقول الماوردي : (ولو اتفق أهل بلدٍ قد خلا من
قاضٍ على أن قلدوا عليهم قاضياً ، فإن كان إمام الوقت موجوداً بطل التقليد ،
وإن كان مفقوداً صح التقليد ونفذت أحكامه عليهم ، فإن تجدد بعد نظره إمام لم
يستدم النظر إلا بإذنه ، ولم ينقض ما تقدم من حكمه) [29] .
ويقول الشيرازي وبنحوه ابن قدامة الحنبلي وابن الهمام الحنفي : (لا تجوز ولاية
القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام ؛ لأنها من المصالح
العامة) [30] .
والمفتي المتحقق فيه شروط الإفتاء له أن يفتي ولا يفتقر ذلك إلى تعيين من جهة
ما ؛ لأن ذلك من قبيل تبليغ الدين ، وبالتالي : فليست هناك فتوى يقال عنها :
إنها فتوى رسمية ، وأخرى يقال عنها : إنها غير رسمية ، طالما أن الفتوى خرجت
ممن يحق له أن يفتي ، ومعيار الصواب في الفتوى قائم على الالتزام بنصوص الشرع
والإفتاء بها أو بموجبها ، وليس لفتوى امتياز على فتوى أخرى إلا بانضباطها بذلك
المعيار .
خامساً : أن الربا حرام بالنص والإجماع المتيقن ،
لا تُحله فتوى يقال عنها :
إنها رسمية أو غير رسمية ، وكل فتوى خالفت ذلك التحريم فهي فتوى باطلة يحرُم
الإفتاء بها أو العمل بمقتضاها ، وليس ما يقال عنه من فوائد البنوك إلا صورة من
صور الربا المحرم بالنص والإجماع ، وذلك أن حقيقة هذه الفائدة إنما هي (زيادة
اشترطت في رأس المال في مقابل الأجل) [31] (التأخير) ، سواء أكانت الزيادة مما
يعطيها البنك للمودع (المُقرض) أو يأخذها البنك من المقترِض ، فكل ذلك من الربا
الجلي بيقين .
وهذه الصورة المحرمة من صور الربا لا يُحلّها وجود فتوى يقال عنها إنها رسمية
قالت بحلها ، كما لا يُحِلّها القول بأنها معاملة : (مقبولة من الطرفين) ؛ إذ
ليس قبول الطرفين في المعاملات هو الموجب الوحيد للحِل في المعاملات ، فالقمار
حرام ولو كان برضا الطرفين ، والزنا حرام ولو كان برضا الطرفين .. فالرضا وإن
كان معتبراً في المعاملات لكنه لا يحل ما حرم الله ، وهذا واضح لا إشكال فيه .
ومن كل ما تقدم :
يتبين لنا أن كلام المفتي على قصره قد احتوى على كثير من الأمور المخالفة
للشريعة ، من ذلك :
1- قوله إن الإفتاء ولاية .
2- قوله إن المفتي الذي عينه ولي الأمر هو الذي له حق الفتوى دون غيره من أهل
العلم .
3- قوله إن فتوى المفتي ملزمة لكل الناس .
4- خلطه وعدم تفريقه بين الإفتاء والقضاء .
5- قوله بحل فوائد البنوك ، ومخالفته في ذلك للإجماع القطعي لعلماء الأمة
قديماً وحديثاً .
وأخيراً :
فإن هذه الأخطاء الكثيرة الكبيرة المتتابعة ليس من السهل غض الطرف عنها ،
لاسيما وأنها جاءت ممن يتصدر الفتوى .
ولعل هذا الحديث الذي أدلى به فضيلة المفتي كان فرصة للتذكير وتبيين هذه الأمور
، التي أصبحت تخفى على بعض المفتين في هذا العصر .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، وأن
يثقل به موازيننا يوم العرض عليه ، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه ويرينا
الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .
والله من وراء القصد ،
________________________
(1) انظر في تعريف الفتوى : لسان العرب ، 15/147 148 ، والتعريفات ، للجرجاني ،
ص49 ، والموافقات ، للشاطبي ، 4/79 ، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام
وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي ، ص 53 .
(2) الإحكام ، ص 25 .
(3) الإحكام ، ص 91 92 .
(4) مجموع الفتاوى ، 27/303 .
(5) الموافقات ، 4/79 ، وانظر أيضاً : مجموع الفتاوى ، 35/367 ، 385 .
(6) أخرجه ابن إسحاق في السيرة ، وقال فيه ابن كثير : (وهذا إسناد صحيح) ،
السيرة النبوية لابن كثير ، 4/493 .
(7) انظر : الدرة البهية ، ص 26 27 ، أعده وعلق عليه : محمد شاكر الشريف .
(8) انظر : مجموع الفتاوى ، 20 /208 209 .
(9) مجموع الفتاوى ، 33/168 .
(10) إعلام الموقعين ، 4/264 ، والسابع هو : التحري والبحث عن الراجح .
(11) انظر : إعلام الموقعين ، 2/228 .
(12) جامع بيان العلم وفضله ، 2/144 .
(13) الإحكام في أصول الأحكام ، 2/858 .
(14) الاعتصام ، 2/347 355 .
(15) الإنصاف في بيان أسباب الخلاف ، 68 .
(16) إيقاظ همم أولي الأبصار ، ص 74 - 77 .
(17) إيقاظ همم أولي الأبصار ، ص 74 - 77 .
(18) إيقاظ همم أولي الأبصار ، ص 74 - 77 .
(19) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد .
(20) سنن الدارمي ، 1/146 ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به من
أول قوله : (لو وضعتم إلخ) ، فتح الباري ، 1/192 ، والصمصامة : هو السيف الصارم
الذي لا ينثني .
(21) فتح الباري ، 1/194 ، وانظر : مجموع الفتاوى ، 33/133 134 .
(22) انظر : مجموع الفتاوى ، 35/382 - 383 .
(23) القواعد السنية ، بهامش الفروق ، 4/89 .
(24) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام ، ص 7 .
(25) لسان الحكام في معرفة الأحكام ، لابن الشحنة ، ص 218 .
(26) انظر : إعلام الموقعين ، 1/29 - 30 .
(27) إعلام الموقعين ، 1/30 31 .
(28) الفروق ، للقرافي ، 4/48 ، وانظر : مجموع الفتاوى ، 35/357 - 360 .
(29) الأحكام السلطانية ، للماوردي ، ص79 ، وانظر أيضا : الأحكام السلطانية ،
لأبي يعلى الفراء ، ص73 .
(30) انظر : نظام القضاء في الإسلام ، المستشار جمال صادق المرصفاوي ، ص 39 .
(31) انظر : (البديل الإسلامي للفوائد المصرفية الربوية) ، د/ عاشور عبد الجواد
، ص 6 .