|
يقولون إن أصحاب العقول الصغيرة دائما يفكرون في ( الأشخاص ) , وإن أصحاب
العقول المتوسطة دائما يفكرون في ( الأشياء ) و إن أصحاب العقول الكبيرة دائما
يفكرون في ( المبادئ ) وهذا صحيح . والأصح من هذا وذاك أن كل العاملين على
الساحة السياسية المصرية على اختلاف توجهاتهم وميولهم ( يفكرون ) في مصلحة مصر
الدولة والإنسان , ولكن كل بطريقته ومنهجه , وفق قدراته وإمكاناته .
إن حرصنا على مستقبل مصر الدولة والإنسان يجعلنا نطالب هذه الفصائل على اختلاف
توجهاتها وثقلها السياسي أن يفكروا في مستقبل البلاد بما يتناسب مع طبيعة
العصر, و حجم التحديات التي تواجه أمتنا وحضارتنا وهويتنا في المرحلة القادمة .
نطالب كل هذه القوى أن تزيد من تلاحمها أكثر وأكثر مع الرأي العام المصري ,
وتسعى دائما إلى الاستفادة من آرائه , وتوجهاته , وواقعه بحلوة ومره في رسم
سياساتها وتوجهاتها المستقبلية , كما نطالبها بألا تعكف على التخطيط لمستقبل
البلاد تخطيطا نخبويا في الغرف المغلقة بعيدا عن فقه الواقع الذي لو غاب عن ذهن
السياسي لكان هذا هو بداية الفشل . و في ظل طرق ( التفكير ) الثلاث السالفة
الذكر دعونا نلقي الضوء عما تحتاجه مصر من كل الفصائل العاملة على الساحة
المصرية في المرحلة القادمة .
إن الرأي العام المصري – وهو مؤثر معتبر – يؤمن بأن الخروج من أزمات مصر
الحالية , لا يتطلب من أي من فصائل العمل السياسي المصرية على المدى القريب أو
البعيد أن يفكروا في الأشخاص أو يعولوا عليها كثيرا , فالقضية ليست في من يحكم
؟ أومن ينوب ؟ أومن يبقى ؟ أومن يرحل ؟ وليست القضية في تغيير حزب مكان حزب ,
أو تغيير محافظ هنا , أو تغيير وزير هناك , أو حتى تغيير رئيس الوزراء , أو حتى
تغيير رئيس الجمهورية . فكل ذلك لن يعالج الواقع ولن يساهم في إحداث النهضة
المرجوة . وإذا كان هذه هو تفكيرنا , أو ما يشغل أي من الفصائل المصرية , فان
الرأي العام سرعان ما سيصنف هذا الفصيل ويضعه في خانة أصحاب العقول الصغيرة
.وكما نعلم فان أصحاب العقول الصغيرة لا يليق بهم أن يحكموا دولة عظيمة بحجم
مصر . وهذا لا يليق بأي من هذه الفصائل المصرية الأصيلة .
كما ويؤمن الرأي العام المصري بأن الخروج من أزماتنا الحالية , و بناء التصور
المشرق لمصر لكي ترتقي مكانتها التي تليق بها كأمة عظيمة لا يحتاج منا أن نحصر
تفكيرنا فقط في ( الأشياء ) من حولنا , فالأشياء التي وهبنا الله تعالى إياها
عن طريق الجغرافيا والتاريخ مثل ( الثروات الطبيعية , والموقع الممتاز , وقناة
السويس , ونهر النيل , والسياحة , والمكانة التاريخية , والإنسان المصري , إلى
آخر هذه الهبات ) وحدها لا يمكن الاعتماد عليها , ولا يمكن لها منفردة أن تحل
لنا مشكلة أو تجلب لنا مجدًا , فلا يجب أن نعول عليها وحدها كثيرا , حتى لا
يضعنا الرأي العام في خانة أصحاب العقول المتوسطة , وهذا ما لا يليق بنا أيضا .
اللائق بنا كمصريين أن نكون كعادتنا من أصحاب العقول الكبيرة . اللائق بنا أن
نفكر في المبادئ قبل ( الأشخاص ) أو ( الأشياء ) , اللائق بنا أن نقف لنعترف في
جلاء ووضوح بأن تغيير الأشخاص مهما كانت كفاءاتهم , ومهاراتهم , وحنكتهم
السياسية وحده لن يحل مشاكلنا , ولا ( الأشياء ) التي هي هبات الجغرافيا
والتاريخ وحدها ستخرج البلاد من عنق الزجاجة دون أن يكون هناك مجموعة من
الثوابت المتينة , والمؤسسات القوية , والمبادئ السياسية والقانونية الراسخة
والتي تهدف إلى تنظيم حياة ( الأشخاص ) مهما كانت مواقعهم ومناصبهم وتحريكهم من
أجل استغلال ( الأشياء ) لصالح مصر الدولة والإنسان , وليس التفكير في المجيء (
بأشخاص) يتلاعبون ( بالمبادئ ) والقواعد والمؤسسات العامة للدولة من أجل
استغلال ( الأشياء ) لصالح فئة محدودة على حساب بقية فئات المجتمع .
ولأننا - أعني الرأي العام المصري - من أصحاب العقول الكبيرة , فإننا نتوق إلى
أن تنتقل كل فصائل العمل السياسي المصرية من مرحلة التفكير في ( الأشخاص ) أو (
الأشياء ) إلى مرحلة التفكير في ( المبادئ ) . إننا نتوق إلى أن تحكم مصر في
الفترة القادمة بالمبادئ والقانون كما هو الحال في معظم دول العالم المتقدم .
نتوق إلى أن تتحول مصر من دولة الحزب الواحد إلى دولة المؤسسات القوية , من
دولة القوة إلى دولة الشرعية , ومن دولة الأشخاص، إلى دولة الدستور , ومن دولة
الولاء الشخصي ، إلى دولة الموضوعية القانونية , ومن دولة تحرس مصالح الطبقة
المسيطرة اقتصادياً ، إلى دولة تحرس مصالح كلّ الطبقات المشكلة للمجتمع بلا
تفريق أو تمييز . عندها
نصبح من أصحاب العقول الكبيرة .