|
من الأشجار المعروفة في بلاد الصين
أشجار البامبو
, وهي أشجار عجيبة تحمل قصة نموها ما يدعونا للتأمل والتفكر . فمن طبيعة أشجار
البامبو أنها - وبعد بذر البذور في التربة - تظل لمدة أربع سنوات تقريباً لا
ينبت منها سوى برعماً صغيراً يبزغ فوق سطح الأرض على استحياء . خلال كل هذه
السنوات توجه شجرة البامبو كل طاقاتها إلى هدف واحد : وهو توطيد جذورها ,
وتثبيت أساسها في التربة . إذ تظل الشجرة طيلة هذه المدة تضرب بجذورها الليفية
المتينة في التربة , وما أن يدخل
العام الخامس
حتى تبدأ شجرة البامبو- فجأة - في النمو السريع فوق سطح الأرض , حتى أن طولها
قد يصل في العام الخامس إلى ما يزيد عن 7 أمتار, ولكن ليس قبل أن يقوى الأساس ,
وتتجذر الجذور في التربة الصلبة .
إن
فلسفة شجرة البامبو
وأسلوبها الذي وهبها الله إياه , يدعونا للنظر في الأسلوب الذي تنتهجه بعض
القوى التغيرية
في مجتمعاتنا . فمن تلك القوى من يهدف إلى إحداث تغييرات سريعة في المجتمع من
بوابة الإطاحة بالحكومات أو تغييرها بالقوة المسلحة , وانتهاج سياسة العنف في
التغيير . ولقد ثبت لا يدع مجالا للشك أن التغيرات السريعة خطر ساحق على الشعوب
, والفكر الذي يفرض بالقوة لا يعيش طويلا .
إن تغيير , وتجويد , وتحسين, وتطوير الواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا واجب . واجب
يقع في المقام الأول على كاهل الطبقات
المستنيرة في المجتمع
. كما وأن مقاومة ضعف الحكومات الجاثمة على قلوب البلاد والعباد منذ عقود وعقود
حق شرعي لكل من لديه الرؤية لتقويم المعوج وتصحيح المسار . ولكن
فلسفة التغيير , وثقافة مقاومة ظلم , أو
تقصير , أو فشل هذه الحكومات يجب أن تكون بكل الوسائل المتاحة إلا المسدس كما
قال
الأستاذ / حسن دوح
, فميدان المسدس الوحيد هو حين يكون
هناك كفراً معلناً يحارب إيماناً معلناً , مثل الشاخص أمامنا في فلسطين والعراق
. فالمسدس له رسالة واحدة هي دفع العدوان والبغي . أما حين يستخدم هذا
المسدس
في غير الغرض الذي أعد له سوف يكون لا محالة أداة شيطانية لا يعي ما يفعل ؛
ولأنه يمنح صاحبه الحق في قتل من يخالفه وهنا تحدث الفوضى , ويحدث الخلل في
المجتمعات .
إن الواقع يفرض على كل أصحاب الفكر التغيري في مجتمعاتنا - على اختلاف مشاربهم
- وضع
تغيير الشعوب في سلم أولوياتها قبل
الحكومات . فالواقع يفرض علينا جميعا
النزول إلى الناس , الالتحام بواقع حياتهم هنا وهناك . الواقع يفرض علينا أن
نعمل على تغيير العادات , والتقاليد , والأعراف الخاطئة , التي ورثتها تلك
الشعوب من فترات القهر التي مرت بها الأمة , الواقع يفرض علينا العمل على تغيير
تلك العادات بكل تقسيماتها السياسية , والاجتماعية , والاقتصادية ... الخ .
الواقع يفرض علينا أيضا التفاني في تربية الشعوب على القيم الايجابية ومحاربة
كل القيم السلبية التي تسربت إلى حياتهم . الواجب يفرض علينا جميعا العمل على
إعادة تشكيل عقلية مجتمعاتنا الإسلامية,
والتأسي في ذلك برسولنا العظيم - صلى
الله عليه وسلم - الذي لم يتبوأ حكماً ,
ولم يقم دولةً , إلا بعدما صنع أمة .
إننا يجب أن نقف لنعترف أنه لا طائل من تغيير الحكومات , بينما القاعدة العريضة
في المجتمع غير مؤهله ولا معدة للتعاطي مع هذا الفكر الجديد أياً كان هذا الفكر
. لذلك يجب أن يشغلنا جميعاً أحزاب , وحركات , وجماعات إسلامية , ومؤسسات مجتمع
مدني - بل وكل صاحب فكر في هذا المجتمع - هو العمل على تغيير الشعوب أولاً .
فالشعوب أحوج ما تكون إلى جهود كل العاملين على الساحة فإذا ما نجحنا في
العودة إلى أحضان المجتمع
, والالتحام به , ونجحنا في تعبئة الشعوب بالفكر الصالح , فإن صلاح الصالحين
سيهزم فساد الفاسدين . فليكن هدفنا جميعاً هو العمل على إعادة صياغة المجتمع
صياغة صحيحة تنبع من حضارتنا , وتراثنا , وثقافتنا التي نستمدها من ديننا
العظيم .
وهنا يطيب لي أن أختم حديثي بأن أطرح سؤالاً وهو : هل
الحكم وسيلة أم هدف
؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تبرز مفهوماً قد يكون مطموساً أو غائباً عند البعض
, وهو أن الحكم وسيلةٌ وليس هدفاً : وسيلة من اجل صناعة المجتمع الصالح . لذلك
ما يجب أن يشغل بال , وفكر , وعقل كل أصحاب الفكر التغيري في مجتمعاتنا هو أن
ينظروا جميعاً إلى
صناعة المجتمع الصالح
على أنه هدف كبير , هدف يجب أن يشارك في
صناعته كل قوى المجتمع الفاعلة , وكل من لديه رؤية واضحة . وليكن في حسباننا أن
هذا الهدف السامي ( صناعة المجتمع الصالح ) أعظم وأشرف من طلب الحكم ذاته .
فلنركز جهودنا جميعاً في تغيير شعوبنا بتدرج وتؤده وفق ما يتناسب مع عادتنا
وتقاليدنا الإسلامية السامية . وهذا كله يصب في خانة صياغة المجتمع الصالح .
هذا هو الطريق بالرغم من كونه شاقاً وعسيراً . هذا هو الطريق الذي قد لا
تستطيبه بعض النفوس المتعجلة , ولكنه الطريق الصحيح . ولعل هذا ما تعلمناه من
أشجار البامبو العملاقة في سنواتها الأربع الأولى . فلنبدأ , ولنحاول,
ولننتظر جميعاً بكل تفاؤل العام الخامس
الذي يراه البعض بعيداً ونراه قريباً .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com